بلغت المعركة المحتدمة بين الجنيه المصري والدولار الأمريكي مراحل متقدمة من تكسير العظام، فقد تلقت العملة المحلية المصرية ضربات موجعة من نظيرتها الأمريكية خلال الأيام القليلة الماضية، أسفرت عن فقدانها أكثر من 70% من قيمتها منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحتى اليوم، مع توقع المزيد من التهاوي خلال المرحلة المقبلة.
وارتفع سعر الدولار أمام الجنيه المصري من 38 جنيهًا للدولار قبل 4 أشهر إلى أكثر من 70 جنيهًا في السوق السوداء، فيما حافظ على سعره الرسمي في البنوك عند حاجز الـ30.90 جنيه، مع ترقب قرارات البنك المركزي المصري الخميس الأول من فبراير/شباط القادم واحتمالية اتخاذ قرار بتعويم جديد للعملة.
وأسفرت تلك المعركة غير المتكافئة بالمرة، كونها مباراة من طرف واحد، عن ارتدادات كارثية على المشهد الاقتصادي المصري الذي يعاني من ارتباك غير مسبوق، وفشل واضح في التعاطي مع تلك التطورات بالسرعة والمرونة الكافية، وهو ما أدى إلى تلك الوضعية الحرجة التي انعكست بطبيعة الحال على المستوى المعيشي للمواطن الذي تهاوى إلى مستويات تجاوزت بكثير مراحل الاحتلال والحروب والأزمات الخانقة التي عاشها المصريون في تاريخهم السابق.
الدولار يقفز إلى ٧٥ جنيها.. فما التفاصيل؟
وخبراء يكشفون مفاجآت عن تعامل البنوك الحكومية بسعر جديد للدولار pic.twitter.com/759T8G7upl
— مزيد – Mazid (@MazidNews) January 29, 2024
تعطيش السوق
من الهجمات المرتدة لتلك المباراة لجوء العديد من التجار لتعطيش الأسواق من خلال حجب بعض السلع وعدم عرضها في المتاجر، ما أحدث أزمة كبيرة وتراجعًا واضحًا في حجم المعروض، ما نجم عنه بطبيعة الحال ارتفاعًا جنونيًا في أسعار تلك السلع، التي من أبرزها الأجهزة الكهربائية والمنزلية وقطع غيار السيارات والهواتف الذكية.
ويرى أصحاب هذا التوجه أن الانفلات الكبير في سعر الدولار أمام الجنيه هو السبب الرئيسي وراء الاحتفاظ ببعض السلع في المخازن، فبيعها في الوقت الراهن في ظل انخفاض قيمة الجنيه بهذا الشكل سيحدث خسائر كبيرة في المبيعات، خاصة إذا حاول التجار استيراد نفس السلع مرة أخرى لإنعاش متاجرهم، فمن المتوقع أن يكون الاستيراد بمبالغ أعلى بكثير مما بيعت به تلك السلع.
المتحدث باسم الشعبة العامة للمخابز خالد صبري يقول إن سعر طن الدقيق زاد 35% خلال شهر يناير الجاري بسبب سعر صرف الدولار pic.twitter.com/BcH4BhB97K
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) January 30, 2024
شريحة من هؤلاء التجار ينتظرون تعويمًا قادمًا لا محاله من وجهة نظرهم، وحينها يخرجون ما لديهم من بضائع ويبيعونها بأسعار أعلى تتناسب إلى حد ما مع سعر السلع التي ينوون استيرادها مستقبلًا، وحتى لا تكون الفجوة بين قيمة البيع والشراء كبيرة.
محمد عبد الرحمن (تاجر أدوات كهربائية) يقول في حديثه لـ”نون بوست” إنه اضطر لوقف بيع بعض الأجهزة مثل الثلاجات والغسالات بسبب الارتفاع الكبير في سعر الدولار في السوق المصري، في انتظار استقرار السوق حتى يبيع بالسعر الملائم، لافتًا إلى أن بعض زملائه التجار ممن قرروا استمرار نشاطهم رفعوا سعر تلك الأجهزة خلال الأيام الخمس الماضية فقط بنسبة تتجاوز 25% دفعة واحدة، تحسبًا لأي هزات في سوق الصرف والعملات، فغالبية الأجهزة الكهربائية في مصر مستوردة من الخارج بالعملات الأجنبية.
