خفت حدة التوتر مؤخرًا بين الهند وتركيا، بعد أن وصلت العلاقات بينهما إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2020، ورغم التجميد المؤقت للقضايا الإقليمية الشائكة بينهما، ازدادت الزيارات المتبادلة وحدثت عدة تطورات نحو تقارب البلدَين، فقبل بضعة أشهر التقى الرئيس التركي نظيره الهندي في نيودلهي، وناقشا سبل تعزيز العلاقات الثنائية، لا سيما في مجالات التجارة والاستثمار، والتي تقترب حاليًّا من 14 مليار دولار.
أثار الاجتماع توقعات بذوبان الجليد في علاقة البلدَين، ورغم أن الهند أصبحت ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا في شرق آسيا بعد الصين، لكن هذا لا يعني بأي حال أن أحد الطرفَين لن ينتهي به الأمر إلى العودة للمربع الأول، فالوضع الحالي لا يزال بعيدًا عن أن يعكس نتائج التعاون الودّي والمثمر بين البلدَين.
في الواقع، ما زال هناك العديد من الحواجز والقضايا الجوهرية التي فشل البلدَين في حلّها حتى الآن، وباختصار، إن أولوية الهند حاليًّا تجاه تركيا تتمثل في منعها من تطوير علاقات عسكرية ومستدامة مع باكستان وأفغانستان، بجانب إسكات صوتها عن قضية كشمير في المنتديات الدولية.
بينما يظل ملف تدفق الاستثمارات في الاتجاهَين وتنويع وتحسين العلاقات التجارية على رأس القائمة حاليًّا بالنسبة إلى تركيا، لا يبدو أن الأخيرة، رغم تبنّيها نهجًا أكثر واقعية في سياستها الخارجية، على استعداد لفصل نفسها بالكلية عن باكستان وقضية كشمير.
العلاقة الفاترة
رغم أن تركيا والهند لديهما تاريخ وديموغرافية وسكان مختلفين، إلا أنهما تشتركان في العديد من الخصائص، فكلاهما قوتان عسكريتان صاعدتان، وموقعهما الجيوسياسي يجعلهما لاعبًا هامًّا، ليس على مستوى المنطقة فحسب بل على مستوى العالم أيضًا.
بجانب أن كلتا الدولتَين تعملان على إعادة تجديد علاقتهما على المستوى الإقليمي والعالمي، ولديهما تطلعات ورغبة قوية في تحقيق الاكتفاء الذاتي في القضايا الدفاعية والتكنولوجية، وقد حققتا تقدمًا اقتصاديًّا، إذ يعدّ اقتصاد تركيا والهند من بين الاقتصادات التي تتوسع بشكل مذهل، وفي السنوات القادمة من المتوقع أن يتم تصنيفهما ضمن أقوى 10 اقتصاديات على مستوى العالم، إضافة إلى أن كلا البلدَين غنيان بالحضارة والتراث الثقافي.
كذلك إن الحزبَين الحاكمَين في كلا البلدَين، حزب بهاراتيا جاناتا في الهند وحزب العدالة والتنمية في تركيا، يركز خطابها الرسمي -علنًا أو ضمنًا- على التراث الحضاري والانتماء الثقافي، وإبراز قيم كل منهما.
في الواقع، الهند ليست غريبة على الأتراك رغم المسافة الجغرافية، حيث انخرطت شعوب شبه القارة الهندية والأناضول معًا في التبادلات التجارية والثقافية والتعاون الدبلوماسي على مرّ القرون، ويشير المؤرخون إلى وجود علاقات واتصالات سياسية بين الإمبراطورية العثمانية وعدد من السلالات الإسلامية التي حكمت منطقة الساحل الغربي للهند.
وفي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بلغت العلاقة قمتها، إذ دعمت تركيا الحكّام الهنود المحليين والقوى المؤيدة للاستقلال، وفي المقابل نشط قسم من المسلمين في الهند لجمع التبرعات ودعم الدولة العثمانية، وفي حين كانت تركيا جمهورية مستقلة منذ عام 1923، كانت الهند تناضل من أجل الاستقلال.
