بعد تبنّيها للهجمات التي تعرضت لها القاعدة العسكرية الأمريكية في شرق الأردن، والمعروفة بالقاعدة T22، في 28 يناير/ كانون الثاني الماضي، والتي أسفرت عن مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة 34 آخرين بجروح خطيرة، أعلنت كتائب “حزب الله” العراقية، وعلى لسان أمينها العام أبو حسين الحميداوي، عن تعليق الهجمات على المقرات والمواقع التي تتواجد فيها القوات الأمريكية بالعراق.
هذا التحول في موقف الكتائب لم يكن الأول من نوعه، خصوصًا أنها سبق وأن أعلنت عن “هدنة مؤقتة” مع القوات الأمريكية، بعد نجاح قوى الإطار التنسيقي في تشكيل حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، من أجل منحها فرصة لإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في العراق.
ممّا لا شكّ فيه أن موقف الكتائب الأخير يطرح العديد من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي تقف خلف القرار الأخير، إذ تشير المعلومات إلى أن هذا الموقف جاء نتيجة جهود تفاوضية بذلتها حكومة السوداني منذ الساعات الأولى للهجوم الذي وقع في شرق الأردن مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لتجنيب العراق أي ردود أفعال أمريكية على خلفية تبنّي الكتائب للهجمات.
إلّا أن الثابت هو أن التراجع خطوة إلى الوراء يشير بصورة كبيرة إلى رغبة الكتائب بامتصاص حالة الغضب الأمريكي، إذ تواجه إدارة بايدن ضغوطًا كبيرة للردّ على هجوم الكتائب، ومن ثم إن مثل هذا الموقف قد يدفع إدارة بايدن إلى التحرر من بعض هذه الضغوط، خصوصًا على مستوى طبيعة الرد أو الأهداف المتوقع مهاجمتها.
إذ حمل البيان الذي أعلنته كتائب “حزب الله” العراقية العديد من المؤشرات المهمة لطبيعة التحول الذي طرأ على استراتيجية الكتائب من الوجود العسكري الأمريكي في العراق، إذ أشار البيان إلى “مفهوم الدفاع السلبي”، وهو مفهوم يقترب كثيرًا من مفهوم “المرونة البطولية” الذي يستخدمه الحرس الثوري الإيراني في أدبياته السياسية.
والهدف الأساسي من مفهوم “الدفاع السلبي” الذي تحاول الكتائب جعله استراتيجية عمل في المرحلة القادمة، هو التحول من حالة الهجوم العسكري إلى الضغط السياسي على حكومة السوداني، في موضوع المضيّ قدمًا بأعمال اللجنة العسكرية العليا لتنظيم الوجود الأمريكي في العراق، والتي تمّ تشكيلها مؤخرًا، خصوصًا أن الكتائب سبق وأن ألمحت إلى ذلك في بيانات سابقة.
معقّدات استراتيجية
إن موقف الكتائب إلى جانب كونه محاولة لرفع الحرج عن حكومة السوداني، خصوصًا بعد تهديدات واضحة وصلت من إدارة بايدن للردّ على مقتل وإصابة جنودها، حيث إن صدقية الردع الذي زرعته إدارة بايدن، جعلت الكتائب تستشعر الخطر على باقي أطراف “محور المقاومة” من ردود انتقامية، قد تحاول إدارة بايدن استغلالها كدعاية انتخابية أمام العديد من القطاعات الأمريكية التي تنتقد سلوك الإدارة حيال ما تقوم به إيران وحلفاؤها في المنطقة.
وفضلًا عن ذلك، فإن الموقف الأخير للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، بأن إيران لا تطمح إلى توسيع خارطة الحرب في المنطقة، قد لعب دورًا في تشكيل موقف الكتائب الأخير من القوات الأمريكية في العراق.
وأيضًا، أظهرت الفترة الماضية تخليًا إيرانيًّا عن العديد من الهجمات التي يشنّها حلفاؤها في العراق، منها الهجوم الأخير الذي شنّته الكتائب على القوات الأمريكية في شرق الأردن، ما قد يعكس في جانب منه وجود حالة عدم تنسيق بين إيران وحلفائها حول العديد من الهجمات، خصوصًا الهجمات التي يترتّب عنها وقوع خسائر أمريكية، وهو ما لا تريده إيران، فرغم دعمها لهذه الهجمات بطريقة غير مباشرة، إلّا أنها عادةً ما تكون حريصة على أن تكون هذه الهجمات دون الحدّ الذي يدفع الولايات المتحدة إلى الانتقام الموسّع.
