ترجمة وتحرير نون بوست
نجحت أوروبا في التخفيف من حدة تدفق المهاجرين القادمين من ليبيا. ولكن ظاهرة تهريب البشر لم تتوقف بصفة كلية في هذا البلد، علما وأن الميليشيات الليبية تستغل هذه القضية سياسيا تماما مثلما كان الرئيس الليبي السابق، معمر القذافي، يوظفها لصالحه.
في الواقع، تمكنت الحكومة الإيطالية من الحد من موجات المهاجرين الوافدين من السواحل الليبية. فبعد أن بلغ عدد قوارب اللاجئين التي تصل إلى السواحل الإيطالية يوميا حوالي 5 آلاف قارب، تراجع هذا العدد خلال شهر تموز/يوليو الماضي بشكل ملحوظ، حيث لم يعد يتجاوز المئات. ووفقا لبعض التقارير الصحفية الأجنبية، تمكنت الحكومة الإيطالية من القضاء على كل أساليب التهريب، في حين تبين أن روما تمول الميليشيات الليبية التي كانت تعمل في مجال تهريب البشر.
5 مليون يورو في الشهر الواحد
تقاضت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس الملايين من اليوروات من قبل الحكومة الإيطالية من أجل مكافحة الهجرة غير الشرعية. وفي هذا الصدد، أورد عونا أمن من صبراتة لوكالة الأنباء “أسوشيتد برس” أن المساعدات الإيطالية تصب بصفة مباشرة في جيوب ميليشيات الدباشي التي تتمتع بنفوذ واسع.
والجدير بالذكر أن موظفي المخابرات الإيطالية أبرموا اتفاقا بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية مع الحكومة الليبية في ظل غياب أي حضور لحكومة بلادهم. وفي هذا الإطار، أفاد عونا الأمن المذكوران أعلاه، أن “مهربي الأمس، أصبحوا يكافحون اليوم ظاهرة تهريب البشر”.
تعد ميليشيات الدباشي الميليشيا الأكثر نفوذا في غرب طرابلس، لا سيما وأنها لا تنشط في مجال تهريب البشر فحسب، بل تورطت أيضا في تهريب النفط
عموما، تتزامن هذه الروايات مع التقرير الذي أعدته الصحفية في موقع “ميدل إيست آي”، فرانشيسكا مانوتشي، والذي أوضح أن الميليشيات تلقت مبلغا يقدر بحوالي 5 مليون يورو في سبيل منع المهاجرين من امتطاء القوارب والتوجه نحو السواحل الإيطالية. وفي هذا السياق، صرح متحدث باسم ميليشيا الدباشي لوكالة الأنباء “أسوشيتد برس” أن الاتفاق يعتبر بمثابة “هدنة”. وأردف المتحدث ذاته أن ظاهرة تهريب البشر ستزدهر من جديد في حال لم تتلقى هذه الميليشيات دعما من قبل الدول الأوروبية.
“نظام مافيا”
في واقع الأمر، تعد ميليشيات الدباشي الميليشيا الأكثر نفوذا في غرب طرابلس، لا سيما وأنها لا تنشط في مجال تهريب البشر فحسب، بل تورطت أيضا في تهريب النفط. وفي الأثناء، تكفل البعض من أفراد هذه الميليشيا بحراسة مصافي شركة مليتة للنفط والغاز بكل من صبراتة وزوارة، علما وأن هذه الشركة تعتبر فرعا لشركة “إني” الإيطالية العملاقة. ووفقا لأحد التقارير الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، لا يعتبر تهريب النفط حالة شاذة، بل يمثل ظاهرة منتشرة في كافة أنحاء ليبيا.
ووفقا لهذا التقرير، يعد قائد ما يعرف “بحرس المنشآت النفطية”، أحد المتورطين في تهريب الذهب الأسود. من جانب آخر، يعتبر رئيس خفر السواحل، عبد الرحمن ميلاد، شريكا لهذه الميليشيات، مع العلم وأن هذا الرجل يعد سيد القرار بشأن مصير السفن التي تبحر في السواحل الليبية بغض النظر عن محتواها.
وتجدر الإشارة إلى أن النفط يصل إلى كل من مالطا واليونان وتركيا وإيطاليا انطلاقا من ليبيا، وذلك بالتعاون مع مافيا صقلية. ومن هذا المنطلق، حذر النقاد من تسخير هذه الميليشيات لمكافحة الهجرة وتعزيز نفوذها عن طريق دفع مبالغ ضخمة. وفي هذا السياق، أفادت الصحفية الاستقصائية التي عملت لمدة طويلة في طرابلس، نانسي بورسيا، أن “هذه الإستراتيجية من شأنها أن تفضي إلى نتائج إيجابية على المدى القصير، لكنها قد تؤدي إلى خلق فوضى في المنطقة على المدى الطويل، إن هذه الإستراتيجية شبيهة بنظام المافيا”.
