ترجمة وتحرير: نون بوست
في حال كان موت أندريه كارلوف، السفير الروسي في تركيا، في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2016 على يد إسلامي مندفع، كان فيما مضى موظفا في شرطة أنقرة، أمرا يمكن تفهمه وإيجاد مبررات له، حيث أن مقتله يعد انتقاما من العمليات العسكرية التي تقودها روسيا في سوريا، وخاصة في حلب، إلا أن الأمر ليس سيان بالنسبة للعديد من زملائه الذين يشغلون مناصب في صلب الإدارة الروسية، وعلى وجه التحديد في وزارة الشؤون الخارجية.
في الواقع، يرى الإعلام الغربي المعادي لبوتين أن جهاز الأمن الفيدرالي، الذي يعمل على مكافحة التجسس ضد روسيا، والذي غالبا ما يتدخل بهدف إزاحة أي عنصر قد يزعج سيد الكرملين، يواجه تحديا في مواجهة حرب الظل التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية بغية كبح جماح موسكو. وفي الأثناء، سبق وأن عثر على جثة بيتر بولشيكوف، المسؤول السابق في قسم بلدان أمريكا اللاتينية بوزارة الخارجية الروسية، مقتولا بسلاح ناري (في 19 من كانون الأول/ ديسمبر سنة 2016) في شقته بموسكو.
في هذا الصدد، أشارت السلطات إلى أن الأمر ينطوي على حالة انتحار، في حين لم تقدم أي تفاصيل بشأن السلاح الذي عثر عليه في حوض الاستحمام، على الرغم من أنه تم العثور على هذا المسؤول في غرفة نومه، ولا بشأن غلافي الرصاص الفارغين الذين وجدا في مكان الحادث. عموما، تأبى الشرطة في روسيا تقديم الكثير من التفاصيل لفائدة الصحافة. وفي ظل وجود زوجة الضحية وقت حدوث الجريمة، فالكثير من الاحتمالات واردة، فهل الواقعة دراما زوجية؟ أم عملية اقتحام لشقة المسؤول انتهى بموته؟ أم انتحار؟
في 9 من كانون الثاني/ يناير سنة 2017، عثر على أندريه مالانين، القنصل الروسي في اليونان، ميتا في دورة المياه بشقته. وفي الأثناء، لا تزال ظروف موته يشوبها الغموض. ففي الواقع، لا يمكن ربط الجريمة بعملية اقتحام نظرا لغياب أي إشارة على الدخول عنوة لشقة. فضلا عن ذلك، يعتبر جميع سكان الشارع الذي يقطن فيه من الدبلوماسيين، أي أنه خاضع لحراسة الشرطة على الدوام. وفي هذا الصدد، يتمحور المشكل فيما يتعلق بالوظائف الدبلوماسية في الخارج، أنها تتمتع في الغالب بالحصانة. ومن هذا المنطلق، تعمد السلطات المحلية إلى كتمان وقائع الحادثة، لتنتهي قصة مقتل القنصل دون جواب شافي.
بعض حالات الوفيات في صفوف الدبلوماسيين تثير الشبهات
في حال تجرأت أي دولة على تجاوز القوانين الدولية، ستقابل تبعا بإجراءات مشددة قد تضر بعلاقاتها الدبلوماسية. وفي حالة أندريه مالانين، لا تعد وظيفة القنصل بالمنصب البارز في صلب وزارة الشؤون الخارجية. ويعزى ذلك إلى أن القنصل يعمل في الأساس على خدمة جالية بلاده في الخارج أو المسافرين من خلال مساعدتهم على استخراج التأشيرات وإدارة المال. في المقابل، لا ينفي ذلك أهمية العمل الذي يضطلع به القنصل. والجدير بالذكر أن فضائح القنصليين في الماضي كانت في الغالب تشمل بالأساس الفساد واختلاس الأموال. وبالتالي، كانت تتخذ ضدهم إجراءات تأديبية، في ظل رفع دعاوى قضائية في حقهم.
