أن تكون “بدوناً” يعني أن تكون بلا جنسية وبلا حقوق أيضاً، وفي غيبة من الدولة يعيش الآلاف من هؤلاء منذ عشرات السنين في أكثر المناطق الحدودية حساسية في مصر، على أمل أن تنظر إليهم الدولة بعين الرضا.
وبينما يقول أنطونيو غوتيريس، المفوض السامي السابق لشئون اللاجئين والأمين العام للأمم المحتدة حاليا: “كل 10 دقائق يولد طفل بدون جنسية في مكان ما في العالم”، يتعالى صوت هؤلاء متسائلين: “من نحن؟”.
البدون.. الملايين المنسية حول العالم
البدون هم الذين لا يملكون جنسية (بدون جنسية)، ويعبر المصطلح بين عموم الناس عن فئة اجتماعية غير محددة تشمل من لا يحملون هوية وطنية داخل الدولة المتواجدين فيها منذ القدم، لكن لظروف ولأسباب معينة لم يتم تجنيسهم.
وبينما يؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه لكل إنسان الحق في حمل جنسية، ويحظر أيضا الحرمان التعسفي من الجنسية، لا يزال “البدون” يعانون من فقدان الانتماء للوطن رسميا، لأسباب عديدة أبرزها: النوع والعرق والدين.
وبالنظر لإحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، هناك أكثر من 10 مليون “بدون” حول العالم لا يحملون أي جنسية، ولا تتم معاملتهم كلاجئين؛ لأنهم لم يعبروا أبدًا أي حدود دولية.
هذا رقم على ورق ومأساة كبرى تتقاسمها دول العالم، فهؤلاء منهم ما يقرب من مليون ونصف في آسيا والمحيط الهادي، و720 ألف في إفريقيا، و670 في أوروبا، وما يقرب من نصف مليون في العالم العربي. وتعتبر ميانمار من أكثر الدول التي ينتشر بها “البدون”، تليها كوت ديفوار وتايلاند ولاتفيا والدومينيكان.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، أدركت البشرية أن أمرا كهذا هو في حد ذاته ظاهرة غير إنسانية، لتبدأ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين في عام 2011 حملة لإعطاء الجنسية للبدون وتشجيع الدول على التوقيع على الاتفاقيات الخاصة بخفض أعدادهم، قامت تونس فقط بالتوقيع عليها، بينما لم توقع عليها ليبيا والجزائر وباقي الدول العربية.
وبينما تستمر حملة السنوات العشر التي أطلقتها مفوضية اللاجئين منذ ثلاثة أعوام، للقضاء على ظاهرة البدون، تزيد نسبة البدون في الدول العربية، فتأتي سوريا على رأس هذه الدول تليها العراق، وذلك لأسباب لا يجهلها أحد، على رأسها المعارك الدامية التي تشهدها هذه الدول، ثم الكويت والسعودية، لكن ماذا عن مصر؟
تدعو علامة الاستفهام إلى جانب اسم مصر إلى تقصى أرض الواقع، لكن يصعب ذلك ميدانيا، فمناطق الحدود فيها هذه الأيام في غاية الحساسية، لا سيما الحدود الشرقية (سيناء) والجنوبية (حلايب وشلاتين).
“بدون” سيناء.. العزازمة نموذجاً
يتركز غالبية البدون في مصر على جانبي الحدود الشرقية بين مصر و”إسرائيل”، وتعد قبيلة العزازمة التي تتمركز بين صحراء النقب وصحراء سيناء، أحد القبائل التي يُقدر عدد أبناءها بين 3 و5 الآف شخص، يعيشون في ظروف قاسية وأوضاع معيشية غير إنسانية وتجاهل حكومي.
وقبل رسم الحدود الدولية، كانت مساكنهم موزعة بين مصر وفلسطين. لكن بعد بعد تقسيم الحدود، انقسم أبناء “العزازمة” إلى قسمين: قسم داخل مصر يتبع الحكومة المصرية والاحتلال البريطاني، وقسم يتبع تركيا التي كانت تسيطر على منطقة الشام التي تتبع لها فلسطين، وبقي الوضع كذلك بعد حرب فلسطين عام 1948.
وفي عام 1953، وقع الحدث الأهم في تاريخ “العزازمة”، عندما قام أحد أبناء القبيلة بعملية فدائية داخل فلسطين، قُتل على أثرها مواطن إسرائيلى، فقرر “الإسرائيليون” الانتقام من كل أبناء القبيلة، ما اضطرهم إلى عبور الحدود طالبين اللجوء إلى مصر، فسمحت لهم الحكومة بالدخول إلى الأراضي المصرية، وأعطتهم بطاقات تعريفية.
