تشهد أجواء البحر الأحمر منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، توتيرًا غير مسبوق، جراء تصعيد جماعة الحوثي اليمنية التي شنت سلسلة من الهجمات باتجاه السفن التجارية والعسكرية المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، ردًا على حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال ضد قطاع غزة وأسفرت حتى اليوم عن سقوط أكثر من 26 ألف شهيد ونزوح قرابة مليوني فلسطيني، فضلًا عن تدمير ما يزيد على ثلثي القطاع.
وينطلق الحوثي إزاء هذا التصعيد – بحسب بياناته – من مقاربات إنسانية وإسلامية، فضلًا عن المقاربة الإيرانية، ويشدد على أن هذا الاستهداف يقتصر فقط على السفن المتجهة لدعم دولة الاحتلال، وأن الملاحة العالمية في البحر الأحمر آمنة بشكل كامل ولن تتأثر بذلك، في محاولة لطمأنة المجتمع الدولي إزاء حركة التجارة العالمية.
جماعة أنصار الله الحـ.ـوثيين تعلن استهداف المدمرة الأميركية "يو إس إس غريفلي" في البحر الأحمر pic.twitter.com/SvechFSqgQ
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) January 31, 2024
وردًا على هذا التصعيد، استهدفت الولايات المتحدة وبريطانيا أهدافًا للحوثيين باليمن في 12 يناير/كانون الثاني الحاليّ، تبعته ضربات أخرى أسفرت عن سقوط خسائر في صفوف الجماعة التي ردت بأن جميع المصالح الأمريكية والبريطانية أصبحت أهدافًا مشروعة.
تصعيد مقابل تصعيد حول البحر الأحمر إلى منطقة توترات مشتعلة، قابلة للانفجار في أي وقت، وبدلًا من تهدئة الأجواء وتجنيب المزيد من توسعة دائرة الصراع حسبما تزعم إدارة الرئيس جو بايدن، تواصل واشنطن استفزازها للحوثيين عبر عملياتها العسكرية المستمرة ضدهم، ما يجرهم للرد بين الحين والآخر من خلال استهداف سفن وناقلات، الأمر الذي يُبقي على درجات الحرارة الملتهبة في هذا الممر المائي الإستراتيجي العالمي.. فما هي مصالح الولايات المتحدة في إبقاء البحر الأحمر غارقًا في مستنقع التوتير والاشتعال؟
بين التهدئة والتصعيد.. تناقض أمريكي
منذ دخول جماعة الحوثي على خط الأزمة والانخراط في الحرب على غزة من خلال تهديد كل السفن المتجهة لموانئ الاحتلال بالاستهداف ومطالبة كل شركات الشحن العالمية بتوخي الحذر والتعامل مع هذا التهديد بجدية، تبنت واشنطن رواية دبلوماسية هادئة، مكتفية بتصريحات وتحذيرات للحوثي بعدم توتير الأجواء.
لكن سرعان ما تحول الموقف الأمريكي من الدبلوماسية إلى التصعيد، إذ لم تكتف أمريكا بحماية “إسرائيل” عبر إسقاط الصواريخ القادمة من اليمن فحسب، بل حاولت تدويل الأزمة وتدشين تحالف دولي في مواجهة الحوثي بزعم حماية الأمن والملاحة في البحر الأحمر، وبالفعل أعلنت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، تشكيل عملية “حارس الازدهار”، وهي عبارة عن تحالف عسكري دولي يضم عددًا من الدول بهدف تقليم أظافر الجماعة لإثنائها عن توتير الممر المائي العالمي.
ومع فشل هذا التحالف الذي قوبل بانتقادات كبيرة على المستوى الدولي، لجأت واشنطن إلى البحث عن شرعنة تحركاتها، عبر الضغط لاستصدار قرار رسمي من مجلس الأمن الدولي (2722) يمنحها الحق في الدفاع عن البحر الأحمر والممرات البحرية الأخرى، بما يسمح بحرية وأمن الملاحة البحرية.