ثم حين أعلنت الهند استقلالها في 15 أغسطس/ آب 1947، اعترفت بها تركيا على الفور وأقامت معها علاقات كاملة، وكان هناك بعض النوايا الحسنة المتبادلة، لكن تراجعت علاقتهما بسرعة كبيرة، فما الذي أزعج هذه العلاقة الممتدة منذ قرون؟
في الواقع، قسمت ديناميكيات الحرب الباردة البلدَين نحو مسارات مختلفة، ووجدت الهند وتركيا نفسيهما في معسكرَين مختلفَين منعهما من تطوير علاقات وثيقة، ويشير المؤرخ ويليام هيل في كتابه “السياسة الخارجية التركية: 1774-2000” إلى أن تركيا على عكس الهند، “كانت تعيش وسط منطقة من التنافس الشديد بين القوى العظمى”، والتي حددت خياراتها السياسية على الساحة الدولية.
وفي حين تحركت تركيا نحو حلف شمال الأطلسي، وبناء علاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لمواجهة التهديد السوفيتي في جوارها، تزعّمت الهند المستقلة حديثًا حركة عدم الانحياز، ومالت فيما بعد نحو الاتحاد السوفيتي، ما منع أنقرة ونيودلهي من إقامة علاقات كاملة رغم زيارة رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس الهند عام 1958، ثم زيارة العودة لرئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو إلى تركيا عام 1960.
وفي الواقع، كلما بدت علاقة البلدَين مهيَّأة لبداية جديدة، تحطّمت بسبب موقف تركيا الداعم لباكستان، وحتى اليوم ظل موقف تركيا المعارض لوجهة النظر الهندية بشأن باكستان وكشمير محورًا رئيسيًّا في توتر العلاقات التركية الهندية.
ثم مع مؤشرات تفكُّك الاتحاد السوفيتي، تلاشت القيود الجيوسياسية التي فرضتها الحرب الباردة، وشهد البلدان تحولًا اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا هائلًا، وزار رئيس الوزراء التركي تورغوت أوزال نيودلهي عام 1986 بهدف إعادة بناء العلاقات، وردَّ بالمثل رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي عام 1988، ومع ذلك لم تتطور العلاقة بالوتيرة المطلوبة، ولم تسفر عن أي نتائج ملموسة.
استؤنفت المحاولات في التسعينيات من خلال علاقات دبلوماسية أكبر، وأدّى وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة إلى تغيير جذري في السياسة، حيث حاول أردوغان إعادة ضبط السياسة الخارجية التركية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وقطع بالفعل شوطًا طويلًا في مسار العلاقات التجارية مع الهند، لكن لم تتطور العلاقة في كافة المجالات الأخرى، ولم يشهد البلدان تقدمًا كبيرًا في علاقاتهما السياسية.
في واقع الأمر، ظلت علاقة الهند السياسية مع تركيا مجمّدة على مدى العقدَين الأولين من القرن الحادي والعشرين، ولم تنجح محاولات فكّ أنقرة ارتباطها مع باكستان ثم موقفها من قضية كشمير، ما أدّى إلى بقاء العلاقات السياسية عالقة في ديناميكيات الحرب الباردة، رغم انتعاش التجارة بين البلدَين في فترات متقطعة.
التطويق: استراتيجية الهند الجديدة تجاه تركيا
استمرت العلاقات التركية الهندية على خلاف، ومع ذلك تمكّن البلدان من تجنُّب المواجهة المفتوحة، لكن بمجيء ناريندرا مودي دخلت الهند حقبة جديدة، وانتهجت سياسة تصادمية في التعامل مع تركيا.
في الواقع، لم تهتم الحكومات الهندية السابقة كثيرًا بالخطاب السياسي التركي، وظلت خلافات البلدَين يُعبّر عنها داخل الساحة الدبلوماسية والإعلامية، لكن حكومة مودي، خاصة بعد عودتها إلى السلطة عام 2019، وخلافًا للحكومات السابقة، لم تكن متسامحة تمامًا مع السياسة التركية، وبدأت بتنفيذ تغييرات جذرية في سياستها مع أنقرة، تركّزت بشكل أساسي على خلق العديد من حركات الكمّاشة لمحاصرة تركيا في ساحتها الخلفية، رغم التباعُد الجغرافي بين الهند وتركيا، بجانب دعم ورعاية خصوم تركيا، وإثارة القضايا التي تضرّ بمصالح الأخيرة.
خلال الأعوام الثلاثة السابقة، قامت نيودلهي بتعزيز علاقاتها مع قبرص، ودعمت القبارصة اليونانيين في الأمم المتحدة، وقد طلب الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس من الهند مساعدته عسكريًّا في إعادة توحيد قبرص، ووقّع البلدان اتفاقيات تعاون دفاعية وعسكرية في العام الماضي.
