يتميز المصريون بطقوس احتفالية مميزة في الأعياد، قد لا تتوفر لدى كثير من المجتمعات الأخرى، حيث تعلن الأسر المصرية حالة الطوارئ خلال هذه الأيام التي باتت المتنفس الوحيد أمامها للتمرد على حالة اليأس والإحباط التي تخيم عليها بسبب الأوضاع الاقتصادية الراهنة.
“عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ”.. سؤال تقريري في رداء السخرية والاستنكار طالما يردده المصريون مع اقتراب عيدي الفطر والأضحى، وإن كان هذا العام السؤال أكثر حرقة وحسرة في ظل الارتفاع الجنوني في الأسعار ما تسبب في إفساد فرحة العيد لدى الملايين من الأسر المصرية لعل آخرهم الصدمة التي حلت بما يقرب من 6 مليون مسن تم تأجيل صرف معاشهم لما بعد العيد.
إلا أنه وفي المقابل هناك من أعلن التحدي ليجعل من العيد فرصة لالتقاط الأنفاس وممارسة الطقوس والعادات التي تبعث على الفرحة مهما كانت درجة قتامة الصورة، ليبقى السؤال: كيف أثرت الأوضاع الاقتصادية الراهنة على طقوس احتفالات المصريين بعيد الأضحى؟ وهل باتت فرحة المصريين بعيدهم مهددة بسبب تراجع الظروف المعيشية؟
طقوس وعادات
حزمة من الطقوس والعادات التراثية يتميز بها الشعب المصري في استقبال عيد الأضحى ما جعل مصر على مدار عقود طويلة قبلة للسائحين العرب في أيام العيد وذلك قبل أن يمنى قطاع السياحة بها بانتكاسته الأخيرة التي أفقدتها ريادتها الإقليمية في هذا المجال، وجيل بعد جيل، يستقبل الشعب المصري عيد الأضحى بحزمة من السلوكيات والتقاليد يمكن رصد أبرزها في التالي:
قبل العيد.. فقبل عيد الأضحى بعدة أيام تكتظ شوارع المحافظات المصرية بأكملها بالمارة من المصريين ممن يتهافتوت على محلات بيع الملابس لشراء ملابس العيد، حيث تصطحب المرأة أبنائها برفقة زوجها للتنقل بين المحلات المختلفة من أجل الحصول على أفضل الملابس بأرخص الأسعار، ما يتسبب في إحداث ربكة مرورية في معظم شوارع وميادين القاهرة خلال هذه الأيام.
كما تبدأ بعض الأسر التي عزمت النية على التضحية بشراء الأضحية سواء كانت خرافا أو بعيرًا أو ماشية وهو ما يضفي البهجة والفرحة في معظم البيوت المصرية ممن تتعامل مع الأضحية وكأنها ضيف يجب إكرامه، فضلا عن قيام الأطفال باللعب معها والتقاط الصور في مشهد يظل محفورًا في ذاكرة الصغار إلى أن يكبروا.
وخلال الأيام السبعة تقريبًا التي تسبق العيد تعلن معظم منازل المصريين حالة الطوارئ القصوى حيث البدء في أعمال التنظيف والترتيب وإحداث بعض التجديدات في البيت، كشراء عدد من المستلزمات المنزلية أو دهان بعض الجدران كنوع من الاحتفال بالعيد بصورة تبعث على البهجة.
حديقة الحيوانات بالجيزة قبلة المصريين في العيد
ليلة العيد.. تتحول شوارع القاهرة ليلة العيد إلى سيمفونية من العزف على أوتار الفرحة والبهجة والغناء، حيث تعلو مكبرات الصوت بأغاني العيد وعلى رأسها “يا ليلة العيد”، كما تصير الميادين أشبه بخلية نحل، كل يسعى للحصول على ما ينقصه قبل حلول العيد، فترى الازدحام على محلات الملابس والطعام والحلاقة، فضلا عن قيام البعض بالسهر على المقاهي وفي المتنزهات حتى صلاة الفجر ويظل متيقظًا حتى صلاة العيد.
خلال الأيام السبعة تقريبًا التي تسبق العيد تعلن معظم منازل المصريين حالة الطوارئ القصوى حيث البدء في أعمال التنظيف والترتيب وإحداث بعض التجديدات في البيت
يوم العيد.. كثير من المصريين حين ينتهون من صلاة الفجر يبقون دون نوم حتى صلاة العيد، حيث يخرج الملايين من منازلهم متجهين إلى ساحات صلاة العيد في العراء، فيصطحب الزوج زوجته، والوالد أولاده، ويخرجوا في مشهد مهيب، يرتدون الملابس البيضاء، معطرين بأنقى أنواع العطور، لتتحول شوارع مصر إلى لوحة فنية رائعة تبعث على البهجة والفرحة.