بعد "حارس الازدهار" بقيادة #واشنطن لحماية البحر الأحمر من هجماتهم.. تحركات سياسية غربية جديدة لحصار #الحوثيين وتصنيفهم كجماعة إرهابية#اليمن#العربية pic.twitter.com/1Kf5NipkGv
— تقارير العربية (@alarabiya_rpt) January 28, 2024
وبالتزامن مع التصريحات الدبلوماسية الصادرة عن واشنطن بشأن حث طهران – الداعم الأكبر للحوثيين الذي يمتلك أوراق تحركهم في المنطقة – على عدم التصعيد ووجوب التهدئة وتجنب توسعة دائرة الصراع الإقليمي، كانت الضربات العسكرية لأهداف الحوثيين في الداخل اليمني والبحر الأحمر.
وأمام هذا الأمر لم يجد الحوثي إلا الرد دفاعًا عن تموضعه الجديد الذي نجح – من خلال حرب غزة – في إعادة تشكيله، وتعزيز ثقله الإقليمي الذي فرضه من خلال تغيير المقاربة الدولية حياله بعدما أصبح لاعبًا مؤثرًا في المنطقة ورقمًا من الصعب تجاهله، إثر هيمنته على أحد أهم الممرات المائية العالمية.
وسواء كان الرد بدافع من طهران، الممول والداعم والمحرك الأساسي له، أم بدافع الطموح السياسي والعسكري للحوثي وجماعته، كان التصعيد المضاد هو العنوان الأبرز، مزيد من استهداف السفن المتجهة للاحتلال، فضلًا عن استهداف سفن أمريكية، ليشتعل البحر الأحمر ويتحول إلى ساحة صراع جديدة تضاف إلى مسارح النزاع الملتهبة في المنطقة بصفة عامة.
مكاسب أمريكا من هذا التوتير
كعادة الولايات المتحدة لا يمكنها ترك أي أزمة أو صراع أو توتر دون توظيفه بما يحقق لها الحد الأدنى من المكاسب، التي تتناغم وأجندتها التي تحاول من خلالها ترسيخ مفهوم القطب الأوحد، واستهداف خصومها التقليديين، وهو ما تُرجم بشكل مباشر في الحرب الأوكرانية وبنسب أخرى في الأزمة السورية واليمنية والليبية، الوضع ذاته في حرب غزة الحاليّة، لكن ما مكاسب واشنطن من توتير البحر الأحمر؟
الهيمنة على البحر الأحمر
تُدرك أمريكا أهمية البحر الأحمر كممر إستراتيجي اقتصادي وعسكري وأمني، يتحكم في نسبة كبيرة من حركة التجارة العالمية، فضلًا عن أهميته اللوجستية أوقات الحروب والنزاعات، وهو ما يجعل من السيطرة عليه هدفًا لكل القوى الدولية ذات الطموحات التوسعية الكبرى.
وما كان للولايات المتحدة ولا بريطانيا أن تضع أقدامها في هذا الممر دون سبب مقنع للمجتمع الدولي بصفة عامة وللدول المطلة عليه شاطئيًا بصفة خاصة، ومن ثم فإن توتير الأجواء في تلك المنطقة اللوجستية الحيوية ربما يكون مبررًا لعسكرة البحر الأحمر وتعزيز واشنطن نفوذها عليه، بما يمهد الطريق نحو السيطرة كذلك على باب المندب.
ومن هنا كان لا بد من خلق عدو جديد، وتضخيم ضرباته وتهديداته، وتحويله إلى شبح مخيف يتطلب التحرك العاجل لمناهضته، والتدخل الدولي السريع لمواجهته، والبقاء أطول فترة ممكنة حتى التأكد من عودة الاستقرار والهدوء مرة أخرى، وهي الإستراتيجية ذاتها التي اتبعتها أمريكا في العراق وأفغانستان وفي مناطق نفوذها القديم بالقارة الإفريقية.
يذكر أن هناك قرابة 11 قاعدة عسكرية تابعة للعديد من القوى الدولية في منطقة القرن الإفريقي بالقرب من مضيق باب المندب والبحر الأحمر، ومن ثم فإن السيطرة على هذا المضيق تساعد بشكل كبير في حسم أي معركة أو حرب من الممكن أن تنشب في المنطقة، كذلك فإن من يسيطر على تلك الممرات سيتحكم بشكل مباشر فيما يدخل ويخرج من وإلى المنطقة العربية وآسيا على وجه الخصوص.