تآكل مدخرات المصريين
أحدثت القفزات الجنونية في سعر العملات الأجنبية أمام الجنيه هزة عنيفة لمدخرات المصريين بالعملة المحلية في البنوك الرسمية، إذ يميل كثير من المصريين إلى إيداع أموالهم سائلة في البنوك استسهالًا للحصول عليها وقت الحاجة، مقارنة بتحويلها إلى أصول أخرى كالذهب والعقارات، الأمر سيان لمن يخزن ما لديه من أموال بعيدًا عن المصارف الرسمية.
فمن كان يضع مليون جنيه في البنك قبل 4 أشهر، كانت قيمتهم وقتها نحو 25.6 ألف دولار بسعر السوق السوداء آنذاك ما بين 39-40 جنيهًا للدولار، أصبح سعرهم اليوم قرابة 14.2 ألف ولار بسعر السوق السوداء اليوم 70 جنيهًا للدولار، أي أن قيمتهم الفعلية انخفضت بأكثر من 56%.
وكان البنك المركزي المصري قد كشف في بيان له عن انخفاض مدخرات الأفراد الطبيعيين والأسر في القطاع المصرفي المصري خلال العام الماضي بشكل ملحوظ، فوصل معدل الانخفاض في شهر مارس/آذار 2023 فقط نحو 47 مليار جنيه مقارنة بالشهر الذي قبله، واستمر هذا التراجع كذلك لشهر أبريل/نيسان الماضي، من 5.614 تريليون جنيه إلى 5.610 تريليون، وهو ما وصفه خبراء اقتصاديون بناقوس خطر يتطلب التدخل السريع لإنقاذ الاقتصاد واستعادة الثقة فيه.
«#الجبنة_الرومي» و«#كيلو_اللبن» «هاشتاغات» ضمن الأعلى تداولاً في مصر بعد ارتفاع أسعارهما بشكل كبير وسط أزمة انخفاض قيمة الجنيه#صحيفة_الشرق_الأوسط#صحيفة_العرب_الأولى https://t.co/UJF21rFGwv
— صحيفة الشرق الأوسط (@aawsat_News) January 30, 2024
تراجع تحويلات العاملين بالخارج
ألقت المعركة غير المتكافئة بين الدولار والجنيه بظلالها القاتمة على المصريين العاملين بالخارج، إذ تراجعت تحويلاتهم بشكل كبير بعد الفارق الهائل بين سعر الدولار في البنوك الرسمية وسعره في السوق السوداء، وهو الفارق الذي أغرى الكثير من المصريين بالخارج ودفعهم نحو تغيير سياسة التحويل.
وتراجعت التحويلات بحسب البيانات الرسمية بنحو 29.9%، فوصلت إلى 4.5 مليار في الربع الأول من العام المالي الحاليّ 2023/2024 مقارنة بـ6.4 مليار دولار في نفس الفترة من العام المالي الماضي 2022/2023، فيما انخفضت التحويلات في المجمل خلال السنة المالية المنقضية بنسبة 30.8%، بعد تراجعها إلى 22.1 مليار دولار، مقابل 31.9 مليار دولار في السنة المالية السابقة 2022/2021.
البنك المركزي يكشف عن انخفاض تحويلات المصريين بالخارج إلى 4.5 مليارات دولار بين يوليو وسبتمبر 2023 pic.twitter.com/WUA5OPHYxy
— شبكة رصد (@RassdNewsN) January 5, 2024
وتعد تحويلات المصريين بالخارج أحد روافد العملة الصعبة للدولة المصرية، إلى جانب السياحة وقناة السويس والاستثمارات الأجنبية، التي كان يُعول عليها للوفاء بالتزامات البلاد المالية، ولطالما حرصت الحكومة على تعزيزه عبر حزمة من السياسات والقرارات، لكنها لم تؤت ثمارها في ظل الفجوة الكبيرة بين السعر الرسمي والموازي للدولار أمام الجنيه.