في 27 من شباط/ فبراير سنة 2017، مات السفير الروسي ألكسندر كاداكين في الهند، بعد صراع مع المرض. وعلى غرار بقية الحوادث، طغى الغموض على حيثيات موته، وذلك بتعلة الحفاظ على السر الدبلوماسي. في أعقاب ذلك، وفي 20 من شباط/ فبراير سنة 2017، انهار السفير الروسي فيتالي تشوركين، لدى الأمم المتحدة، الذي عرف بتميزه، على مكتبه في نيويورك، ليفارق الحياة بعد أن تم نقله إلى المستشفى. ومما لا شك فيه أن هذه الشخصية المقربة من فلاديمير بوتين، التي كان من المرجح أنها ستخلف سيرغي لافروف في قيادة وزارة الخارجية، لم تقتل حتما على يد الإدارة الروسية لأنها في أشد الحاجة إلى خدماته. وقد عرف عن كاداكين مواقفه المناصرة للكرملين على الدوام.
في آخر مسلسل الوفيات، لا بد من التطرق إلى موت السفير الروسي في السودان، ميرغاياس شيرينسكي، الذي عثر عليه جثة هامدة في المسبح في مكان إقامته. لن نستثني من كل الحالات السابقة، إلا حالتين يلفهما الغموض، في حين تبدو باقي الوفيات طبيعية. ففي الحقيقة، مات أغلبهم في الستينات من عمرهم، ويعزى ذلك إلى أن أمل حياة بالنسبة للذكور في روسيا كان حتى سنة 2014 لا يتجاوز سقف 64.37 سنة، مقابل 73.09 سنة في الصين و73.09 في الهند. ويعد السبب وراء ذلك بسيط جدا، ألا وهو نسبة الكحول التي يتعاطاها الروس، حيث تعتبر النسبة الأعلى في العالم، علما وأن السلك الدبلوماسي لا يخلو من الترف والرفاهية.
في حال اعتبرنا أن حالات الوفاة التي ذكرت سابقا، حتى تلك التي شهدت معالم عنف واضحة، قابلة للتبرير ويمكن إيجاد تفسير منطقي لها، إلا أن بعض حالات الوفيات في صفوف الدبلوماسيين تثير الشبهات. ومن المثير للاهتمام أن كل الضحايا تربطهم صلة بشكل أو بآخر بجهاز الاستخبارات الروسي.
عثر على أوليغ إيروفينكين جثة هامدة في سيارة تابعة لمؤسسة “روسنفت” في موسكو، في 16 من كانون الأول/ ديسمبر سنة 2016
في 8 من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2016، لقي سيرغي كريفوف حتفه في القنصلية الروسية في نيويورك. في البداية، أعلن أنه سقط من فوق سطح منزله، قبل أن يدعى أنه مات بشكل طبيعي. في حقيقة الأمر، كان كريفوف يعمل “مسؤولا أمنيا” لدى القنصل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الوظيفة تشمل العديد من المهام الأخرى.
ربما لم تتجاوز مهمة سيرغي كريفوف حراسة القنصل، ضمن فريق يعمل وفق المعايير المتبعة في جميع التمثيليات الدبلوماسية. لكن قد يكون كان هذا المنصب للتمويه على العديد من النشاطات الأخرى، أبرزها التجسس أو مجابهته. من جانبها، اكتشفت الصحافة الأمريكية التي حققت في الحادثة أن هذه الشخصية الروسية غامضة. وفي الأثناء، يحيل ذلك إلى أن الاستخبارات الروسية ربما قد أسندت له مهمة ما. وبالتالي، كان من الدهاء تصفيته في مكان لن يثير فضول المراقبين، أي القنصلية الروسية في نيويورك.