تضييق الخناق على روسيا والصين وإيران
استكمالًا للهدف السابق، فإن التحكم في البحر الأحمر يمثل بشكل مباشر تهديدًا لخصوم أمريكا الأبرز، روسيا والصين، وممارسة الضغط عليهما بصورة كبيرة في ظل صراع النفوذ بينهما، فغالبية تجارة الدولتين تمر عبر البحر الأحمر، ما يعني إمكانية محاصرتهما اقتصاديًا إذا تطلب الأمر، الأمر كذلك مع إيران.
وشهدت السنوات الأخيرة حربًا اقتصادية طاحنة بين واشنطن وبكين، استُخدمت فيها العديد من الأسلحة وأوراق الضغط المتباينة، وكان النصر حليفًا للصين في أكثر من معركة، وهو ما استفز الأمريكان الذين تحركوا بشتى السبل لإضعاف التنين والعملاق الآسيوي، سواء باستهدافه بشكل مباشر أم استهداف حلفائه في المنطقة كما حدث مع روسيا وإيران.
#الصين تدخل على خط أزمة #البحر_الأحمر وتلوح بتضرر علاقتها مع #إيران إذا لم تتوقف هجمات #الحوثيين #نيوز_بلس @NancyTabetSKY pic.twitter.com/rF4MdaNbkg
— سكاي نيوز عربية (@skynewsarabia) January 26, 2024
وتعد الحرب الأوكرانية أحد أبرز النماذج الواضحة على هذا الفكر الأمريكي، حيث إغراق موسكو في الوحل الأوكراني لعدة سنوات بما يستنفد اقتصادها وعتادها العسكري، وهو ما ينسحب بطبيعة الحال على الحليف الصيني الذي لا يجد بدًا من التحالف مع موسكو يقينًا أن بسقوطها أمام واشنطن تهديدًا مباشرًا له ولمصالحه في آسيا تحديدًا، وعليه تسعى إدارة بايدن إلى تكرار السيناريو ذاته، لكن هذه المرة في البحر الأحمر حيث مناطق النفوذ القديمة للصين وروسيا في آسيا وإفريقيا.
أوراق ضغط جديدة ضد العرب
لا شك أن تمركز الولايات المتحدة – عسكريًا – في البحر الأحمر، سيمثل ضغطًا على البلدان العربية المحيطة به، الخليج ومصر، فرغم العلاقات الجيدة بين الطرفين، فإن الوجود العسكري المستدام لأمريكا على الحدود العربية مسألة تهدد الأمن القومي لتلك البلدان، كذلك أمنها الاقتصادي، فأغلبها يعتمد في موارده على عائدات التجارة المارة من هذا الممر اللوجستي المهم، وهو ما يكرس وضع العرب تحت رحمة الأمريكان.
فعلى المستوى الخليجي فإن الوجود الأمريكي قدر ما يخدم حكومات دول مجلس التعاون في مناهضة النفوذ الإيراني إلا أنه ربما يكون أداة فعالة لابتزازهم كما حدث سابقًا خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي كان يتخذ من التصدي لإيران فزاعة لحلب دول الخليج اقتصاديًا وإرضاخهم سياسيًا.
أما على الجانب المصري فالأمر ربما يكون أكثر حساسية، فتوتير الأجواء في البحر الأحمر سينعكس سلبًا على قناة السويس التي تراجعت عائداتها الدولارية بنسبة 40% منذ بداية الصدام بين الحوثيين والأمريكان، ومن ثم فإن إبقاء هذا الوضع على ما هو عليه يعني فقدان القاهرة لواحد من أهم مواردها الاقتصادية في وقت تعاني فيه أزمات خانقة، لا سيما مع الحديث عن الاتفاق الذي وقعته أمريكا مع الهند و”إسرائيل” والإمارات والسعودية والاتحاد الأوروبي على هامش قمة مجموعة العشرين الأخيرة الذي يعرف بـ”الممر البري الاقتصادي العالمي”، وهو الممر الذي قد يسحب البساط من تحت أقدام قناة السويس إذا تم تنفيذه فعليًا.