وبعد جلاء آخر جندي إسرائيلي عن سيناء، توقع أعضاء القبيلة أن يحصلوا على الجنسية المصرية إلا أنهم لم يحصلوا إلا على وثائق مرور تحمل عبارة “غير معين الجنسية”، حتى حين منحت القاهرة حق الجنسية المصرية لجانب من أبنائها، حرمت الجانب الآخر لأسباب غامضة.
وحين فاض بهم الكيل عام 1999، عبر بعضهم الحدود نحو إسرائيل؛ ظناً منهم أن العدو ربما يسمع صوتهم بعد أن صمت الدولة آذانها عنهم، لكنها تدخلت في النهاية وأعادتهم بوعود حملت تلبية بعض الخدمات لكنها لم ترق في كل الأحوال إلى المستوى المطلوب.
وزعم الرئيس الأسبق حسني مبارك أنهم هددوا باللجوء إلى إسرائيل، لكنهم يؤكدون في كل أزمة على انتمائهم لمصر رغم تهميشهم، ولم يفكروا في تلبية نداء إسرائيل التي فتحت لهم الأسلاك الشائكة عقب تفجيرات طابا وشرم الشيخ عام 2005.
ومع ذلك لم يسلموا من الملاحقات الأمنية، ودفعوا ثمن تلك الهجمات غالياً، معتبرين أنها عملية انتقام جماعي من البدو، ليعيشوا بعد ذلك واقع قبيلة مغضوب عليها من قبل النظام البائد، مع اتهامات بالخيانة والتطبيع مع إسرائيل.
وفي تدوينة بعنوان :العزازمة، ناس الحدود أم حدود الناس” كتب الشاعر والمدون أشرف العناني باحثا في الأسئلة الصعبة حول تاريخ “العزازمة” وعلاقتهم المعقدة بإسرائيل والاعتقاد بعدم ولائهم لمصر، لكونهم “بدون”.
من سيناء إلى حلايب وشلاتين
أبناء قبيلة “العزازمة” في سيناء ليسوا في كل الأحوال “البدون” الوحيدين في مصر، فالحدود الجنوبية تحتضن أيضا عدد لا بأس به من محرومي الجنسية، حيث يعيش الآلاف الذين سقطوا سهواً من دفاتر الحكومة.
وتبدأ القصة، في عام 1995، حين اهتزت علاقة القاهرة بالخرطوم بعد محاولة اغتيال فاشلة تعرض لها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا. رغم هذا تحركت القوات المسلحة المصرية ففرضت سيطرة تامة على مثلث حلايب-شلاتين-أبو رماد على الحدود بين البلدين.
منحت القاهرة حينها الجنسية المصرية لقبيلتي البشارية والعبابدة، لكنها حرَّمتها على قبائل الأتمن والرشايدة والهدندوة دون أسباب واضحة، ما جعل هؤلاء يرون في ذلك تمييزا كونهم يعيشون جميعا في المنطقة نفسها وينتمون إلى أعراف واحدة ولغة واحدة.
لعل ذلك ما دفع بعضا من المحرومين إلى أن يهجروا قبائلهم إلى قبيلة أخرى مرضي عنها من قبل النظام المصري، للحصول على حق المواطنة في التعليم والصحة.
وفي رأي الشيخ حسن خلف، أحد أبطال حرب الاستنزاف، يرجع السبب في التمييز إلى حجج واهية من قبل المسئولين المصريين، يدخل من ضمنها “الوسايط” ومدى تعاون أياً من الأطراف مع أجهزة الأمن المصرية، ما يضمن الولاء للدولة.
وبطبيعة الحال، انعكس الوضع القائم للمواطنين على حال التعليم الذي لا يختلف عن حال الصحة، فلم يجد أحد من أبنائهم طريقا إلى مدرسة، فاستحدثوا لأنفسهم بدلا من المدارس ما يسمونه “الخلاوي” أو التعليم في العراء (في الهواء الطلق).
وتقول السلطات المحلية إن أعداد المتأثرين مضمحلة، لكن الواقع في شلاتين التي يسكنها حوالي 20 ألف مواطن يناقض كلام المسئولين، ففي المدينة وحدها 20 خلوة يتردد على كل منها نحو 150 طفلا، ثلثهم تقريبا بلا أوراق هوية.