أيضًا قامت الهند بعدة زيارات إلى أرمينيا بهدف تعزيز الشراكة العسكرية معها، إذ دعمتها بصفقات أسلحة كبيرة في حربها الأخيرة مع أذربيجان، وأبرمت معها اتفاقية دفاع مشترك، ويعدّ التعاون العسكري بين البلدَين لافتًا بشكل خاص، فبموجب اتفاقية الدفاع الموقّعة حديثًا بين البلدَين، سترسل نيودلهي لأول مرة إلى أرمينيا قاذفات صواريخ بيانكا متعددة الفوهات، وصواريخ مضادة للدبابات، ومجموعة من الذخائر محلية الصنع.
أعلنت الهند صراحة انحيازها الكامل إلى أرمينيا، ولذا اعتبرت أذربيجان أن تسليح الهند لأرمينيا يعدّ “خطوة غير ودّية”، وادّعى الرئيس الأذربيجاني أن الأسلحة الهندية لن تمكّن أرمينيا من شنّ حرب ضد بلاده، وجدير بالذكر أن أرمينيا أعربت عن دعمها للهند فيما يتعلق بكشمير.
كذلك تمكّنت الهند من بناء علاقات أوثق مع اليونان، رغم أن الأخيرة عضو في حلف شمال الأطلسي، وفي الواقع شهدت علاقات الهند مع اليونان نموًّا كبيرًا في السنوات الثلاث الأخيرة، وأصبح مودي أول رئيس وزراء هندي يزور اليونان منذ أكثر من 40 عامًا.
وقبل شهور قليلة، وقّع البلدان اتفاقية شراكة استراتيجية لزيادة التعاون في مجالات الدفاع والطاقة، وأجرت الهند مناورات عسكرية مع اليونان في البحر الأبيض المتوسط، وقدمت للأخيرة مساعدات عسكرية سخية، ومثلما تدعم الهند اليونان في قضية قبرص، كذلك تدعم اليونان الهند في قضية كشمير.
أما على المستوى الدبلوماسي، تقود الهند تحركات مضادة تجاه تركيا، إذ انضمت إلى الأصوات التي تدين تعامل أنقرة مع الأكراد، وفي خطوة أبعد وغريبة بعض الشيء، انتقدت الهند سياسة تركيا في ليبيا وسوريا، وأصدرت بيانًا خاصًّا تُعبّر فيه عن رفضها للعملية العسكرية التركية في شمال سوريا، كما دعت أنقرة بشكل متكرر إلى احترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها، وفي حين تعارض تركيا استمرار بشار الأسد كرئيس لسوريا، تواصل الهند علاقاتها الجيدة معه.
لكن مع ذلك، لم تكتفِ الهند بالردّ على أنقرة في الساحة الدبلوماسية ودعم خصومها عسكريًّا، بل فرضت قيودًا تجارية عليها، فمنذ عام 2020 خفضت نيودلهي بشكل كبير وارداتها من تركيا، والأكثر من ذلك أنها ألغت صفقة عسكرية بقيمة 2 مليار دولار مع شركة دفاع تركية، ووصل الأمر أن وزارة الخارجية الهندية أصدرت تحذيرًا بشأن السفر إلى تركيا.
ومن اللافت أنه في كل مرة يتحدث فيها أردوغان عن كشمير، يردّ مودي بعقد اجتماعات مع رئيس قبرص ورئيسَي وزراء أرمينيا واليونان، ويجتمع المسؤولون الهنود على الفور مع كبار قادة اليونان وقبرص وأرمينيا، وقد استطاعت الهند بالفعل توحيد هذه الدول ضد تركيا، وقبل أشهر قليلة وقّعت أرمينيا واليونان وقبرص مذكرة للتعاون العسكري المشترك.
من الواضح أن التواصل الهندي على وجه التحديد مع قبرص واليونان وأرمينيا هو نوع من الرسائل التي تريد الهند إيصالها إلى أنقرة، وفي الواقع، ما تسعى الهند إليه من خلال سياستها الجديدة مع تركيا هو ببساطة “المقايضة”، وإرسال رسالة لأردوغان مفادها إذا كنت ستطرح قضية كشمير في المنتديات الدولية وتقدم دعمًا عسكريًّا لباكستان، فهذا ما سنفعله في باحتك الخلفية.