هذا بجانب أن عسكرة البحر الأحمر أمريكيًا ربما تكون ورقة ضغط ضد الدولة المصرية لإرغامها على الحفاظ على المصالح الأمريكية والتماهي مع الأجندات الصهيونية وعلى رأسها التطبيع وحماية الأمن الإسرائيلي من خلال الضغط على المقاومة والقطاع، هذا بخلاف ابتزازها سياسيًا كلما حاولت التغريد خارج السرب، خاصة أن القاهرة خلال الآونة الأخيرة بدأت تميل ناحية المعسكر الشرقي الروسي الصيني، ما أزعج واشنطن وإن لم تفصح عن ذلك بشكل رسمي.
إنعاش شركات السلاح الأمريكية
لولا الحروب والأزمات التي تشهدها مناطق النزاع في إفريقيا وآسيا لأغلقت شركات التصنيع الدفاعي في الولايات المتحدة وهي الشركات التي تشكل ركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني، وعليه فإن توتير أي أجواء لا بد أن يصاحبه إنعاش لخزائن تلك الشركات ومن ثم إنعاش خزائن الدولة من خلال الضرائب المحصلة من تلك الكيانات التي يعمل بها قطاع كبير من الأمريكيين.
منذ الحرب في غزة ارتفعت مبيعات وأسهم شركات صناعة الأسلحة الأمريكية بصورة كبيرة، إذ زادت أسهم شركة “لوكهيد مارتن” (واحدة من أكبر الشركات) من 0.85% في 6 أكتوبر/تشرين الأول إلى 8.93% في التاسع من الشهر نفسه، كذلك ارتفعت أسهم شركة “آر تي أكس كورب” من 0.56% إلى 4.62% وشركة “نورثروب غرومان” و0.75% إلى 11.4% في الفترة ذاتها، كما سجلت شركة “جنرال دايناميكس” أكبر مكاسبها في 9 أكتوبر/تشرين الأول، بنسبة 10% تقريبًا، وهي الزيادة التي لم تتحقق منذ أكثر من 3 سنوات، وتعد أكبر زيادة في أسعار أسهم الشركة منذ مارس/آذار 2020.
وكلما زاد أمد الحرب في غزة زادت مبيعات الشركات الأمريكية، فأكثر من 70% من مشتريات “إسرائيل” من الأسلحة مصدرها الولايات المتحدة، وأبرزها قنابل “أم كي 80” التي تزن أحجامًا مختلفة تترواح بين 120 و1000 كيلوغرام، ويصل سعر بيع الواحدة منها 25 ألف دولار، هذا بخلاف قنبلة “جي بي يو-28” الأمريكية التي تزن 2100 كيلوغرام، ويبلغ ثمن الواحدة منها نحو 300 ألف دولار.
ومن هنا فإن استمرار الأجواء المتوترة في البحر الأحمر من شأنه إحداث حالة من عدم استقرار المنطقة بأكملها، ينجم عنه بطبيعة الحال هرولة دول المنطقة لزيادة معدلات التسليح وهو ما تخطط له شركات صناعة السلاح الأمريكية، حيث تسيطر أمريكا على سوق السلاح في منطقة آسيا والمحيط الهادي بنسبة 56%، وعلى 54% من سوق السلاح في الشرق الأوسط ، في ظل اعتماد دول الخليج الكامل على السلاح الأمريكي.
وتشير الإحصاءات إلى استحواذ دول الخليج خلال الفترة من 2017 – 2022 على 49% من إجمالي صادرات السلاح الأمريكية، تتصدرها السعودية بنسبة 80% من مشترياتها العسكرية من الخارج، وقد بلغت قيمة صادرات الأسلحة الأمريكية إلى دول الشرق الأوسط في عام 2019 نحو 4.9 مليار دولار، منها 3.1 مليار دولار إلى السعودية، بنسبة 63.2%.
في ضوء ما سبق بات واضحًا أن التصعيد الأمريكي في البحر الأحمر لم يكن بهدف حماية الملاحة في هذا الممر المائي فقط، فالمقاربة الأمريكية تعتمد في الأساس على توظيف التحركات الحوثية بما يخدم الأجندة الأمريكية ويحقق مصالحها اللوجستية في الشرق الأوسط ويخلق لها عينًا بترسانة مسلحة لمراقبة منافسيها وخصومها في المعسكر الشرقي وممارسة الضغط عليهم بين الحين والآخر.