تغيرت طرق التواصل العامة لتدخل إلى عالم الفضاء الافتراضي الذي لا حدود له ولا رقابة عليه، ومع الاستخدام الواسع لهذه الشبكة من جميع المجتمعات والفئات العمرية لا يمكن حصر الموضوعات والصفحات والأشخاص الذين قد يظهرون للمستخدمين على هذه الشبكة العالمية.
وعلى الرغم من الإضافات الجوهرية التي حدثت في المجالات الاقتصادية والمعلوماتية والسياسية والاجتماعية بسبب التكنولوجيا، لا بد من ذكر بعض المخاطر التي تصاحب هذه التقنية الحديثة، خاصة وإن كانت هذه السلبيات تؤثر على المراهقين والأطفال من قبل بعض الغرباء الافتراضيين.
من أبرز المشكلات التي ظهرت وتوسعت مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي هي “التنمر الالكتروني” والمقصود به هو سلوك عدواني الغرض منه هو التسبب بالأذى للأخرين عن طريق التحرش أو التخويف أو الاستفزاز النفسي والمادي والملاحقة عبر الانترنت خاصة لطلاب المدارس. ولقد بدأت هذه الظاهرة بالظهور منذ استخدام البريد الالكتروني ومواقع الدردشة والتعارف التقليدية.
التنمر التقليدي والتنمر الحديث
ما يتعرض له الطلاب من مضايقات لفظية أو جسدية من بعض زملائهم أمر غير سار بشأن بيئة المدرسة، لأنه يجعل الطالب يعيش مرحلة دراسية صعبة وموترة ولها عواقبها السلبية على الصعيد النفسي والاجتماعي.
فلقد كشفت دراسة أمريكية عن أن الأذى الذي يتسبب به التنمر وصل إلى التأثير على التحصيل الدراسي وعلى تفاعل الطلاب داخل الصفوف الدراسية، على عكس الطلاب الذين لم يتعرضوا إلى مضايقات خارجية في محيط المدرسة كانت درجاتهم الدراسية جيدة نسبيًا وتفاعلهم الاجتماعي أفضل.
وبهذا الشأن قال المسؤول عن هذه الدراسة، جاري ليد: “التعرض للتنمر في سنوات الدراسة أصبح من أهم المسائل في السنوات الأخيرة، وذلك لأننا أصبحنا أكثر تفهمًا لأضرار هذه الظاهرة”.
ظاهرة التنمر بين الطلاب والطالبات في السعودية وصلت إلى 57%
كما تقول المدونة وطالبة علم النفس، إسراء حتاملة: “على المجتمع أن يتكاتف لإيقاف التنمر بمفهومه العام والمدرسي بشكل خاص لما له من الضرر الكبير. التنمر يؤثر جليًا على الكثير من الأطفال بسبب سلوكهم الهادئ أو بنيتهم الجسدية الضعيفة وسجلت حالات انتحار كثيرة في العالم بسبب هذا النوع من التنمر”.
وتعتبر السعودية من أكثر الدول العربية تعرضًا لهذا النوع من الضرر، فلقد قال الباحث عبد الرحمن الزهراني في جامعة الملك عبد العزيز في جدة أن “نسبة ظاهرة التنمر بين الطلاب والطالبات في السعودية وصلت إلى 57% و27% ممن مارسوا هذا الأذى على أقرانهم”.
أما عندما تحولت مواقع السوشيال ميديا إلى أداة وضرورة يومية وأصبح الجميع يتسابق للحصول على أكبر عدد من الأصدقاء الافتراضيين للحصول على أكبر عدد من إشارات الإعجاب والمتابعين والمشاهدات على الصفحات الشخصية أصبحت هذه العلاقات الالكترونية جزء من ثقافة العالم بالرغم من وجود اختلافات واضحة بين طبيعة المجتمعات وهذه الثقافة التي لها جوانب غير صحية تمامًا، وهذا لأن عالم الانترنت يسمح ببعض السلوكيات التي لا يمكن تقبلها أو التعامل معها على أرض الواقع ومع الأشخاص الحقيقيين.
قبل سنوات كان يمكن للطفل أن يهرب من المتسلطين عندما يغادر الملعب أو المدرسة أما الآن فالطفل مستهدف على مدار الساعة
بالنسبة إلى التنمر المدرسي فيمكن للضحية التعرف على هوية من يتعاملون معه وغالبًا ما يكون هذا التنمر عبارة عن عنف جسدي ويمكن ملاحظة هذه المشكلة بشكل واضح من هذا الضرر المباشر، أما التنمر عبر شبكة الانترنت فمن الصعب التكهن بمدى قوة تأثيره على نفسية الضحية والأصعب هو رصد هوية المبتز أو المتحرش أو توقيفه عن حد معين.
قال بيتر وانليس، الرئيس التنفيذي للمجلس الوطني للثقافة والفنون في المملكة المتحدة: “البلطجة على الانترنت هي واحدة من أكبر تحديات هذا الجيل في حماية الطفل. إنها مشكلة جدية ظهرت من خلال الاستخدام المتزايد للإنترنت. قبل سنوات كان يمكن للطفل أن يهرب من المتسلطين عندما يغادر الملعب أو المدرسة أما الآن فالطفل مستهدف على مدار الساعة”.
ولاستيعاب الآثار السلبية لهذه الظاهرة الالكترونية، والتي تذكرها روبين كوالسكي، بروفيسورة بعلم النفس في جامعة كليمسون تقول: “التنمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي يسبب أذى نفسي كالتوتر والاكتئاب وقلة الثقة بالنفس والغياب عن المدرسة والميل إلى الانعزال”. كما تضيف “ميزة الخفاء هي ما تسمح للتنمر بالتوسع بصورة مؤذية جدًا حتى تنتشر لمئات الأشخاص، فمن المؤكد أن التواصل البعيد أزال الشعور بالخوف أو الرهبة أو الاحراج”.