وحين يفرغ المصلون من صلاة العيد، يتبادلون التهاني بالقبلات والأحضان والعناق، كل قد تخلى عن هيبته وكبرياءه، كل قد انتشح رداء التواضع والمحبة والإخاء، الكبير يصافح الصغير، والغني يعانق الفقير، ثم يتوجهون إلى منازلهم، وهنا ينقسم المصريون إلى قسمين:
الأول: المضحين.. يبدأون في ذبح أضحيتهم إما عن طريق أنفسهم أو الاستعانة بجزارين متخصصين في هذه المسألة، حيث يلتف أهل البيت حول الأضحية، وحين تراق دمها يتسابق الجميع لتخضيب أيديهم بتلك الدماء و يضعونها على جدران منازلهم، ثم تبدأ عملية توزيع لحومها على قائمة معدة مسبقًا بأسماء الفقراء والمحتاجين في المنطقة التي يقطن فيها المضحي.
الثاني: غير المضحين.. فيعودون إلى منازلهم بعد أداء صلاة العيد ليتناولوا طعام الإفطار والذي يكون في الغالب عبارة عن قطعة من الكيك مع العسل الأبيض، إلا أن البعض يفضل أن يتناول إفطاره “لحوم”..
صلاة العيد في ساحات العراء أبرز مظاهر الاحتفال في مصر
لا يكاد يخلو بيت في مصر خلال العيد من “الفتة”، وهي عبارة عن خبز ممزوج بلحم والتي تعد الوجبة الرئيسية لمعظم الأسر المصرية خلال أيام العيد، ومن الطقوس التي يتميز بها المصريون في هذه الأيام ما يطلقون عليه “العيدية” وهي عطية من النقود يعطيها الأب لأبناءه أو القريب لأقاربه، حيث يصطف الأطفال عقب عودة والدهم من صلاة العيد في انتظار “العيدية” والتي تكون في الغالب نقودًا جديدة تبعث الفرحة في نفوس الصغار، يذهبون لإنفاقها في الملاهي والمتنزهات الترفيهية خاصة حديقة الحيونات بالجيزة وشراء الألعاب وبعض الأطعمة.
وفي المساء تبدأ مرحلة تبادل الزيارات بين الأهل والأقارب، حيث يتوجه الوالد لزيارة بناته المتزوجات ويتوجه الرجل لزيارة أخواته، والجيران يتبادلون الزيارات بين بعضهم البعض، إلى الحد الذي قلما تجد أهل بيت في مكانهم، فبعضهم عند البعض الآخر والعكس.
ورغم الوضع الاقتصادي المتدني الذي يحياه المصريون هذه الأيام، إلا أن البعض أبى إلا أن يواصل ممارسة طقوس الاحتفال بالعيد حتى وإن كانت عبر الحد الأدنى من العادات والتقاليد الموروثة، وهو ما يدعو للتساؤل: هل تنعكس تلك الظروف على أجواء احتفالات المصريين بالعيد؟
تراجع إقبال المصريين على شراء الأضحية هذا العام، خاصة بعدما وصلت إلى أسعار غير مسبوقة
أوضاع اقتصادية متردية
في تقرير لـ”نون بوست” تناول كيف وصل الوضع المعيشي للمصريين من تدني بصورة لم يسبق لها مثيل طيلة عقود طويلة مضت، حيث تعرض محدودو الدخل في مصر في الفترة الأخيرة لصدمات ارتفاع أسعار السلع والخدمات بصورة جنونية، فلم تخرج سلعة ضرورية أو خدمة حيوية عن السقوط في فخ زيادة أسعارها بصورة أثقلت كاهل المواطنين ممن تحول جزء كبير منهم إلى شريحة الفقراء.
التقرير تطرق إلى آخر الزيادات في الأسعار والتي كانت في فواتير المياة وفق شرائح جديدة أقرتها شركة المياه القابضة بنسب تتراوح ما بين 20 إلى 70 %، وفي المواصلات العامة زادت من 50 – 200%، بينما في الوقود والطاقة فكانت الزيادة الأبرز حيث وصلت في بعضها إلى 100% كما هو الحال في أسطوانة الغاز والتي ارتفعت من 15 جنيهًا إلى 30 جنيهًا مرة واحدة.