بالتالي لن تثير الهند قضية قبرص مقابل أن تقوم تركيا بالأمر نفسه تجاه قضية كشمير، كذلك تخفّف الهند من الدعم العسكري السخي لليونان وقبرص وأرمينيا، مقابل أن تخفّف تركيا من دعم باكستان.
تجدر الإشارة كذلك إلى أن شبكة غولن زادت الطين بلة في العلاقات بين أنقرة ونيودلهي، فلدى تركيا موقف حسّاس جدًّا تجاه حركة غولن التي تصنّفها منظمة إرهابية، حيث يتم التحقيق معهم ومحاكمتهم بتهمة التخطيط للانقلاب الفاشل في 15 يوليو/ تموز 2016، ولا تزال بعض المجموعات التابعة لغولن نشطة في الهند حتى اليوم.
وفي الواقع، لم يترك الأتراك أي فرصة لإثارة هذه القضية مع الهنود، وهي من بين الخلافات القوية بين البلدَين، إذ ضغطت أنقرة كثيرًا على الحكومة الهندية لإغلاق مدارس ومؤسسات غولن التي تنتشر في أجزاء كثيرة من المدن الهندية، من دلهي إلى بنغالورو إلى مومباي.
وفقًا لصبري إرغن، القنصل العام التركي في مومباي، وجدت التحقيقات التي أجرتها تركيا صلات بين مرتكبي محاولة انقلاب 2016 وجماعة غولن بالهند، ومع ذلك لم تستجب الهند بشكل إيجابي لمخاوف تركيا الأمنية، ورفضت إغلاق أي من مؤسسات غولن، رغم أن الهند وتركيا وقّعتا على معاهدة تسليم المجرمين، ورغم أن تركيا سلمت العديد من الهنود المشتبه في انضمامهم إلى تنظيم الدولة لنيودلهي.
بشكل عام، تمثل علاقات الهند المتنامية مع أرمينيا واليونان وقبرص تطورًا هامًّا في أولوياتها الجيوسياسية، ومن المرجّح أن تؤدي إلى زيادة التوترات في المنطقة في السنوات القادمة، حيث عزّزت الهند بنشاط وبشكل سريع في السنوات الأخيرة علاقتها مع القوى التي لديها عدوات إقليمية مع تركيا، إلى حدّ أنها استطاعت تشكيل ما يشبه التحالف بين هذه القوى.
وفي الواقع، إن شراكة الهند مع هذه الدول تتجاوز الحسابات الاقتصادية المعلنة، وهي تسعى الآن بنشاط إلى توسيع وجودها العسكري مع أرمينيا واليونان وقبرص لمحاصرة النفوذ التركي، ومن الواضح أيضًا أن أنقرة حذرة من القمة الثلاثية القادمة في هذا العام بين اليونان و”إسرائيل” وقبرص والهند.
كما أن الهند ما زالت تعمل على التلاعب بالمشاعر وتسميم العقول الشابة، من خلال نشر خطاب الكراهية والدعاية المتحيّزة عن تركيا، ووفقًا للقوميين الهنود لا ينبغي أن يكون هناك أي تبادل ثقافي بين تركيا والهند.
وقد قام بالفعل مثقفون وسياسيون هنود ببناء سرد يعتمد بالدرجة الأولى على قراءات أيديولوجية في غاية التطرف للسياسة التركية، والاعتماد الكامل على الروايات الغربية دون تدقيق أو نظر، خصوصًا الخطاب الذي خلفته السياسات الاستعمارية، ومعظم الآراء المنشورة في الهند حول تركيا تشير إلى أن أردوغان وحزبه يساعدان على تطرف المسلمين الهنود، ويعملان على إحياء الخلافة العثمانية.
ويلاحظ بالفعل أن الوعي التاريخي لتركيا بشأن الماضي العثماني له تأثير غير عادي على صنّاع السياسات في نيودلهي، رغم أن النظام الحاكم في الهند يعمل بشكل جدّي على ترويج “الحضارة الهندوسية”، ويدّعي أن هناك تفوقًا واستثناء حضاريًا للهندوسية، وبالمنطق نفسه يعترض الهنود على ترويج تركيا للشكل التاريخي والحضاري الذي انبثقت منه.
