ترجمة وتحرير نون بوست
في الواقع، مرت سنتين، منذ “أزمة التناتجية” التي كان لصحيفة نيويورك تايمز يد فيها. ففي تقرير نشر في طبعتها بتاريخ 28 من آب/ أغسطس سنة 2015، أوردت الصحيفة أن “علم النفس كان محقا حيال مخاوفه بشأن العلم: حيث تبين أن تلك الدراسات العلمية غير مثبتة”. في الواقع، نشرت مجلة “العلم” في مشروع ذو أهمية تاريخية وبالاعتماد على أحد المبادئ الرئيسية للعلم أو ما يعرف بالتناتجية، حقائق تحيل إلى خضوع 100 دراسة لما يعرف “باستعراض النظراء”. وقد اكتشف العلماء أن 39 دراسة فقط كانت نتائجها ناجحة. عموما، تعتبر هذه النتيجة مخيبة للآمال. وفي هذا الصدد، أوردت صحيفة التايمز، أن هذه النتائج “تؤكد أسوأ مخاوف العلماء، الذين نادوا منذ زمن طويل بوضع أسس وضوابط للبحث العلمي”.
في الأثناء، لم يستغرق الأمر الكثير من الوقت حتى وصلت أخبار هذا الفشل الذريع على مستوى الأبحاث والدراسات إلى وسائل الإعلام اليمنية. وفي هذا الصدد، صرح المنشط الإذاعي راش ليمبو، أن “سكان هذه المدينة فقدوا الثقة في المعاهد التي منحوها لعقود طويلة ثقتهم”. وقد ورد هذا التصريح ضمن حوار حاد حول عدم أمانة النخبة وصعود دونالد ترامب، وقد ترامى إلى مسامع13 مليون متابع.
علاوة على ذلك، أكد راش ليمبو أن للأمريكيين الحق في السخرية من العلم، حيث أفاد “لن تخسر الكثير إذا اعتقدت أن كل ما اطلعت عليه من معلومات علمية في مجلة “ساينس” أو “سيكولوجي توداي” لا يمت للواقع بصلة”. في السياق ذاته، أكد ليمبو أن الأمريكيين يؤمنون أن العلم لا يختلف كثيرا عن السياسة، قائلا: “في كلتا الحالتين، المال من يحدد النتيجة، حيث يمكن شراء النتائج العلمية بالمال”.
يتضاعف الخطر، في حال فسح الصحافيون المجال للاعتقاد بأن العلم قد فقد مقوماته. فاستخدام كلمة “فشل” في التصريحات المناهضة للعلم، سيقود في النهاية إلى “تقويض سمعة العلم”، وسيساهم في خلق “جو إعلامي” خطير
عموما، يتمثل أكثر ما يثير مخاوف العلماء في أن إبراز أي مشكلة تتعلق بمدى انضباطهم، سينعكس سلبا عليهم. فضلا عن ذلك، يخشى العديد من العلماء أن تمنح هذه الأخطاء الحق لأشخاص مثل ليمبو، في أن ينتقدوهم ويسخروا منهم وذلك بهدف المساس برمزية الباحثين، وإرضاء لهوسهم بجمع الأخبار من بحر السياسة والأيديولوجيا. في الواقع، تعتبر هذه المخاوف مبررة، ففي سنة 2015، خلص ليمبو في تصريحه الإذاعي إلى نتيجة خطيرة، مفادها أن “المؤامرات تحاك من خلف الكواليس في مجال السياسة والعلوم، على حد السواء”.
سمعة العلم على المحك
هل يمكن أن توقظ تصريحات ليمبو أصحاب مهنة الصحافة العلمية من سباتهم؟ على اعتبار أنها مثال لما يمكن أن يقع من تداعيات إثر تسليط الضوء على مسائل مثل أزمة التناتجية. وقد تطرق كتيب “أكسفورد لعلم علوم التواصل”، الذي نشر في حزيران/ يونيو الماضي، إلى حيثيات هذه المسألة. وفي هذا الصدد، أفاد جو هيلغارد وكاثلين هال جاميسون، الباحثين في جامعة ألينوى وبنسلفانيا في أحد فصول هذا الكتيب، الذي يحمل اسم “من العلم في مرحلة الفشل إلى العلم ذاتي الإصلاح”، أنه عندما تحدثت الصحافة العامة عن إشكاليات البحوث كانت استطلاعات الرأي المناهضة للعلم في أوج ازدهارها.
في سياق متصل، يتضاعف الخطر، في حال فسح الصحافيون المجال للاعتقاد بأن العلم قد فقد مقوماته. فاستخدام كلمة “فشل” في التصريحات المناهضة للعلم، سيقود في النهاية إلى “تقويض سمعة العلم”، وسيساهم في خلق “جو إعلامي” خطير ومليء بالأكاذيب يمكن “توظيفه من قبل هؤلاء الذين لديهم مصلحة في التشكيك في الاكتشافات العلمية التي لا تتماشى مع أفكارهم الأيديولوجية”.