يقول علاء السيد، شاب مصري يعمل في الكويت، إنه كان يحول شهريًا قرابة 300 دينار كويتي لأهله في مصر عن طريق البنك، لكنه خلال العامين الماضيين وفي ظل ثبات سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية في البنوك اضطر لإعادة النظر في تحويلاته، مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست” أن الـ300 دينار كان يتم تغييرهم في البنك بـ30 ألف جنيه على سعر 100 جنيه للدينار، لكن في السوق السوداء فإن هذا المبلغ يتم تغييره بـ69 ألف جنيه (230 جنيهًا للدينار)، أي أكثر من ضعف المبلغ الخاص بالبنك.. مضيفًا: هل من الممكن في ظل هذا الفارق الهائل أن أحول على البنك مرة أخرى؟
قفزة في سوق العقارات والذهب
هربًا من حالة الفوضى التي تعاني منها العملة المحلية هرول كثير من المصريين صوب سوق الذهب والعقارات بصفته الملاذ الآمن للمدخرات من التقلبات المتتالية في أسعار الصرف، وهو التوجه الذي لطالما ناشد به خبراء الاقتصاد والمتخصصون في الأوعية الادخارية، الأمر الذي أدى بطبيعة الحال إلى زيادات كبيرة في أسعارهما قياسًا إلى قاعدة العرض والطلب الاقتصادية.
فيما يتعلق بالذهب فارتفع سعر عيار 21 وهو الأكثر استهلاكًا للمصريين من 1690 جنيهًا للغرام في الربع الأول لعام 2023 إلى 2210 جنيهات في الربع الثاني ثم 2295 جنيهًا للغرام في الربع الثالث مرورًا بـ3330 جنيهًا في الربع الرابع وصولًا إلى 4000 جنيه في فبراير/شباط 2024 الحاليّ، أي زاد سعر الذهب بنسبة تجاوزت 120% مقارنة بما كان عليه قبل عام واحد فقط.
ورغم هذا الارتفاع الجنوني زادت مشتريات المصريين من الذهب بالتبعية، فقد سجل حجم المشتريات 16.2 طن في الربع الأول لعام 2023، و17.3 طن في الربع الثاني، و12.9 طن في الربع الثالث، وهو ما دفع بعض المتخصصين في سوق الذهب داخل الغرفة التجارية للحث على وقف عمليات البيع والشراء حتى تتضح الصورة بشكل منطقي بعدما وصلت الأمور إلى مستويات غير متوقعة
📌 رجل الأعمال المصري #نجيب_ساويرس عبر حسابه على #X:
⬅️ التأخير في القرارات المطلوبة مصيبة ستزيد من حجم الوضع الحرج الذي نحن فيه في #مصر
⬅️ أي محاولة لعلاج ازدواجية #سعر_الصرف بعرض #الدولار بسعر أقل من #السوق_السوداء لن يحالفها النجاح
⬅️ الصح هو البداية من سعر السوق السوداء و… pic.twitter.com/z0aMwcKWBG
— العربية Business – مصر (@AlArabiyaBN_EG) January 30, 2024
الفوضى ذاتها شهدها سوق العقارات الذي يعد أحد أهم أضلاع الاقتصاد المصري، حيث ارتفعت مواد البناء بصورة جنونية، فالحديد شهد نسبة زيادة بلغت 44% في غضون شهر واحد فقط، فيما زاد سعر الطن بنسبة تجاوزت 100% على مدار العام بأكمله، من 27 ألف جنيه بداية 2023 إلى 56 ألف الشهر الجاري، وهو ما انعكس على أسعار العقارات التي مُنيت بارتفاعات هائلة.