إن “قرار التهدئة” الذي أعلنته الكتائب لم يكن بعيدًا عن التنسيق مع الجانب الإيراني، والحكومة العراقية أيضًا، إذ إن تجميد كتائب “حزب الله” للعمليات القتالية هو من دون أدنى شكّ قرار اتُّخذ بمشورة إيرانية، وهو ما قد يدفعها إلى الالتزام به، دون أن يعني ذلك عدم حدوث مناوشات أو عمليات أمنية صغيرة من قبل فصائل أخرى.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة لا يمكنها إلّا أن ترد على الهجوم الذي قتل عددًا من جنودها، لأن صمتها سيكون غير ممكن، ومن هنا سيكون الرد قاسيًا وموجعًا باستهداف مراكز ومقرات في العراق وسوريا، مع ضرورة التأكيد هنا بأنها لن تهاجم أهدافًا داخل إيران، كون مفاوضات الانسحاب الأمريكي من العراق أخذت مسارًا “جديًّا” في الفترة الأخيرة.
يدفعنا هذا السياق إلى القول إن إيران بحاجة إلى تهدئة الأوضاع في الساحتَين العراقية والسورية، من أجل دفع الحوارات العراقية الأمريكية الخاصة بجدولة الانسحاب من العراق خطوة إلى الأمام، وهو ما لا يمكن أن يتحقق دون بيئة سياسية مستقرة في العراق.
وفي هذا الصدد، تمثل “فكرة تأمين الحلفاء في العراق” اليوم الهمّ الأكبر للنظام الإيراني، بل أنها تمثل قيمة استراتيجية أكبر من قيمة فتح جبهة إقليمية مفتوحة مع الولايات المتحدة، وهذه الفكرة لا تتعلق بهيكل النظام أو قواه الرئيسية، بل بأيديولوجيته ومشروعه الإقليمي.
والأهم من ذلك هو الدور المستقبلي للحرس الثوري في العراق، وهذه نقطة مهمة يمكن البناء عليها عند محاولة البحث عن الأسباب التي تدفع إيران إلى عدم التفكير في سيناريو الحرب الإقليمية الموسّعة، رغم ما يمكن أن يترتب عن موقف الكتائب الأخير على مستوى صورة إيران وحلفائها في العراق.
مخرج طوارئ
في الوقت الذي أعلنت فيه كتائب “حزب الله” العراقية تعليق عملياتها العسكرية ضد القوات الأمريكية في العراق، أعلن فصيل آخر، وهو حركة “النجباء”، عن استمرار عملياته العسكرية في بيان له، دون أن يتقيّد بالهدنة التي أعلنتها الكتائب.
يُذكر أن كلًّا من كتائب “حزب الله” و”النجباء” جزء من هيكل عسكري واحد هو “المقاومة الإسلامية في العراق وسوريا”، التي تمّ تشكيلها بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلّا أن هذه الوحدة الهيكلية لم تمنع من ظهور خلافات بين الحين والآخر بين الفصيلَين، حول مسارات التهدئة والتصعيد بين الفصائل والقوات الأمريكية في العراق.
ورغم أن هذه الخلافات تعكس حالة من الهشاشة على مستوى الموقف العام من الوجود الأمريكي في العراق، إلّا أنها تلبّي من جهة أخرى رغبة إيرانية في خلق حالة من الضبابية لدى الإدارة الأمريكية، عبر التلويح بأكثر من خيار داخل العراق.
فرغم أن موقف الكتائب قد يدفع بإدارة بايدن إلى إعادة صياغة استراتيجية الردّ على هجوم الكتائب، فإن موقف “النجباء” قد يمثل أيضًا رسالة واضحة من إيران بأن خيار التصعيد ما زال مطروحًا، وذلك يتوقف على الطريقة التي ستتعامل بها إدارة بايدن مع موقف الكتائب الأخير.
الردّ على هجوم الكتائب ما زال مطروحًا بقوة أمام الإدارة الأمريكية، وذلك من أجل حفظ صورة أمريكا أمام إيران وحلفائها، وهذا الواقع سيجبر إيران ومن بعدها الكتائب على إيجاد كيفية استراتيجية للتعامل مع الردّ الأمريكي المتوقع.
والتحدي الكبير يقع على عاتق حكومة السوداني في كيفية ضبط مسارات الساحة العراقية، فجهود التهدئة التي قامت بها بين الكتائب والإدارة الأمريكية في الساعات الماضية قد تنهار بأي لحظة، خصوصًا في ظل عجز الحكومة عن تبنّي خيارات بديلة تعكس المصلحة العراقية، وهو تحدٍّ ستجد حكومة السوداني نفسها مجبرة على التعامل معه في الأيام المقبلة.