عندما تنتهي خصوماتنا حول العيد والأضحية وتقاليدنا البربرية المتوحشة كما يراها جماعة منا اعتادوا فقط أكل اللحم دون شهود الذبح وشم الدم في المسالخ سنفتح معركة العودة المدرسية ونختلف كالعادة ونتذابح ولكن من حسن الحظ أن مذابحنا لا تزال في السوشيال ميديا ولم نمر إلى السكاكين الطويلة في ليل تونس الطويل. شهر أيلول العَرِق اللزج هو شهر العودة المدرسية ولكن بأية حال سنعود إلى المدرسة ونعيد أولادنا إلى الفصول وكل شيء في مدرستنا منذر بنهايتها وبنهاية أحلام الأسرة التونسية التي ربطتها بنجاح أولادها وانعتاقهم بالمدرسة في غياب ثروة نفطية جزيلة تعلمنا الكسل وتغنينا عن العمل؟
إصلاح التعليم حلم من أحلام الثورة
كانت هناك قناعة عامة قبل الثورة بأن المدرسة التونسية وصلت إلى نهاية فعاليتها. وأن إصلاح التعليم يجب أن يكون أولوية للثورة وللحكومات التي ستفرزها. ودار حديث كثير حول الموضوع من قبل المختصين ومن قبل السياسيين ومن قبل الشارع الطامح إلى مدرسة عصرية تخرج كفاءات مهنية لا مجرد حاملي شهادات بلا تكوين حقيقي. كان هناك نقد علمي لما فعل نظام بن على بالمدرسة وتهميش مخرجاتها في عالم معولم. لكن الاتفاق على ما يجب أن يكون أفسد ما هو كائن وهذه إحدى المعارك الحاسمة في تاريخ هذا البلد لو أفلح في إدارتها ولو بشكل متأخر فإنه سينجو من صعوبات كثيرة تتربص به على المديين القصير والمتوسط وهناك احتمال (نظري) بأن المدرسة المبتغاة ستعيد بناء تونس أخرى غير التي ثار عليها الناس واسقطوا نظامها السياسي. لكن هذا يتحول الآن إلى حلم مستحيل.
إن الخلاف حول المستقبل يفسد الحاضر. فقد تجلت النوايا التي توجه عملية الإصلاح المرغوبة وخاصة في مجال البرامج التي ستقدم لأبنائنا. المعركة بين تيار الهوية وتيار التحديث اللائكي هيمن على المدرسة ويهيمن على عملية الإصلاح أو مشاريع الإصلاح. مكانة اللغة الوطنية محل جدال كأنها لغة ميتة عند طرف ولغة معجزة عند الآخر مكانة اللغة الفرنسية ليست محل جدال والجميع يهاب المساس بها لصالح لغات أجنبية أخرى كأنها اللغة الأولى في العالم أو لغة المعرفة الوحيدة. لم يتبين أي اتجاه إلى الوسط بين التيارين بخصوص اللغة الوطنية وبخصوص الحاجة إلى تعليم اللغات الأجنبية الأكثر فائدة لبلد محتاج إلى تسويق نفسه وتسويق خرّيجيه في العالم المهني المفتوح والذي يتعامل بالإنجليزية أكثر الوقت.
للنقابة شأن آخر مع التعليم ومع وزارة التعليم بكل مراحله وتسيطر تيارات سياسية يسارية على النقابات بحيث تحولها إلى أداة سياسية لتفاوض بها على غير النقابي والتعليمي
لم يظهر أي سعي إلى الالتقاء في الوسط بخصوص تعليم الأبناء شعائر الدين في المدرسة. فقد أفلح التيار الحداثي في منع تعليم الدين في المساجد لأن التيار الديني خاصة يستفيد من ذلك وعادت رقابة المساجد بعد الثورة(حجة السلفية كانت مفحمة) ودروس الدين في المدرسة العمومية صارت أقل مما كانت عليه بتخفيض ضواربها لصرف المتعلمين عنها مقابل دروس العلوم الصحيحة وقد وصلت التعليمات بخصوص اجتناب الإسلام الجهادي (القتالي) وهي تفرض الآن بالقوة كما هو الأمر في بلدان عربية أخرى تلقت أوامر مباشرة بعد أحداث سبتمبر بمحو آيات الجهاد من المصحف.
معركة ذات أفق كاسر للمدرسة ولا تبدو في وارد التوافقات السياسية السائدة الآن. فالتوافقات وقفت عند تدبير رواتب الموظفين دون الذهاب إلى عمق متطلبات المجتمع التونسي الذي رفع شعار إصلاح التعليم مع شعارات الثورة. وسندخل المدرسة مرة أخرى لنعلم أولادنا أن لغتهم ميتة وأن لغة المعرفة والفن والثقافة هي لغة البلد المحتل سابقا.