ويصف رجل الأعمال المصري المعروف، نجيب ساويرس، أحد أكبر خمسة مطورين عقاريين في مصر، الاضطرابات في سوق العقارات بأنها “قنبلة موقوتة”، بسبب ارتفاع كلفة البناء جراء أزمة الدولار، لافتًا إلى أنه رغم تحقيق شركته مبيعات بـ55 مليار جنيه (نحو 1.8 مليار دولار بالسعر الرسمي)، فإنه لا ينام بسبب الفوضى في سعر الصرف، ما ينعكس على كلفة البناء مستقبلًا.
فيما توقع رجل الأعمال ياسين منصور، رئيس مجلس إدارة المجموعة التنفيذية لشركة “بالم هيلز للتعمير”، ارتفاع أسعار العقارات بنحو 60% في 2024، لافتًا إلى أن شركته وهي إحدى أكبر الشركات العقارية في مصر رفعت أسعارها في 2023 بقيم تراوحت بين 70 -80%.
جهود احتواء غير مجدية
حاولت الحكومة المصرية في ظل حالة الانفلات تلك وخروج السيولة النقدية بأيدي المصريين عن السيطرة، اللجوء إلى حلول مؤقتة لتشجيع المواطن على إيداع أمواله، بالجنيه أو الدولار، في حساباته الخاصة بالبنوك الرسمية من أجل إنعاش خزينة الدولة.
لذا طرحت العديد من الشهادات ذات العائد المرتفع للحفاظ على معدلات السيولة لديها، آخرها تلك التي طرحها البنك الأهلي المصري وبنك مصر التابعين للدولة، في الرابع من الشهر الحاليّ، أحدها بعائد نسبته 27% يصرف في نهاية مدة الشهادة، وأخرى بعائد 23.5% يصرف شهريًا.
وأعلن البنك الأهلي أنه في خلال 20 يومًا فقط من طرح تلك الشهادات، جمع نحو 305 مليارات جنيه، مقابل 166 مليار جنيه جمعها بنك مصر وفق البيانات الصادرة عن مسؤولي البنكين، لكنها الأرقام التي تحتاج إلى قراءة متأنية للوقوف على حقيقتها.
كثير من المشترين لتلك الشهادات سحبوا أموالهم الموجودة في الأساس بالبنوك والتي كانوا قد اشتروا بها شهادات ذات عائد أقل، ليشتروا بها الشهادات الجديدة ذات العائد الأكبر، وعليه فإن الرقم المعلن لا يعبر بطبيعة الحال عن حجم الأموال الجديدة التي دخلت خزينة البنكين.
ويرى اقتصاديون ومواطنون على حد سواء أن عائد الـ27% سنويًا ربما يكون أقل من فارق السعر الذي يحققه الدولار أمام الجنيه في السوق الموازي، ما يعني أن قيمة الجنيه داخل البنك ربما تتراجع لأكثر من نسبة العائد، وهو ما قد ينجم عنه خسارة في مدخرات المواطنين كما أشير سابقًا، علمًا بأن نسبة تراجع الجنيه أمام الدولار خلال العام الأخير فقط تجاوزت حاجز الـ100 % أي أكثر من 3 أضعاف قيمة العائد في الشهادات الجديدة.
وفي السياق ذاته كشفت وثيقة التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري 2024- 2030 التي أعدها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري عن وجود مقترح جديد يتعلق بتأسيس شركة برأس مال مليار دولار من أجل استثمار مدخرات المصريين العاملين بالخارج في عدد من القطاعات بعوائد دولارية ثابتة، وهو المقترح الذي لم يتم ترجمته حتى اليوم.
وفي النهاية بات واضحًا أن الأزمة في مقامها الأول أزمة فقدان ثقة في النظام المصرفي المصري نتيجة السياسات النقدية والاقتصادية التي تتبعها السلطات الحاكمة، وإصرارها على المضي قدمًا فيها رغم فشلها الواضح والتحذير منها على مدار سنوات طويلة، ما أدى في نهاية المطاف إلى هذه الحالة الصعبة التي بات عليها الاقتصاد المصري – المُقيًم سلبيًا من المؤسسات الدولية – وأصبح طاردًا للاستثمارات، الأجنبية والوطنية، على حد سواء.