في حادثة مشابهة، عثر على أوليغ إيروفينكين جثة هامدة في سيارة تابعة لمؤسسة “روسنفت” في موسكو، في 16 من كانون الأول/ ديسمبر سنة 2016. عموما، وقبل وفاته تقلد إيروفينكين منصب جنرال في لجنة أمن الدولة – كاي جي بي – ثم في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، ليعين في شهر أيار/ مايو سنة 2008، رئيس مكتب إيغور سيتشين، الذي يعد من المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، ومالك مؤسسة روسنفت.
في 5 من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2015، لقي ميخائيل ليزين، المستشار السابق لبوتين والمسؤول على مراقبة الصحافة الروسية، ومؤسس “شبكة روسيا اليوم” المثيرة للجدل، حتفه في غرفته في فندق “نيويورك”
في الوقت الذي صرحت فيه السلطات أن إيروفينكين قد توفي جراء نوبة قلبية، تعالت الأصوات وتواترت الشائعات التي تفيد أنه كان المصدر الروسي الرئيسي لتسريبات كريستوفر ستيل، الضابط السابق في الاستخبارات البريطانية، الذي ألف تقريرا مثيرا للجدل حول دونالد ترامب في 19 من تموز/ يوليو سنة 2016. على خلفية هذه الواقعة، أثيرت العديد من التساؤلات، نظرا لأنه على عكس ما هو مألوف، نادرا جدا ما يتم توظيف العنف في عالم جهاز الاستخبارات. وبالتالي، تعد هذه العملية “نموذجا” في حد ذاتها. ففي حال كان الجهاز وراء مقتل إيروفينكين، فالهدف لم يكن تصفيته ولكن إخافة أي شخص قد يحاول تسريب معلومات إلى جهات خارجية.
في 5 من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2015، لقي ميخائيل ليزين، المستشار السابق لبوتين والمسؤول على مراقبة الصحافة الروسية، ومؤسس “شبكة روسيا اليوم” المثيرة للجدل، حتفه في غرفته في فندق “نيويورك”. وقد توفي جراء تسمم من خلال مادة الإيثانول، وذلك نتيجة جرعة زائدة من الكحول، في ظل تعرضه لارتجاج في الدماغ. والجدير بالذكر أن العديد من الكدمات والجروح التي لحقته جراء شربه الخمر حتى الثمالة، كانت تغطي جسده.
على الرغم من أن لندن لا تدخر جهدا في توجيه أصابع الاتهام لموسكو في الحقيقة، في حال نظر القضاء بتمعن في أدلة الحادثة، فلن تجد بريطانيا بُدا من اتهام موسكو
من جانبها، حاولت الصحافة الأمريكية أن تسيطر على مسار القضية وتحدد الفاعل الذي تكرهه: الرئيس بوتين وأجهزته. على الرغم من الأحداث الغريبة التي تشوب هذه القضية، إلا أن الأجهزة الاستخباراتية من غير المرجح أن تتخذ مثل هذه الإجراءات. في الأثناء، لم تتطرق السلطات الأمنية والقضائية والسياسية الأمريكية (ولا حتى الاستخبارات الأمريكية) التي لا تدخر جهدا لتشويه روسيا، بالحديث عن جريمة قتل ميخائيل ليزين، علما وأن هذه حادثة قد ألحقت ضررا جسيما بسيد الكرملين.
في الأثناء، تبقى أبرز عمليات الاغتيال التي أثارت اهتمام السلطات الغربية ووسائل الإعلام، الحادثة التي وقعت في سنة 2006، حيث لقي ألكساندر ليتفينينكو، العميل الروسي السابق، الذي أصبح من أبرز معارضي فلاديمير بوتين، حتفه إثر عملية تسمم. أعقب ذلك حادثة وفاة ألكساندر بيريبيليشني، الذي هاجر في سنة 2010، إلى المملكة المتحدة، أثناء قيامه بنزهة. في سنة 2013، توفي بوريس بيريزوفسكي الذي عثر عليه مختنقا في دورة مياه منزله في باركشير.