باكستان: حجر الزاوية
رغم محاولة أنقرة في مناسبات مختلفة تطوير علاقات سياسية ودبلوماسية مع الهند، إلا أن علاقتها مع باكستان أثّرت بشكل سلبي على علاقاتها مع الهند، والحقيقة أن باكستان لا تزال تلقي بظلالها الأكبر على العلاقات التركية الهندية، وإذا استمر التعاون العسكري بين أنقرة وإسلام آباد، فلن يبشّر ذلك بالخير لمستقبل العلاقات التركية الهندية.
إتمام صنع سفينتَين عسكريتَين لصالح البحرية التركية
في السنوات الخمس الأخيرة، وتحديدًا بعد انتخاب عمران خان عام 2018، تعزز التقارُب السياسي وتعمّقت علاقات تركيا مع باكستان بشكل كبير، واكتسبت مكانة “الشراكة الاستراتيجية”، وربما يكون الأمر الأكثر أهمية هو التعاون العسكري بين البلدَين في مجالات التصنيع الدفاعي وتجارة الأسلحة والتدريب العسكري المشترك.
تساعد أنقرة إسلام آباد على تحديث جيشها بالطائرات المسيّرة والسفن الحربية الحديثة، وحاليًّا أصبحت تركيا ثاني أكبر مورّد للأسلحة لباكستان بعد الصين، بجانب أن القنصلية التركية في كراتشي بباكستان هي أكبر قنصلية لتركيا في العالم، ما يرمز إلى أهمية العلاقات التركية الباكستانية.
افتتاح المبنى الجديد للقنصلية التركية في كراتشي الباكستانية
الأهم قد يكون من ذلك أن تركيا وباكستان تتمتعان بعلاقات قوية ودافئة إلى جانب الروابط التاريخية والثقافية والدينية المشتركة، وما زالت أنقرة داعمة للموقف الباكستاني بشأن كشمير، وفي حين فقدت باكستان الدعم العربي فيما يتعلق بقضية كشمير، ازداد ارتباط العالم العربي بالهند، وتأثرت علاقة باكستان مع الرياض بسبب موقف الأخيرة تجاه سياسات الهند في كشمير وتعميق علاقتها معها، لكن مع أنقرة لم يتغير الوضع إلى حدّ كبير.
وما زالت تركيا وباكستان تقدمان الدعم السياسي والعسكري لبعضهما على نطاق واسع، حيث على سبيل المثال عندما أطلقت أنقرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 عملية عسكرية في شمال سوريا، كانت باكستان من بين الدول القليلة التي دعمت تركيا، كما كانت أيضًا داعمة لتركيا في شمال قبرص وليبيا.
وما يزيد العلاقات الثنائية صلابة هي المساعدة العسكرية التي قدمتها باكستان لأذربيجان مع تركيا خلال حرب ناغورنو كاراباخ، حيث تمكّنت الثلاثية التركية-الباكستانية-الأذربيجانية من تحقيق نجاحات استراتيجية جادّة في جنوب القوقاز.
لذا من الممكن القول إن العلاقات التركية الباكستانية متينة ولن تضعف في المستقبل القريب، وتظل أنقرة أكثر حلفاء باكستان الذين يمكن الاعتماد عليهم، ويمكن تقدير القرب السياسي بين البلدَين من خلال عدد الزيارات رفيعة المستوى التي تمّت في العقدَين الأولين من القرن الحادي والعشرين، إذ في فترة 2003-2022 زار أردوغان باكستان بصفته الرسمية 11 مرة، 7 مرات كرئيس للوزراء و4 مرات كرئيس، في مقابل 4 زيارات رئاسية و6 زيارات لرؤساء الوزراء الباكستانيين.
وفي خطاب أردوغان الذي ألقاه عام 2020 أمام جلسة في البرلمان الباكستاني، تعهّد بأن أنقرة ستواصل دعم إسلام آباد في قضية كشمير، بل أنه شبّه كفاح الكشميريين بقتال بلاده خلال الحرب العالمية الأولى، إذ قارنهم بقتال العثمانيين في حملة غاليبولي عام 1915.
حينها عبّرت الهند عن استيائها وردّت على تصريحات أردوغان بشكل قوي، واتهمته بأنه يشوّه أحداث التاريخ، ولا يفهم في الدبلوماسية، وحذّر المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، رافيش كومار، من أن هذه التصريحات ستكون لها آثار قوية على علاقة الهند بتركيا.