وفقا لكل من جو هيلغارد وكاثلين هال جاميسون، لن يتوقف العلم مطلقا عن ابهارنا، وعلى الصحفيين أن لا يعمدوا إلى محاولة ترسيخ الاعتقاد المخالف لهذا الواقع. في المقابل، يستشهد هؤلاء الصحفيون فقط بالفضائح فيما يتعلق بعدم انضباط بعض الباحثين بغية التأكيد على عدم حسن سير التقدم العلمي، إلا لأنه وبمجرد أن يتبين الخطأ يقوم العلم بعملية إصلاح ذاتي. وبالتالي، ينبغي على الصحفيين والباحثين عن الحقيقة أن يعتمدوا هذه العبارات عند مخاطبة بقية الأشخاص، “العلم ذاتي الإصلاح”. ففي الواقع، كل أزمة يمر بها العلم تعتبر علامة قوة وصلابة.
أشار راش ليمبو إلى “العلم التافه”، تفطن الكثير من علماء النفس والأطباء وغيرهم من الأخصائيين في مختلف المجالات إلى أن جزءا هاما من اكتشافاتهم لم تكن أكثر من ضوضاء إحصائية.
من جانب آخر، أعتقد أن هيلغارد وجاميسون قد أخطآ. فقد فشل العلم، على الأقل عند الوقوف على المعنى اللفظي للكلمة، حيث لم يكن الإصلاح الذاتي حاضرا في جميع المناسبات، ومن حق الصحفيين قول ذلك دون خوف. أعترف أن النقاش في هذا الموضوع مربك للتفكير نوعا ما، لأني أعمل في مجال الأخطاء العلمية منذ سنوات، وأدرك جيدا أن العلم لا يعمل دائما كما يجب. ولكن لا يعني ذلك بالضرورة أن العلم بلغ نقطة اللاعودة، مما يدفعنا للاعتقاد بأن كل البحوث التي نشرت خاطئة أو أن كل الضوابط العلمية قد انتهكت. على العكس تماما، من شأن هذا المعطى أن يحفزنا لفهم سير الأمور وكيف يمكن لها أن تخرج عن مسارها، كما يحثنا على مراجعة آلة البحث العلمي وإخضاعها للصيانة.
العلم ذاتي الإصلاح
كان روبرت هوك أول من طرح هذه الفكرة منذ أربعة عقود، حيث شبه الأساليب العلمية بعمل الآلات، محفزا العقل على البحث في الحقائق الفلسفية. مع حلول سنة 1700، أخذ العلماء يدركون أن آلاتهم قد تخرج عن المسار المخطط له. ومن هذا المنطلق، برزت للنور فكرة جديدة مفادها أن المؤسسة العلمية ذاتية الإصلاح، تراجع ذاتها بين الفينة والأخرى لتصل إلى الحقيقة. وفي هذا الإطار قارن أحد فلاسفة الطبيعة البحث العلمي بعملية القسمة الطويلة: شيئا فشيئا تنحصر الأجوبة وتتقلص الإمكانيات حتى يصل العالم إلى الإجابة الأمثل.
من المثير للاهتمام أن هذه النظرية المتعلقة بالأساليب العلمية، التي تشبه إلى حد ما سيارة ذاتية القيادة عندما تنزلق شيئا فشيئا نحو المعرفة، قد صاغها وتوسع في شرحها، تشارلز ساندرز بيرس سنة 1898، حيث صرح أن ” هذه الخاصية الرائعة للإصلاح الذاتي التي تنبثق بالأساس من التفكير البشري المجرد … توجد في جميع العلوم”.
في الواقع، استخدمت هذه الخاصية الرائعة منذ بدايات ظهورها كالعصا السحرية لإخفاء الأخطاء الكبيرة. فحين يتبين أن أحد مدعي العلم ليس إلا مجرد دجال، يعمد إلى ادعاء حقيقة أنه علم كل شيء، حتى يهول الأمور ويبدو” للكافرين” به ناصرا “للإصلاح الذاتي”. وفي هذا الصدد، لم يشذ هيلغارد وجاميسون على القاعدة عندما ذكرا الدراسة بشأن الخلايا الجذعية التي سرعان ما قام الأخصائي الياباني، بالتراجع عما وصل إليه بسبب التلاعب في البيانات. وفي هذا السياق، صرح الكاتبان أنه “في حال كان النقد والإصلاح الذاتي أساس المؤسسة العلمية، إذا فإن الحالات التي يكتشف فيها العلماء وجود خلل ويتدخلون لمعالجته يثبت نجاح العلم وليس فشله، حيث يعكس ذلك آلية الحماية المتأصلة في العمل العلمي”.