الشيخ حسن خلف: وضع #البدون في سيناء غير مقبول، و لاتوجد إرادة سياسية لحل المشكلة#السلطة_الخامسة @YosriFouda @dw_arabic pic.twitter.com/qRbaH4HuUq
— السلطة الخامسة (@dw_Sulta5) June 3, 2017
البدون.. بلا جنسية وبلا حقوق
التعليم والصحة وغيرها من الحقوق المنزوعة من بدون شلاتين، تحمل بين طياتها قصصا على أرض الواقع لا حصر لها لا تتسق مع تصريحات المسئولين، ما يُضطر أصحابها إلى البحث عن أي حيلة للحصول على بعض من حقوقهم الطبيعية.
لذلك بات الحصول على الجنسية المصرية حلم يتوارثه “البدون” في مصر جيلٌ بعد آخر، أملاً في معيشة خالية من الاتهامات بالعمالة والتخوين، من قبل الأمن وجموع المصريين، الذين لا يعرفون عن “بدون” سيناء، إلا أنهم يعملون بالتهريب وطالبوا باللجوء إلى إسرائيل.
وفي حين تكون بلا جنسية تكون أيضا بلا شيء، وحين تكون بلا شيء قرب الحدود الإسرائيلية مع مصر تضطر إلى قطع نحو 200 كيلومتر إذا احتجت إلى مستشفى في أبسط الحالات. فهؤلاء باتوا محرومين من أبسط الحقوق، مثل: العلاج، التعليم، السفر، الزواج والميراث.
وفي المناطق التي يقيم بها أبناء قبيلتة “العزازمة” (وادي الجايفة والكونتلا والقسيمة) أكثر من ألفين شخص يعيشون بلا أي نوع من الحقوق أو الخدمات، كل ما بين أيديهم ورقة تقول “غير معين الجنسية”، وهي لا تسمن ولا تغني من جوع، فلا حج ولا سفر بها.
وفي حين يقول المسئولون إن الدولة استجابت لمطالب القبائل، فأنشأت وحدة صحية بها طبيب مقيم بمنطقة “العزازمة”، يقول الأهالي إن الوحدة الصحية التي أنشئت كانت لغرض “الشو الإعلامي”، فسرعان ما حُملت الأجهزة بعيدا، للترك مبنى خاويا على عروشه.
وفي هذه الصدد، يقول مرزوق عطا، أحد أبناء القبيلة: “من يمرض هنا ربما يموت قبل أن يصل مستشفى العريش، والسيدات يضعن حملهن في الطرق العامة أحياناً، نظراً لغياب الخدمات. فرغم وجود وحدة صحية إلا أنها اسم فقط، وليس فيها أي أجهزة طبية، ولا نذكر أن طبيباً زارها منذ إنشائها”.
وبما أن مشكلة البدون لا تظهر على السطح كثيرا، حاول البعض رصد المشهد عن قرب، حيث قام عبد الله الشامي مراسل الجزيرة بنشر عدة تدوينات تروي تفاصيل زيارته لقبيلة العزازمة في شرق شبه جزيرة سيناء، مرفقة بصور للواقع الذي يعيشه “بدون” سيناء.
صورة لأحد شيوخ القرية بحمل وثيقة المرور وهي الوثيقة الرسمية الوحيدة التي يملكها #بدون_مصر pic.twitter.com/bhMu4QlF
— Abdullah Elshamy (@abdallahelshamy) August 24, 2012
وفي القرن الحادي والعشرين، يضطر الأطفال إلى تعليم المحبرة واللوح الخشبي، فالبدون لا يحملون أي شهادات، فيما عدا عدة أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة، يقومون بتعليم الصغار أساسيات القراءة والكتابة مقابل أجر زهيد يتقاضونه.
كتب دراسية ملقاة على الأرض داخل الوحدة الصحية في قرية الجايفة #بدون_مصر pic.twitter.com/DOs2Dx1T
— Abdullah Elshamy (@abdallahelshamy) August 24, 2012
كما تتجسد مأساة البدون أكثر في انعدام وجود مخابز بمناطقهم للحصول علي الخبز، كذلك معاناتهم في الحصول علي الدقيق ليصنعوا منه الخبز الذي يلجأون في حال توافره لصنع الخبز علي الحطب بالطرق البدائية لانعدام وجود الغاز أو الكهرباء.