كشمير: مصدر إزعاج
ما زالت قضية كشمير أكبر حجر عثرة أمام تركيا والهند، حيث أدان أردوغان استخدام الهند القوة في كشمير، واتخذ موقفًا صريحًا وقويًّا تجاه الهند، خاصة بعد أن غيّرت الوضع الدستوري لجامو وكشمير في أغسطس/ آب 2019، وألغت المادة 370 التي كانت توفر وضعًا خاصًّا لمنطقة جامو وكشمير، وقبل شهر أيّدت المحكمة العليا في الهند قرار مودي بإلغاء الحكم الذاتي لمنطقة جامو وكشمير، وتجريدها من الوضع الخاص الذي كانت تتمتع به.
كانت تركيا واحدة من الدول القليلة التي انتقدت الهند، وفي حين التزمت الدول العربية الحياد وامتنعت عن انتقاد نيودلهي، خاصة السعودية، تحدثت أنقرة بصوت عالٍ عن معاملة الأقلية المسلمة وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها القوات الهندية في المنطقة، ولم يتردد أردوغان في القول إن “الهند تحاصر الكشميريين وترتكب المجازر ضد المسلمين”.
ومع إدراكه الكامل لموقف الهند الثابت تجاه قضية كشمير، حاول أردوغان جذب التركيز العالمي من خلال طرح مطالب الشعب الكشميري لأول مرة في مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة، وأصبح أول زعيم دولي يثير مرارًا وتكرارًا نزاع كشمير في خطاباته في المنتديات الدولية في أعوام 2019 و2020 و2021 و2022، بجانب عقد تركيا سلسلة من المؤتمرات الدولية حول كشمير.
حاليًّا، تعدّ تركيا الداعم الدولي الأكثر نشاطًا لكشمير، وأبدى العديد من القادة الكشميريين إعجابهم بأردوغان، إضافة إلى تعاطف المسلمين الهنود مع أنقرة، الأمر الذي أثّر بشكل خطير على العلاقات الثنائية بين البلدَين، وأغضب الهند التي تعتبر كشمير “جزءًا لا يتجزأ من أراضيها”، إذ أصدرت وزارة الخارجية الهندية بيانات أدانت فيها مواقف تركيا، وطالبتها أن تتعلم احترام سيادة الدول الأخرى، زاعمة أن أنقرة تستخدم قضية كشمير لإلهاء الأتراك عن مشاكلهم الداخلية.
كما ألغى مودي زيارته الرسمية إلى أنقرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ولم يزرها منذ ذلك الوقت، وأيضًا أصبحت نيودلهي منزعجة للغاية من الجمعيات الخيرية التابعة لتركيا في كشمير، والتي أصبحت تحت رادار أجهزة الأمن الهندية.
آفاق المستقبل
ربما السؤال الأهم هو ما الذي يدفع تركيا إلى هذا الاهتمام الكبير بكشمير وباكستان؟ رغم أن باكستان تقدم مكاسب محدودة لتركيا، ولا تستفيد الأخيرة كثيرًا من الانحياز للأولى بعكس الحال، حيث إذا استغلت تركيا الإمكانات الهائلة مع الهند، خاصة أن كليهما من اقتصادات مجموعة العشرين، وإذا قامت بتطوير علاقاتها معها، فستكون ذا فائدة اقتصادية كبيرة لها، مثلما فعلت دول الخليج مؤخرًا.
إن الروابط التاريخية ولمسات الماضي والأيديولوجيا ما زالت تحرك كلًّا من السياسة التركية والهندية، ولا تتعلق هذه التوترات بالسياسة فحسب، بل تمتدّ جذورها أيضًا إلى ثقل التاريخ والدين، وهما جزء ضروري من المعادلة، سواء كان حقيقيًّا أو متخيّلًا.
تميل أنقرة إلى النظر إلى باكستان وكشمير من خلال منظور “التضامن الإسلامي”، ولعبت بالفعل العديد من الأسباب التاريخية والدينية والثقافية دورًا مؤثرًا في مسار العلاقات بين البلدَين حتى يومنا هذا.
من الممكن القول إن الهند وتركيا ستظلان عالقتَين بشكل ما في الحرب الباردة، حتى وإن انخفضت حدّتها، فالتضامن المتجذّر بين باكستان وتركيا وتعميق التعاون العسكري والأمني بينهما، جعل من الصعب على نيودلهي أن تنظر بشكل إيجابي تجاه أنقرة.