عموما، يبدو أن المملكة المتحدة، التي لا تمانع في استقبال معارضي السلطة في روسيا، لم تكن المكان الأنسب لهم. وإن أقرت لندن وقوع عملية اغتيال ألكساندر ليتفينينكو، فهي لم تعترف بعد بالحادثتين الأخيرتين، على الرغم من أن لندن لا تدخر جهدا في توجيه أصابع الاتهام لموسكو في الحقيقة، في حال نظر القضاء بتمعن في أدلة الحادثة، فلن تجد بريطانيا بُدا من اتهام موسكو.
يعتبر العامل الأكثر نجاعة في القضاء على المخالفين، التضليل الإعلامي الذي للأسف لا يصدر عن موسكو فقط. ففي الحقيقة، يعد الأمريكيون سادة العالم في ما يتعلق بهذه المسألة
في الواقع، يحيل ذلك إلى أن هناك طرق أخرى لتصفية الأعداء غير تناول كمية كبيرة من الكحول، خاصة مع ارتفاع معدل الجريمة المنظمة (المافيا الحمراء أو ما يعرف ببراتفا) في روسيا. فقد كانت حاضرة بقوة حتى في فترة الاتحاد السوفياتي، وعلاقاتها في صلب المجتمع المدني معلومة لدى الجميع. فقد اقتحمت الجريمة المنظمة كل دواليب الاقتصاد الروسي لتزدهر بفضله وتتمكن من جني ثماره. وفي الأثناء، من بين أبرز سمات الجريمة المنظمة، العنف الشديد، والسرقة في إطار القانون، التي عادة ما تنتهي بتبعات كارثية. من هذا المنطلق، وجد العديد من موظفي الاستخبارات السابقين ضالتهم في هذا المجال لما يتمتعوا به من “موهبة تقنية” في ممارسة العنف.
من هذا المنطلق، لا يمكن الجزم بعدم صلة الكرملين بالجريمة المنظمة، والتي لا مناص منها لأنها منتشرة في كل مكان. ومن المثير للاهتمام أن البعض من المنتسبين لحكم الأقلية لديهم علاقات مشبوهة. عموما، قد يحمل المستقبل في طياته إجابات لهذه التساؤلات. ولكن الحرب التي تدور رحاها في كنف السرية ستستمر، نظرا لأنها تتيح للمسؤولين السياسيين في كل دول العالم توظيف آليات غير مشروعة محليا ودوليا.
منذ بداية هذه السنة تعرض العشرات من الدبلوماسيين الأمريكيين (والكنديين) في كوبا لمشاكل واضطرابات في السمع لا يعلم سببها الحقيقي. وفي الأثناء، قد يكون ذلك جراء محاولة السلطات الكوبية نصب نظام تنصت في المنطقة. وفي هذا السياق، من الواضح أن هذا النظام غير ناجع من الناحية التقنية، ذلك لأنه فقد ميزة السرية وقدرته على التخفي. على غرار أجهزة التجسس الاستخباراتي الاستباقية الموجودة، هناك أجهزة مفعلة بشكل نشط وظفت بهدف تعقب الإرهابيين وتصفيتهم.
على العموم، يعتبر العامل الأكثر نجاعة في القضاء على المخالفين، التضليل الإعلامي الذي للأسف لا يصدر عن موسكو فقط. ففي الحقيقة، يعد الأمريكيون سادة العالم في ما يتعلق بهذه المسألة. من هذا المنطلق، يمكن القول إنهم “لم يكذبوا” حيال امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، الأمر الذي سمح لهم بغزو البلاد في سنة 2003. هم في الواقع، كانوا موقنين ومصدقين لحقيقة ما قالوه. وبالتالي، يعتبر هذا الأمر الأخطر على الإطلاق في خضم الدولة، حيث يأبى السياسيون في السلطة أن يصغوا إلا لما يريدون.
المصدر: مجلة أتلنتيكو الفرنسية