كانت ثورات الربيع العربي نقطة انطلاق لأحلام كبيرة هدفها التغلب على أجواء التسميم السياسي التي سادت المنطقة منذ عقود طويلة، واحتل المقدمة من نزوات التطور ومواكبة الحداثة إنشاء أحزاب سياسية بشكل حقيقي وفاعل، خاصة وأنها كانت قديما تربطها وشائج القربى بأنظمة الحكم التسلطية، ولم تكن في الغالب أكثر من مجرد ديكور ديمقراطي هدفه إطالة عمر الاستبداد وإعطاءه لمسة عصرية، فالحكام العرب حتى الفاشيون منهم يؤمنون أن الذين لا يريدون محاكاة الأشياء لا ينتجون شيئا، والإنتاج المعني بديمقراطيتهم المزعومة ليس أكثر من العمل بكل قوة وتفان لإطالة مدد حكمهم .
ولكن الغريب أن الأحزاب التي ولدت من رحم ثورات الربيع العربي تسرب إليها هى الأخرى عقائد الفشل والديكتاتورية، بعضها انفجر من الداخل والأخر ينتظر دوره، وآخرهم حزب حراك تونس الإرادة، الذي أسسه المنصف المرزوقي رئيس تونس السابق وأحد أهم المبشرين والمؤيدين لثورات الربيع العربي.
أزمة حراك تونس .. تعددت الأسباب والانقسام والتفكك مصير واحد
قبل أيام أعلن نواب حزب حراك تونس الإرادة، وأعضاء بالمكتب التنفيذي، ومن الهيئة السياسية والمكاتب المحلية والمجالس الجهوية استقالتهم من الحزب، في خطوة مفاجئة وغير متوقعة لحزب وُلد في بلد مستقر نسبيًا عن جيرانه، وأرجعوا استقالتهم إلى ما أسموه تجاهل التحولات التي شهدها الحزب بعد سنة من تأسيسه وعدم التزام المحيط التقليدي المؤسس للحزب بمخرجات المؤتمر، وبالمطلوب من الشفافية والسلوك الديمقراطي.
ضمت قائمة المستقيلين النواب مبروك الحريزي وإبراهيم بن سعيد وصبري دخيل، وكذلك أعضاء المكتب التنفيذي، زهير إسماعيل، وربيع العابدي، وغسان المرزوقي وإبراهيم بن سعيد وصبري دخيل إضافة إلى أعضاء من الهيئة.
كان اللافت تولي النائب مبروك الحريزي نشر البيان على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» وهو أحد قيادات الحزب صاحبة الصوت النافذ، وقال إن القيادات الجديدة التي برزت عن المؤتمر الانتخابي الأول الذي انعقد منذ سنة، كانت قادرة على قيادة المرحلة بتحدياتها السياسية والتنظيمية واستحقاقاتها الانتخابية لكن القفز على النتائج الانتخابية للمؤتمر وتأجيل الانطلاقة المرجوة أدخل الحزب في أزمة شاملة باتت تهدد وجوده.
واعتبر الحريزي ومعه المستقيلين في بيان الاستقالة، أن غياب عنصر الثقة المطلوب، وتدهور الروابط التنظيمية وتواصل منطق الترضيات والتسويات الذي أفضى إلى تعيين وجوه قيادية قديمة اُتُّفق منذ التأسيس على أن تترك الفرصة لغيرها في رئاسة الهيئة والأمانة العامة، فتح المجال للتجاذب الحاد وتعميق الشرخ الذي أدى إلى انقسام حزب يعيش عجزا ماليا كبيرًا، لم تعد تنفع معه مساهمات المناضلين المباشرة، مما أجل تثبيت هيكلة حراك تونس الإرادة، وأضعف وحدته وانتشاره وجاهزيته للاستحقاقات الانتخابية القادمة.
وأكد المستقيلون تمسكهم بفكرة الحراك مشروعا وطنيًا اجتماعيّا وتعبيرا سياسيا عن الحراك الاجتماعي الذي يهدف إلى تجاوز الانقسامات، وبناء الديمقراطية التشاركية وأساسها الحكم المحلي إضافة إلى تمسكهم برمزية القيادة الممثلة في الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي، ودورها الريادي في مقارعة الاستبداد وتأسيس الديمقراطية وبناء تونس الجديدة، وعبروا عن أسفهم لما آلت إليه تجربة الحراك بسبب تغليب المصلحة الشخصية والفئوية على المصلحة العامة وتعطيل التطور الطبيعي للحزب .