علاوة على زيادة لتر سعر البنزين(80) ليصل إلى 3.65 جنيه للتر بدلا من 235 قرشا، و5 جنيهات للتر 92 بعدما كان 350 قرشا، كما تحرك سعر السولار من 235 قرشا إلى 3.65 جنيه، بينما ارتفعت أسعار الفواتير بنسبة تتراوح ما بين 15 – 42% للاستهلاك المنزلي، وبنسبة تتراوح بين 29- 46% للاستهلاك التجاري.
القفزات الجنونية في الأسعار وما أعقبها من زيادة نسب التضخم التي وصلت بحسب الإحصائيات الرسمية إلى 32% دفعت الكثير من الشرائح المجتمعية إلى التحرك من أجل المطالبة بالحد الأدنى من حقوقهم على الأقل، في محاولة للتعاطي مع الزيادات الهائلة في السلع والخدمات، وهو ما يفسر زيادة معدلات الاحتجاجات المجتمعية في الآونة الأخيرة لاسيما قطاع العمال الذي يشهد هذه الأيام حالة من الحراك من إضرابات واعتصامات تنديدًا بعدم حصولهم على حقوقهم المشروعة من حوافز وعلاوات.
كل ما سبق ساهم بشكل كبير في زيادة رقعة الفقر في مصر، فرغم تجاوز عدد الفقراء حاجز الـ30 مليون مصري ممن تقل دخولهم اليومية عن حد خط الفقر العالمي والمقدر 1.9 دولار ( 36 جنيها) فإن هذا الرقم مرشح للزيادة بصورة كبيرة خلال الأيام القادمة في ظل الاستمرار على نفس السياسات وذات الآليات المعمول بها دون تجديد أو تطوير.
رغم الوضع الاقتصادي المتدني الذي يحياه المصريون هذه الأيام، إلا أن البعض أبى إلا أن يواصل ممارسة طقوس الاحتفال بالعيد حتى وإن كان عبر الحد الأدنى من العادات والتقاليد الموروثة
ارتفاع الأسعار أفقد المصريين فرحة العيد
ويمكن الوقوف على تأثير هذا الوضع على طقوس احتفالات المصريين في العيد من خلال عدد من الظواهر:
أولها: تراجع إقبال المصريين على شراء الأضحية هذا العام، خاصة بعدما وصلت إلى أسعار غير مسبوقة، حيث وصل سعر صك الأضحية هذا العام إلى 2900 جنيه، مقابل 2195 جنيها العام الماضي، بزيادة نحو 32%.، هذا في الوقت الذي لا زالت دخول المواطنين ثابتة في مكانها.
ثانيًا: عزوف نسبة كبيرة من المواطنين عن شراء مستلزمات العيد من ملابس وطعام وغير ذلك وهو ما لمسناه من خلال استطلاع رأي بعض المصريين ممن أكدوا أنهم لم يشتروا ملابس هذا العيد مكتفين بما اشتروه في عيد الفطر، علاوة على أن بعضهم أكد عدم قدرته على شراء اللحوم لأول مرة في حياته.
ثالثًا: اقتراب موعد الدراسة، فمن المقرر أن يبدأ العام الدراسي الجديد عقب نهاية أجازة العيد وهو ما يعني ضرورة توفير ميزانية خاصة استعدادًا لهذا الموسم، من ملابس ورسوم دراسية وكتب وغير ذلك من مستلزمات الدراسة التي باتت تمثل عبئًا إضافيا على كاهل محدودي الدخل، ما دفع بعضهم إلى تحويل مدخراته بالكامل للموسم الدراسي على حساب العيد، ما أفقدهم الإحساس بفرحته.
رابعًا: تأجيل صرف معاشات المستحقين لما بعد العيد، في قرار جاء بمثابة الصدمة، حيث أن ما يزيد عن 6 ملايين أسرة منتفعة من هذا المعاش قد أعدت نفسها للعيد اعتمادًا على معاشها، ومن ثم فقد تم اغتيال فرحتهم بسبب تأخر الصرف، ما أثار الكثير من التساؤلات والاستنكار من قبل الجميع دون استثناء ومع ذلك لم تتراجع الحكومة عن قرارها.
ومع كل هذا فهناك قطاع كبير من المصريين يتمسك بطقوس الاحتفال بالعيد والعادات الموروثة أيا كانت الظروف التي يعيشونها، فالعيد بالنسبة لهم ظرف استثنائي يجب أن يتم التعامل معه بمعزل عن المناخ العام، فربما يكون الفرصة السنوية الوحيدة التي يتسول فيها المصريون الفرحة في ظل تلك الأجواء الملبدة بالإحباط واليأس.