من الطبيعي أنّنا –جميعًا- نميل للبحث عن السعادة والكمال، ونحلم باستغلال الفرص المؤدية لهما في كافة مجالات حياتنا لا سيّما مجالي العمل والعلاقات. لذلك يبدو من الغريب بمكان أن يقوم أحدنا بتدمير إحدى الفرص القادمة إليه بنفسه وبوعيٍ منه لا وربّما بسابق إصرار وتخطيط لذلك، كأن يقوم بسلوكٍ لا داعيَ له ليخرّب عمله، أو يتصرّف بطريقةٍ سيئة برغبةٍ منه مع شريك حياته أو صديقه لتدمير العلاقة وتخريبها.
“لماذا أفعل هذا بنفسي؟”، لا بدّ وأننا جميعًا سبق وأنْ قلنا هذه الجملة، مرةَ واحدة على الأقل وهي دليل صغير على أنّك قد دخلت في دوامة الأفعال التي تدمّر ذاتك، فكلّ تلك السلوكات والتصرفات لا يمكن وصفها على أنها سوء حظٍ أو رغبة مزاجية، وإنما تُعرف في علم النفس بمصطلح “تخريب الذات” أو “ self-sabotage“، وتعرّف بأنها أي تصرف أو سلوك تهدف لخلق المشاكل ومعاكسة الأهداف طويلة الأمد.
عليك أن تصدّق إذن مقولة “أنتَ عدوّ نفسك”، فالكثير من الأحيان تكون فيها بالفعل عدوّ نفسك ومخرّبها الأساسي والرئيسي، وتتحوّل ذاتك لضدّك وضدّ رغباتك
هناك الملايين من الطرق التي تؤدي لتخريب الذات، ولعلّ أكثرها شيوعًا هي التسويف والتأجيل، اللجوء للمخدرات أو الكحول، الأكل المفرِط بشكلٍ يتنافى مع الطبيعيّ، أو محاولة إلحاق الأذى بالجسم بطرقٍ مختلفة.
قد لا يشعر الفرد بأنّ التصرفات التي يقوم بها تهدف لتخريب ذاته وخططه ومستقبله، فغالبية الآثار الناتجة جرّاء سلوكياتهم تلك تحتاج بعض الوقت لكي تظهر وتصبح جليّة، وبالتالي يكون من الصعب عليه بربط ذلك السلوك بعواقبه ونتائجه التي تأتي تباعًا، وهنا تكمن خطورة تلك التصرفات، خاصةً وأنها مجرّد محاولات مضللة لإنقاذ أنفسنا من مشاعرنا وتجاربنا السلبية الراهنة.
عليك أن تصدّق إذن مقولة “أنتَ عدوّ نفسك”، فالكثير من الأحيان تكون فيها بالفعل عدوّ نفسك ومخرّبها الأساسي والرئيسي، وتتحوّل ذاتك لضدّك وضدّ رغباتك. فتلقي ظلال الشكّ على قدراتك ونجاحاتك، وتقوض رغباتنا، وربما يصل بك الأمر لأن تصبح مرتابًا تجاه نفسك والمقربين منك، ما يقودك للتراجع عن أهدافك الحقيقية وخططك الفعلية أو الابتعاد عنها.
تنبع سلوكيات التخريب الذاتيّ من صوتٍ داخليّ يحكم على تجاربنا الحالية من خلال النظر لسابقاتها في الحياة. ودون الشعور بذلك، فإننا نميل لتكوين نظرة عن ذواتنا من خلال نظرات الآخرين وأفكارهم عنا. فعلى سبيل المثال، لو كان والداك ينعتونك بالكسول أو الفاشل في صغرك، فإنّك قد تحافظ على هذه الفكرة عن ذاتك وتصبح تستخدمها بوعيٍ أو لاوعيٍ منك في مواقف حياتك المتعددة، فتصير تحدّث نفسك بأنّك “غير ناجح” وبالتالي لا داعي للمحاولة أو التجريب.
سبب رئيسي آخر يجعلنا نقتاد لتلك التصرفات هو شعورنا بأننا لا نستحق النجاح أو التقدم في حياتنا
والمثال السابق يخبرنا أنّ التنشئة الأولى في مراحل الطفولية المبكّرة مهمة جدًا، فيمكم للأطفال استيعاب الأفكار السلبية التي يكوّنها عنهم آبائهم أو من هم حولهم، ويتشرّبون تلك الأفكار حتى مراحل عمرية متقدمة، ما يؤثر في ثقتهم بأنفسهم وأفكارهم عن ذواتهم. بكلماتٍ أخرى، فالنقد اللاسع والسلبيّ قد يكون ذا آثارٍ عميقة تستمرّ سنين طويلة وتعمل على تدمير ذات الفرد وثقته بإمكانياته ونجاحاته في شتى نواحي الحياة، العملية أو الاجتماعية أو الشخصية.
سبب رئيسي آخر يجعلنا نقتاد لتلك التصرفات هو شعورنا بأننا لا نستحق النجاح أو التقدم في حياتنا، ومن المفارقات أنّ الكثيرين ممن يحملون تلك الأفكار هم من الأشخاص الذين يعملون بجد ويسعون إلى حد كبير لأنهم يحاولون تعويض الشعور بعدم الكفاية والنقصان، وعندما يكون عملهم الشاق على وشك تحقيق نتائج جيدة، يبدأون بمحاولة الهروب والتخريب.
كيف يمكن إيقاف أفكار التخريب الذاتي؟
قد لا يكون من السهل تغيير الماضي ومحو أفكار التخريب الذاتي، لكن يمكننا تحديدها وتعريفها وبالتالي العمل على الحدّ منها كي لا نكون ضحية لأصواتنا الذاتية المعادية لنا والمخرّبة لحياتنا. وكما تقول الكاتبة إليزابيث جيلبرت: “عليك أن تتعلم كيف تختار أفكارك بنفس الطريقة التي تختار بها ملابسك كل يوم. إذا كنت ترغب بالسيطرة على الأشياء في حياتك بطريقة قوية، فعقلك هو الشيء الوحيد الذي يجب أن تحاول السيطرة عليه والعمل على تغييره”.
وبمجرّد معرفتك لمنبع تلك الأفكار والسلوكات، يمكنك أن تميّز الهوية السلبية التي صنعتها لنفسك، وبالتالي يصبح من السهل عليك التعرّف على صوتك الداخليّ الذي يقودك لهدم ذاتك وتخريبها، الأمر الذي يقودك للتعرف على الطرق التي تجعلك تتصرّف كما تحبّ وترغب.
تغيير هذه السلوكيات التخريبية سيجعلنا قلقين وسيتطلب جهدًا كبيرًا، لأنّ الأمر برمّته يعني تحدي المواقف العميقة القديمة والمألوفة لدينا والتي كنّا قد رسمناها حول أنفسنا وآمنّا بها بالمطلق منذ فترة طويلة.