عن تونس الإرادة .. هل حقق الحزب أهدافه؟
تم تدشين حزب حراك تونس الإرادة في أواخر 2014، وتحديدًا بعد الانتخابات الرئاسية التونسية، والتي فاز فيها الرئيس الباجي قايد السبسي على منافسه الرئيس السابق المنصف المرزوقي في جولة الإعادة، وجاء إطلاق فكرة تأسيس الحزب وقتها للتأكيد على أن المعركة الحقيقية ليست مجرد معركة انتخابية، بل إنها طويلة المدى لبناء نظام ديمقراطي اجتماعي تشاركي، يتجاوب مع مطالب المجتمع التونسي ويحقق أهداف الثورة التونسية.
وأسس «حراك تونس الإرادة» كما هو مدون في وثيقة مبادئه العامة، على أنه مشروع وطني يتجاوز الإيديولوجيات، وهذا التجاوز سلاح ذو حدين، خاصة أن الأيدلوجيات تجد نفسها في تطاحن دائم إذا ما اندمجت في عمل سياسى مشترك، ولاسيما عندما تقفز مواطن الخلاف إلى مقدمة الصورة وتتجاوز الحالة الوطنية التي تتطلب لم الشمل في وقت ما وعدم إظهار الخلافات، ومن هذا المنطلق توطن الصراع في الحزب رغم حرص قياداته على تكتم الخلاف الذي ظهر سريعا بفعل التوجهات والميول السياسية المختلفة داخله وخاصة بين اليسار والعلمانيين وعلى رأسهم رئيس حراك تونس ومؤسسه «المنصف المرزوقي»، صاحب التوجه العلماني المعتدل.
لم يستطع حراك تونس وزعيمه تحقيق أهدافه التي أعلنها فور تدشينه، بل لم يستطع تخطي عقبات تباين الأيدلوجيات وصهرها في بوتقة واحدة، فدخل الحزب في أزمة كبيرة وخاصة على مستوي القيادات، وجاءت الأزمة الأخيرة لتعصف بالفكرة النبيلة بعدما اشتعل الصراع وظهر للعلن منذ بداية المؤتمر السابق للحزب، وظلت تداعيات الخلافات التي أفرزها المؤتمر تنعكس تدريجيا على الحزب، حتى تجاوزت حالة التكتم التي اتبعتها القيادات خشية حدوث انفجار داخلي ليس الآن توقيته المناسب، وقدم نوابا في البرلمان وأعضاء بالمكتب السياسي، والهيئة السياسية استقالات مسببة من مناصبهم بالحزب.
وينقسم حزب حراك تونس حاليًا إلى ثلاث جبهات، واحدة يقودها عدنان منصر الأمين العام السابق للحزب، ورئيس مكتب رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي والمتحدث الرسمي باسمه منذ إبريل 2013، وحتى 2014، وأحد الذين اتهمهم النائب مبروك الحريزي القيادي المستقيل من الحزب بالتخطيط لإقصاء المرزوقي من الصورة، مشيرا إلى أنه أعتمد ما أسماها سياسة الهروب إلى الأمام والكواليس والشائعات لضمان مشروعه الشخصي داخل الحزب بعدما جنّد مجموعة من المكاتب والأشخاص لتسهيل الأمر له.
بينما يقود الجبهة الثانية، الأمين العام السابق لحزب المؤتمر التونسي، وعضو الهيئة السياسية بحراك تونس عماد الدايمي، والذي يوجه انتقادات قاسية للمستقيلين ويوحي بإشارات تفيد في مجملها أنهم يهدفون لتخريب الحزب، أما الجبهة الثالثة فيقودها عياض اللومي، القيادي بحراك تونس، والذي أعلن استقالته منفردًا قبل أيام هو الأخر، مؤكدا أنه قدم استقالته من المكتب التنفيذي منذ شهر رمضان، غير أن رئيس الحزب المنصف المرزوقي رفضها ووعد بحل الإشكاليات التى تفاقمت فيما بعد أكثر وأكثر، وهو ما دفعه للاستقالة رسميا، مشيرا إلي أن الحزب يعيش أزمة أخلاقية كبيرة بالأساس قبل أن تكون أزمة سياسية.