فيما يتعلق بموضوع الخلايا الجذعية، كان العلم ذاتي الإصلاح بالمرصاد. فقد كشفت سلبيات الدراسة من قبل زملاء الباحث الياباني بعد وقت قصير من نشرها في مجلة “الطبيعة”. والجدير بالذكر أن التاريخ الحديث عرف على حالات مشابهة لم تكتشف بالسرعة نفسها، ولكنها كسفت بعد وقت طويل من خلال وسائل إعلام تقليدية، وليس من خلال آليات الإصلاح الذاتي.
من هذا المنطلق، تم اكتشاف الفظائع التي مارسها الباحث ديدريك ستابل، الذي شهر بإعداده 58 دراسة باطلة في علم النفس الاجتماعي، في سنة 2011. في الحقيقة عدم التنبه لدراسات ستابل وعدم تعرضها للإصلاح الذاتي، يمثل نموذجا لأزمة التناتجية. وبالتالي، لسائل أن يسأل: لماذا لم ينتبه أحد لمثل هذه الأخطاء، من الناحية العلمية أو لكل التداعيات السلبية التي مررها في كتباته؟
المشكلة تكمن في تصورنا للعلم، حيث نعتقد أنه آلة اكتشافات في حين أنه مجرد أداة توظف للسير في طريق شاق وطويل من شأنه يوصلنا للحقيقة
في الأثناء، لم تكن حالات الاحتيال المنفردة في قلب الأزمة. فمنذ أزمة “ستابلغايت” رفضت العديد من الدراسات التي لا تتفق مع أخلاقيات البعض وعقائدهم بتعلة أن معطياتها متداعية. في الحقيقة، بدا أن الأساليب الأساسية في التفكير والتحليل وإعداد التقارير بالاستناد إلى التجارب الأكثر عرضة لتقديم نتائج غير متوقعة، مثل وجود “الفهم الحسي” أو إمكانية السفر عبر الزمن.
في صيف سنة 2015، عندما أشار راش ليمبو إلى “العلم التافه”، تفطن الكثير من علماء النفس والأطباء وغيرهم من الأخصائيين في مختلف المجالات إلى أن جزءا هاما من اكتشافاتهم لم تكن أكثر من ضوضاء إحصائية. في الحقيقة قبل أسبوع من أزمة التناتجية التي أطلقتها نيويورك تايمز، نشرت الصحفية كريستي أشواندن تقريرا مفصلا وتفاعليا بأسلوب رائع على مجلة “فايف ثيرتي أيت”. و
وفي الأثناء، عادت الصحفية من خلاله إلى العديد من الممارسات العلمية المعاصرة العرجاء أو الخاطئة أو غير الدقيقة التي تسببت في ظهور تحليلات خاطئة. في الغالب، يمكن للباحثين أثناء انغماسهم في محاولة الوصول إلى النتائج العلمية أن يغضوا الطرف عن بعض النتائج السلبية، بالإضافة إلى أن محرري المجلات العلمية يتجاهلون الإخفاقات التي تثبتها عملية التناتجية، في حين يضيعون الكثير من الوقت قبل العمل على إصلاح تلك الأخطاء.
كم من الوقت يقتضيه الإصلاح الذاتي
قد يعتقد البعض أن تقرير كريستي أشواندن يمكن اعتماده كحجة صلبة تثبت أن العلم هراء فارغ وأن الإصلاح الذاتي كذب محض. ولكن النتيجة التي خلصت إليها أشواندن كانت عكس ذلك، حيث أكدت أن “العلم لم يفشل وأن الثقة فيه لم تنعدم”. وأردفت أشواندن أن: “كل ما في الأمر أن العلم مؤسسة معقدة أكثر مما نتصور”.
علاوة على ذلك، شددت أشواندن على أن المشكلة تكمن في تصورنا للعلم، حيث نعتقد أنه آلة اكتشافات في حين أنه مجرد أداة توظف للسير في طريق شاق وطويل من شأنه يوصلنا للحقيقة. ومن خلال تقرير آخر تتطغى عليه مسحة من المتفائل، أفادت أشواندن أنه في حال كان العلم هراء فذلك لأن مؤسسته تغرق في الفوضى، علما وأنها “عملية تجعلنا أقل ارتكابا للأخطاء مع مرور الوقت”.
في الواقع، لم أجد في الفريق المساند لفكرة أن “العلم ذاتي الإصلاح” شخصا قادرا على المواجهة. وبالتالي، يستحق التقرير الأول للصحفية كريستي أشواندن عن جدارة التقدير الذي حاز عليه. في المقابل، لا تزال الطريقة التي عبرت من خلالها عن وجهة نظرها تشغل بالي. وكأنك تقول أن سيارتنا التي يتصاعد منها الدخان تعمل بشكل جيد، وإلا لما تمكنا من رؤية الدخان. بعبارة أخرى إن لم ترمز كلمة الإخفاق العلمي للإخفاق، فما معنى كلمة “إخفاق”؟
أن نقول إن العلم قد أخفق لا يعني بالضرورة أن العلم خدعة، ولكن عملية الإصلاح الذاتي تستغرق بعض الوقت.