وللتنمر الرقمي أساليب عديدة منها الرسائل المهينة العدائية والصور المعدلة التي تستخدم لأغراض ابتزازية أو مثل انتحال شخصيات مختلفة عبر حسابات مواقع السوشيال ميديا، كما يتم التواصل مع الضحية من خلال الهوية المزورة أو نشر الاشاعات التي قد تمس بسمعة أو صورة الشخص المستهدف.
إخفاء الهوية
من أهم العوامل والأسباب التي ساعدت على تفشي هذه الظاهرة هي بقاء هوية المتنمر مجهولة عن العالم الواقعي الذي نعيش فيه وهي ما تمنح المتنمرين الشجاعة الكاملة خلف لوحة المفاتيح وتمكنهم من ارتكاب أمورًا لا يمكنهم ارتكابها خارج هذا المحيط الافتراضي. وهذه الشجاعة الزائفة قد تصل إلى أن تجرح مشاعر وتدمر حياة مئات الأشخاص على الشبكة.
بهذا الشأن يقول سمير هيندرجو الخبير في مكافحة التنمر عبر الانترنت: “لابد من وجود مؤسسات دعم اجتماعي ونفسي لطلاب المدارس وخاصة لمن هم من الأطفال وسن المراهقة، لأنه في هذه المرحلة يشعر المراهقون غالبًا بالوحدة والحاجة لجذب الانتباه والتأثير” ويتابع “المصدر الأول الذي يفكرون به للحصول على الاهتمام هو مواقع التواصل الاجتماعي التي توفر لهم عدد هائل من الأصدقاء الافتراضيين والمتابعين”.
24% من المراهقين تم استهدافهم الكترونيًا ومهاجمتهم لأسباب عنصرية أو دينية أو اجتماعية أو جنسية
وعندما يقوم بعض الأطفال بإعلام أولياء الأمور عما يمرون به من أذى على المنصات الالكترونية فإن غالبية الآباء يتعاملون مع هذه المسألة بقدر من الاستهتار أو الشدة وكلتا الحالتين لا تفيد فعليًا بحل هذه المشكلة، فمثلًا يقوم البعض بمنع أطفالهم من استخدام الهاتف أو إزالة بعض التطبيقات عليه، الأمر الذي لا يعد ناجحًا تمامًا وهذا وفقًا لما تقوله المديرة التربوية أمل بورشيك أنه “من غير المنطقي منع الشباب من مواكبة العصر في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي أو حرمهم من منعة استخدام هذه الأجهزة التقنية الحديثة في التصوير أو التواصل، فهذه لغة عصرهم، والمسألة تحتاج إلى تثقيف وتعليم بكيفية استخدام هذه التكنولوجيا وتقديم التشجيع والدعم اللازم لهم من خلال خلق سلوكيات وأطباع تمنعهم من التأثر بهذه الممارسات المؤذية وتجنبهم أيضًا الوقوع في الفخ الاجتماعي الافتراضي”.
كما تشير بعض الاحصائيات إلى أن انتشار الأجهزة الكترونية وتزايد مواقع التواصل جعل المراهقون يشعرون بضغوط كثيرة لا مهرب منها والذي وصلت نسبتهم إلى 24% من المراهقين الذين تم استهدافهم الكترونيًا ومهاجمتهم لأسباب عنصرية أو دينية أو اجتماعية أو جنسية. وهذا ما أكدته جمعية منع القسوة على الأطفال أن التنمر الالكتروني زاد بنسبة 88% خلال الخمس سنوات الماضية.
عدد المتهمين بارتكاب جرائم الكترونية على الانترنت زاد ثمانية أضعاف خلال العشر سنوات الماضية، حيث سجن 155 شخصًا لإرسال رسائل أو مواد أخرى صنفت بأنها هجومية عدوانية أو غير لائقة ومهينة
إضافة إلى رئيسة قسم سلامة الطفل، كلير ليلي، التي قالت: “يمكن أن يكون التنمر مدمرًا للشباب بغض النظر عن الشكل الذي يتخذه، لكننا نعلم أن التسلط عبر الإنترنت يمكن أن يكون ضارًا بشكل أكبر لأنه لا يتوقف عند بوابات المدرسة بل يتبع الأطفال إلى داخل المنزل لأنه من الصعب الكشف عن هوية المتسلط”.
ومن أسوأ السيناريوهات التي حدثت بسبب التنمر الالكتروني هي حالات الانتحار وإيذاء النفس لأن البلطجة الالكترونية حفزت الشباب على الشعور بالاكتئاب والانعزال والتقليل من قيمة الذات.
إذ أوضحت البيانات الصادرة عن وزارة العدل في العام الماضي أن عدد المتهمين بارتكاب جرائم الكترونية على الانترنت زاد ثمانية أضعاف خلال العشر سنوات الماضية، حيث سجن 155 شخصًا لإرسال رسائل أو مواد أخرى صنفت بأنها هجومية عدوانية أو غير لائقة ومهينة.
ومن أوائل المحاولات الجادة للحد من هذه الظاهرة المدمرة بشكل نفسي واجتماعي، قامت الحكومة البريطانية باستثمار أكثر من 4 مليون جنيه إسترليني لتقديم ندوات في المدارس لتوعية الطلاب بظاهرة التسلط عبر الانترنت وتقديم التوجيهات الضرورية لهم في حال حدوث أي من المضايقات الالكترونية سواء كانت لفظية أو جنسية أو مادية.