وتتركز الخلافات داخل حراك تونس على حجم النفوذ والإنفراد بالقرار، من مجموعه يقال إنها قريبة من المنصف المرزوقي، والتي تمنع البقية من إيصال صوتها أو انتقاداتها أو تحفظاتها على حراك تونس ومواقفه وأدائه، كما كانت تصريحات المرزوقي على قناة الجزيرة في إطار برنامج «شاهد على العصر» ضمن أهم أسباب الاحتقان والغضب بين صفوف بعض القيادات، خصوصا أن بعض التصريحات وضعت الحزب في صراع بات مفروضًا عليه بجانب العديد من الشخصيات العامة المؤثرة في صناعة القرار السياسي، والأحزاب والحكومة وقطاع كبير من المجتمع المدني، وهو ما ينذر بتفكيك الحزب وإحالته للمعاش مبكرا بجانب الكثير من أحزاب ثورات الربيع العربي التي أحيلت سريعا إلى الاستيداع بفعل الخلافات والانقسامات الداخلية .
أحزاب الثورة المصرية.. نهاية مبكرة والصراع سيد الموقف
لم تكن الانشقاقات والصراعات التي ضربت حزب حراك تونس هى الأولى من نوعها، بل سبقتها الأحزاب المصرية التي ولدت من رحم ثورة 25 يناير، ولم تكن التدخلات الخارجية والأمنية تحديدا السبب الرئيسي في عمليات تفكيك الأحزاب، بل أدي تعارض المصالح وتضارب الأيدلوجيات داخل الحزب الواحد إلى انهيار الأحزاب جميعها، وبخلاف أزمة حزب الحرية والعدالة الذي تأسس بعد ثورة يناير والمنحل حاليا بقرار من المحكمة الإدارية العليا أثر الصراع بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين، لم يسلم من التفكك أشد الأحزاب تنظيما وحجما وهو المصريين الأحرار، الحزب الليبرالي الذي أسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس في أبريل من عام 2011.
وحصل الحزب على 65 مقعدا داخل البرلمان الحالي وهو أكبر تمثيل حزبي حاليا بمجلس النواب المصري، ورغم ذلك تعرض لخلافات ضارية انتهت بانقسامه هو الآخر في ديسمبر 2016، ولا يزال الصراع محتدما بين طرفي الصراع، الأول بقيادة نجيب ساويرس ومن خلفه جبهة برئيس وقيادة منفصلة للحزب معترف بها على استحياء من الدولة، والثاني بقيادة عصام خليل رئيس الجبهة الأخرى والدوائر المحيطة به من المقربين لأجهزة الأمن والذي أعلن قبل أسابيع دعمه وجبهته لإعادة انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيسًا لمصر لفترة ثانية، على الرغم من عدم فتح الباب رسميا لذلك أو إعلان أي مرشح آخر بشكل رسمي ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية المصرية المقبلة .
وعلى خطى المصريين الأحرار، لم يسلم من الصراعات كافة الأحزاب التي حملت لواء مطالب ثورة 25 يناير، حيث تعرض حزب المصري الاجتماعي الديمقراطي، الذي قام على أكتاف تحالف من قوى اليسار والليبراليين لهزة عنيفة من الأزمات انتهت باستقالة مؤسسه وأول رئيس له الدكتور محمد أبو الغار، وذلك إثر اعترافه بالعجز في مواجهة الأزمات وتفكيك الشللية بين الأعضاء، حسب نص استقالته في سبتمبر من العام الماضي.
وكذلك انتهت أغلب مسيرة الأحزاب الليبرالية التي خرجت من رحم الثورة، مثل العدل ومصر الحرية، وحزب الدستور المحسوب علي يسار الوسط بعد تعرضهم لازمات قاتلة داخلية، لدرجة أن قطب الليبرالية والحريات الأعظم في مصر ــ كما يصوره أتباعه ــ الدكتور محمد البرادعي قدم استقالته من منصب الرئيس تبعا للخلافات المشتعلة، ولم يستطع الحزب من وقتها لم شمله رغم المجهود الكبير للدكتور هالة شكر الله التي تسلمت رئاسة الحزب حلفا للبراعي، لتقدم استقالاتها هى الأخرى وتشتعل الخلافات بين قلة لا تزال تتصارع على رئاسته والمناصب العليا فيه، لينتهي الحزب تماما وينعدم أثره في الحياة السياسية المصرية، لتثبت الأحزاب التي خرجت من رحم الثورات العربية جميعها، أن هناك هوّة سحيقة تفصل بينهم وبين الديمقراطية، ومفاهيم التعددية السياسية، بل وتفصل بينهم وبين أحلام المواطنين في أوطان تجنح للحداثة، لا تردها قيود ولا تحكمها رجعية أو فاشية .