كذلك إن استمرار الهند في تعزيز شراكتها العسكرية مع اليونان وقبرص وأرمينيا ألد خصوم تركيا، سيعرقل ولا شك نمو العلاقات الطبيعية، ويوجد حاليًّا بعض المؤشرات على أن الهند ستوسّع من علاقاتها وشراكتها مع” إسرائيل” ومصر وسوريا والإمارات وفرنسا وإيطاليا بهدف مواجهة تركيا، وكما هو معلوم هذه الدول تعارض السياسة التركية، ويبدو أن تركيا أخذت هذا الأمر بعين الاعتبار أثناء إعادة بناء العلاقات مع بعض هذه الدول مؤخرًا.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن علاقات تركيا المتنامية مع دول جنوب آسيا، والتعاون الأمني والدفاعي المتزايد مع إسلام آباد، وموقفها من كشمير، والجهود التي تبذلها حاليًّا للعب دور في أفغانستان، بجانب موقفها من قضية الروهينجا، كل ذلك من وجهة نظر الأوساط السياسية والعسكرية الهندية يشكل تهديدًا استراتيجيًّا ومباشرًا على مصالح الهند، ما سيفتح مرحلة أكثر صعوبة في العلاقات بين نيودلهي وأنقرة، وأيضًا تميل وجهة النظر الهندية إلى أن تركيا وباكستان والصين تعمل معًا للسيطرة على التجارة وموارد الطاقة في آسيا الوسطى.
تسير العلاقات بين تركيا والهند حاليًّا في مسار غير واضح، ومع ذلك تمضي تركيا قدمًا في التجارة والاستثمارات دون أن تضحّي بما سبق ذكره، لكن في أداء هذا التوازن قد تعرقل باكستان وكشمير العلاقة مجددًا في أقرب توتر يحدث، وسرعان ما تعود المشاكل إلى الظهور، تمامًا مثل علاقة أنقرة الحالية بـ”إسرائيل”.
ولا يبدو أن الاتجاهات الأخيرة في المشهد الجيوسياسي تبشّر بالخير، فيما يتعلق بتطوير العلاقات وإقامة صداقة دائمة بين تركيا والهند، ففي حين تحاول تركيا اللعب على المساحات المتاحة دون الالتزام الكامل بمعسكر معيّن، تنجذب الهند بشكل متزايد إلى المعسكر الغربي.
ربما تتغير بعض الأمور عقب نتيجة الانتخابات الهندية لعام 2024، لكن بغض النظر عما إذا كان مودي سيظل رئيسًا للوزراء أو سيفسح المجال لقيادة جديدة، فإن نظرة الهند إلى تركيا ستظل كما هي إلى حدّ كبير.
باختصار، ورغم الجهود المبذولة لتخفيف العداء المتبادَل وتحسين العلاقات، من المرجّح أن تستمرَّ الخلافات السياسية، فالعلاقات بين الهند وتركيا تفتقر إلى الدفء السياسي وقائمة الآن على أساس البراغماتية.
جدير بالذكر أن المواجهة الدبلوماسية والعسكرية الجديدة التي تقودها الهند من خلال التحالف مع خصوم تركيا وبناء علاقات معهم واحدًا تلو الآخر، لا يمكن لتركيا أن تتجاهلها، ويبدو أن أنقرة ستظل لفترة عرضة للسموم والخصومات التي تحاول الهند زيادة اشتعالها، لكن من غير المرجّح أن تؤتي استراتيجية الهند ثمارها على المدى الطويل، بل ستساهم في زيادة التصدّعات الجيوسياسية ونشوب تهديدات جديدة في المنطقة.
من الواضح أن الهند تغيرت جذريًّا، وتريد أن تكون استباقية في سياستها الجديدة، ولن ترضى مستقبلًا بالنهج التركي المتمثل في خطوة إلى الأمام في الجانب الاقتصادي وخطوتَين إلى الوراء في الجانب السياسي، من خلال الدفاع عن القضايا الإسلامية (باكستان وكشمير والروهينجا وغزة) التي تؤثر على الهند بشكل مباشر أو غير مباشر.
لذا في حالة استمرار أنقرة في اتّباع مسار “التضامن الإسلامي”، من المرجّح أن نيودلهي ستستخدم ورقة “التجارة والاقتصاد”، والتي ستكون بعد ذلك مشروطة بتقليل أنقرة من التحركات والتصريحات السياسية المزعجة لنيودلهي.