غياب البدائل المناسبة
تعتبر الإستراتيجية التي تنتهجها المليشيات الليبية محفوفة بالمخاطر نظرا لأنها لا تحظى بشعبية واسعة لدى عامة الشعب الليبي. فعلى سبيل المثال، وعندما غرق قارب يقل 600 لاجئا في مياه زوارة في آب/أغسطس سنة 2015، تم ترحيل المهربين من المدينة مخافة وقوع مواجهات. وفي ذلك الوقت، بادرت الحكومة الإيطالية بالتدخل لإيجاد حل للمشكلة. وفي ظل غياب حكومة مركزية، دخلت روما في مفاوضات مع العشرات من العمد في سواحل وفي جنوب ليبيا، حيث تعهدت الحكومة الإيطالية بتقديم المساعدات الاقتصادية والإنسانية في حال تم مساعدة المهربين. وبالفعل، تلقى المستشفى الجامعي بصبراتة ألف طن من المساعدات الطبية.
ساهمت كل من روسيا ومصر والإمارات العربية المتحدة في بروز المشير خليفة حفتر الذي يعمل على جمع شمل العشائر والقبائل في شرق ليبيا بقبضة من حديد، على الساحة السياسية الليبية
عموما، ينبغي على أي شخص يفكر في انتقاد إستراتيجية الحكومة الإيطالية، أن يبادر باقتراح بدائل. فإثر سقوط الديكتاتور معمر القذافي سنة 2011، حاول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية إدماج ميليشيات غرب ليبيا في صلب دولة تشمل الجميع، وذلك بعد نجاح هذه الميليشيات في نقل البرلمان المنبثق عن انتخابات سنة 2014 إلى شرق البلاد فضلا عن مساهمتها في تقسيم البلاد. وفي ذلك الوقت، كانت مختلف الأطراف تأمل في تسيير البلاد من قبل حكومة شرعية وليس من خلال إملاءات خارجية.
منذ غلق طريق البلقان في وجه المهاجرين، يحاول العديد من الأشخاص المنحدرين من أفريقيا والشرق الأوسط النفاذ إلى أوروبا في قوارب مكتظة عبر البحر المتوسط.
من جانب آخر، ساهمت كل من روسيا ومصر والإمارات العربية المتحدة في بروز المشير خليفة حفتر الذي يعمل على جمع شمل العشائر والقبائل في شرق ليبيا بقبضة من حديد، على الساحة السياسية الليبية. وبعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة فايز السراج في سنة 2015، تجددت الآمال بشأن إمكانية استقرار الوضع في ليبيا. في المقابل، لم تتمكن هذه الحكومة من سد الفجوة بين الشرق والغرب، وفرض سيطرتها على الميليشيات في طرابلس. وفي ظل الفراغ في السلطة، لم يتبق خيار آخر سوى التعاون مع الميليشيات الأكثر نفوذا والتصدي السريع لظاهرة تهريب البشر المتفشية. ولعل البديل الوحيد يتمثل في التدخل العسكري مع الأخذ بعين الاعتبار كل عواقبه.
المهربون، كلاب القذافي
في حقيقة الأمر، تفشت ظاهرة تهريب البشر بشكل ملحوظ بعد سقوط القذافي خاصة في ظل تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، مع العلم وأن هذه الظاهرة برزت خلال عهد الرئيس الليبي الراحل. وفي ذلك الوقت، لم يكن أمراء الحرب يسيطرون على مجال تهريب البشر، بل كانت هذه الظاهرة تتم تحت إشراف نظام القذافي.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، حيث لم تدعم الدول الأوروبية ديكتاتورا كبيرا، بل عمدت إلى مساندة العديد من العشائر الصغيرة والقبائل وأمراء الحرب
في الواقع، استغل القذافي مسألة المهاجرين على اعتبارها وسيلة ضغط سياسية تماما مثل المليشيات في الوقت الراهن. كان الديكتاتور الليبي يدْعي آنذاك، أنه الوحيد القادر على إنقاذ أوروبا من التجارة السوداء. وفي سنة 2009، أبرم الرئيس الليبي السابق اتفاقية مع حكومة سيلفيو برلسكوني على غرار الاتفاق الحالي المبرم بين الحكومة الليبية والحكومة التركية أو المغربية
في ذلك الوقت، وعدت روما باستثمار 200 مليون يورو في مشاريع البنية التحتية. علاوة على ذلك، أمن الإيطاليون سفنا جديدة لخفر السواحل. في المقابل، أعيدت القوارب المقلة للاجئين إلى ليبيا. وفي هذا السياق، أشارت منظمة هيومن رايتس ووتش إلى “الصفقات القذرة” التي تحاك في الخفاء بين مختلف الأطراف، كما نددت بسوء معاملة المهاجرين في السجون الليبية. عموما، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، حيث لم تدعم الدول الأوروبية ديكتاتورا كبيرا، بل عمدت إلى مساندة العديد من العشائر الصغيرة والقبائل وأمراء الحرب.
المصدر: نويه تسوريشر تسايتونغ