الأمر لا يقف عند هذا الحد، فماذا لو أراد أحدهم أن يتزوج؟ وإذا تزوج فما مصير أبناءه؟ هنا لا بد أن يغلق موضوع الزواج في طالبه، أو أن يأخذ زواج “العزازمة” بعضهم من بعض شكل الزواج العرفي لأنه لا يوثق، فهم لا يملكون أوراقاً ثبوتية. وعند الإنجاب، يبقى الأبناء بلا شهادات ميلاد، لحين إتمامهم الستة عشر ربيعاً، وقتها فقط تستخرج لهم تذكرة مرور.
هل تتخيل أن يكون ابنك هو أخيك؟ يحدث ذلك عندما يضطر البعض إلى نسب أبنائه في سجلات الحكومة إلى أمه وأبيه فيصيرون رسميا أخوته، وغير ذلك يكون الحل الوحيد لحصول الأبناء على الجنسية، هو زواج الأب من امرأة مصرية من خارج القبيلة، رغم عُرف البدو الذي يفرض زواجهم من أقاربهم، ففي حال كانت والدتهم مصرية، يتم استخراج شهادات ميلاد للمواليد، بموجب قانون 2004 الذي يمنح الجنسية لأبناء المرأة المصرية.
هذه صورة واحد من أبناء القبيلة يحمل وثيقة المرور، ستكون هناك صور أوضح في التقرير الذي سيعرض على الجزيرة #بدون_مصر pic.twitter.com/R2RDA6xo
— Abdullah Elshamy (@abdallahelshamy) August 24, 2012
هذه القبيلة تعيش منذ عشرات السنين هنا دون جنسية مصرية . لا توجد عندهم سوى وحدة صحية دون موظفين و التراب يعلو كل شيئ فيها #بدون_مصر
— Abdullah Elshamy (@abdallahelshamy) August 24, 2012
ثم ماذا؟
في ظل انتشار العمليات الإرهابية للجماعات الجهادية في سيناء، ووجود نزاع حدودي بين مصر والسودان على مثلث حلايب، سيظل “البدون”، يبقى “البدون” شوكة في خاصرة الحدود المصرية، ويبقى عدم قدرة الحكومات على التعامل مع الأمر أمرا معتادا، فالدولة لم تثبت تواجدها في بعض المناطق بسيناء، ما قد يمكن الجماعات التكفيرية في سيناء من استقطاب هؤلاء الأفراد وتجنيدهم.
وفيما ترى الجهات الأمنية أن للبدون عواقب خطيرة على الوضع الأمني في مصر، يشهد الواقع أنهم رغم افتقادهم للهوية المصرية التي حجبها عنهم النظام، فإن معيشتهم إلى جوار العدو الأول لمصر (إسرائيل) الذي يقبع علي مقربة من هذا المكان لم تمنعهم من القبض علي جمر انتمائهم لمصر.
وفي مجلس النواب المصري، رفض اللواء كمال عامر، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي، الوقوف أمام الكاميرا لأن مصر -على حد قوله- لا تتحمل هذه الموضوعات الآن، وعند حديث اللواء يحيى الدكروري وكيل اللجنة أنكر وجودها أصلا، فظاهرة البدون تمثل -من وجهة نظره- نسبة لا تكاد تُذكر.
وحين تعترف الدولة بوجود المشكلة تعدهم بالنظر في الأمر، لكن ذلك يحدث حين تحتاجهم، ففي عام 2012، وعد محافظ شمال سيناء سيد عبد الفتاح حرحور الأهالي بتطوير الخدمات وتلبية المطالب وحل المشاكل التي تعانى منها المنطقة، كما وعد بدراسة أوراق الهوية.
وفي العام التالي، طالب بتسليم السلاح، وبالفعل سلمت القبيلة سلاحها واصطفت لمحاربة الإرهاب، وأكد الشيخ سالم سويلم عودة، شيخ قبيلة العزازمة استمرارهم في دعم الجيش ومساهمتهم في تأمين سيناء.
ثم ماذا غير أن تكون النهاية المأساوية الساخرة لشيخ القبيلة قبل نحو عامين، برصاصة إرهابية في رأسه بتهمة التعاون مع الدولة المصرية، وهي الدولة ذاتها التي لم تمنحه يوما جنسية مصر، بل حرمته من أبسط الحقوق.
وفي نهاية المشهد، يقف الصغار في العراء يرددون نشيد وطن لا يعترف لهم بهوية، ورغم أن لكل إنسان حق طبيعي في جنسية الأرض التي وُلد عليها، فإن هؤلاء عاشوا “بدون”.