يمكن أن نقول أن العلم ذاتي الإصلاح إلى حد ما، وهذه فرضية يصعب رفضها. ولكن السؤال الأهم الذي يجب طرحه: ما هو طول المدة التي تتطلبها عملية الإصلاح؟ هل تعيش الأفكار السيئة والنتائج الخاطئة سنة أم سنتين أم ستعيش لأجيال؟ كم علينا أن نمكث في المختبرات بعد صدور النظريات سيئة السمعة؟ كم يجب أن ننفق من المال؟ كم يجب أن يأخذ العلم من عمرنا حتى نبدأ في إصدار نظريات ناجعة ومثبنة؟
يجب أن يتطور العلم وفقا لنسق أسرع
يمكن أن نتلمس من خلال عملية الإصلاح الذاتي قوة الطبيعة، فلكل أرض موطئ قدم يدل على من مر من هنا. خلافا لذلك، كشفت أزمة التناتجية أن أخطائنا النابعة عن سوء تفكير لا يمكن أن تستمر لمدة طويلة حتى يتم إماطة اللثام عنها. ففي الواقع العملي، ينبغي أن نسعى دائما لإصلاح أخطائنا، الأمر الذي يشهد تأخيرا في الغالب للعديد من الأسباب. أن نقول إن العلم قد أخفق لا يعني بالضرورة أن العلم خدعة، ولكن عملية الإصلاح الذاتي تستغرق بعض الوقت.
على سبيل المثال، نعلم أنه منذ نصف قرن خضعت الدراسات النفسية لعينات تحليلية غير كافية. ففي سنة 1962، أثبت عالم الإحصاء جاكوب كوهن أن علماء النفس لا يستندون على مجموعات إحصائية كافية وأن اختيارهم للعينات لم يكن “علميا”. وقد أدى ذلك إلى إهدار الكثير من الجهد والموارد العلمية. وفي الأثناء، ما فتئت هذه الحقيقة تترسخ يوما بعد يوم، ولم ينجز في المقابل أي عمل لإصلاح هذا الوضع خلال العقود المتعاقبة.
تعد المبادرات نحو الإصلاح الذاتي لعلم النفس بطيئة وجدلية. ففي واقع الأمر، ليس الجميع، وخاصة الباحثين من كبار السن، متفقون على أن الانضباط يستحق التضحية والعمل الجاد.
في الوقت نفسه، لم تتدخل الثقافة والتقاليد لإصلاح البحوث المتعلقة بعلم النفس مقدار أنملة. وقد نشر تحليل معمق في خريف السنة الماضية مستندا على دراسات صدرت سنة 2011، تثبت أن الإحصائيات المعتمدة في تلك الدراسات ضعيفة جدا مقارنة بنظيراتها في سنة 1960. وفي هذا الصدد، ورد في هذا المقال التحليلي: “لم تزدد قوة الإحصائيات على الرغم من الحاجة الملحة لها”.
في هذا السياق، يمكن أن نلاحظ، خلال السنوات الأخيرة، تحركا إيجابيا نادرا، على غرار اعتماد عينات إحصائية أكثر دقة. كما اتخذت إجراءات تحسينية أخرى مثل التسجيل المسبق للدراسات، ونشر البيانات الخام دون تعديل. ولكن تغيير الممارسات السائدة في هذا المجال يتطلب 15 سنة من تكرار الأخطاء نفسها. ربما كنا في انتظار خدع ديدريك ستابل، وقراءة تقارير تثبت القدرة على توقع المستقبل، وتقارير تتحدث عن انهيار الثقة في أن العلم قادر على إصلاح ذاته. كنا ننتظر أن يفهم العلماء أن ملاحظات كوهن ليست حمقاء، حين ذكر حقيقة أن علم النفس كان عرضة للانتهاكات.
في الوقت الراهن، تعد المبادرات نحو الإصلاح الذاتي لعلم النفس بطيئة وجدلية. ففي واقع الأمر، ليس الجميع، وخاصة الباحثين من كبار السن، متفقون على أن الانضباط يستحق التضحية والعمل الجاد. وبالتالي، أشعر بالريبة من هؤلاء الباحثين الذين يفرضون اعتماد خطابات معينة، تدعم الحجج الموالية للسلطة. في الحقيقة، أن نقول إن العلم قد أخفق أصعب من أن نتظاهر أن كل شيء على ما يرام.
المصدر: سلايت