التعليم ووزارته منطقة نفوذ نقابي
للنقابة شأن آخر مع التعليم ومع وزارة التعليم بكل مراحله وتسيطر تيارات سياسية يسارية على النقابات بحيث تحولها إلى أداة سياسية لتفاوض بها على غير النقابي والتعليمي. السنوات الكثيرة تغولت نقابات التعليم بمرحله الثلاث وفرضت مطالب سياسية على حكومات هشة وعاجزة حتى وصل الأمر بالنقابيين إلى تغيير الوزير على هواهم.
اتخذت النقابات إلى ذلك سبلا غير قانونية ولا أخلاقية كفرض الإضرابات بالقوة بإغلاق المعاهد والمدارس في وجه رافضي الإضرابات وحجبت أعداد التلاميذ عن أولياهم وقاطعت إصلاح الامتحانات وهددت في كل سنة العام الدراسي ونالت كل ما تبتغيه من زيادات في الرواتب والنفوذ على المدرسة ولديها مطالب جديدة لكل عام دراسي جديد. ولكن انتصارها الأكبر على المدرسة هو أنها تملكت حقا إداريا في فرض رجالاتها في الإدارة من الوزير إلى آخر حاجب في مدرسة ريفية والوزارة الآن ملك غير رسمي للنقابات ولذلك فإن معركة اختيار الوزير هذه الأيام لا بد أن تمر بالنقابة ولا مجال لتجاوز نفوذها لأن العام الدراسي مرهون برضاها.
يذهب الناس الآن إلى فتح المدارس الخاصة ويهمشون التعليم العام. وهو حل قُبِل الآن رغم أن الجميع يدافع عن المدرسة العمومية بصفتها مكسبا وطنيا في دولة اجتماعية أكثر سكانها يفتقرون إلى كلفة التعليم الخاص المرتفعة
أما ماذا تقدم النقابة في مسألة الإصلاح البرامجي فهذا سؤال غير مسموح به لأن النقابات العروبية اليسارية (وصلت إلى التمركز النقابي عن طريق شعارات الدفاع عن العروبة والعربية في المدرسة)لم تجد الشجاعة لتدافع عن مكانة اللغة العربية في التعليم. لقد اصطفت مع التيار اللائكي لأن احتمالات توسيع تعليم العربية قد يصب في مصلحة الإسلاميين(تعلم العربية يوسع أفق تعلم القرآن والقرآن في تونس ملك للإسلاميين هكذا فكر محمد الشرفي المتخصص في تجفيف منابع التدين).
مصير المدرسة التونسية الآن وهنا
فضلا عما تم تفكيكه من الصراعات حول البرامج والنفوذ على المدرسة والاطار التعليمي فإن معضلة أخرى تنذر بنهاية المدرسة. لقد انكسر منذ بداية الإصلاح الاقتصادي الليبرالي مع بن علي الرابط بين التعليم والعمل ولم تعد الأسرة التونسية في الغالب تؤمن بأن المدرسة توفر راتبا لأبنها. البعض غنم التحرر ولكن الأغلبية فقدت البوصلة لأن المدرسة لم توفر البديل المهني لما كان يقدم سابقا (تكوين الاطار الإداري والأمني والعسكري لتونس) لقد كسرت الروابط القديمة والإصلاح الذي يجب أن يقترح البدائل المستقبلية لم يقترح غير الصراعات الأيديولوجية التي أشرنا إلى بعضها فسجن المدرسة هناك وأعدم أفقها.
المدرسة التونسية العمومية تتجه إلى كارثة ماحقة والمسؤولية مشتركة الآن لكن الصراع الأيديولوجي داخلها وحولها يخلق إطارا كاملا للخراب التعليمي
يذهب الناس الآن إلى فتح المدارس الخاصة ويهمشون التعليم العام. وهو حل قُبِل الآن رغم أن الجميع يدافع عن المدرسة العمومية بصفتها مكسبا وطنيا في دولة اجتماعية أكثر سكانها يفتقرون إلى كلفة التعليم الخاص المرتفعة. لكن الهروب يحل مشكلة طبقة مرفهة (متوسطة عليا) للإنقاذ أبنائها ولكن فقراء البلد سيخرجون من مدرسة لم يعودوا يرون فيها ضياع وقت أبنائهم. تعليم بسرعتين يترك خلفه أمية تتفشى.
نهاية حزينة رغم فرحة العيد
إنها نهاية مرحلة التعليم العام المكوّن والمشغّل دخلناها قبل الثورة وكانت الثورة تريد الاستدراك وإصلاح ما أفسد بن علي ونموذجه الاقتصادي المناول والتابع لكن صراعات الأيديولوجية خربت الحلم وتخرب ما تبقى من المدرسة وها نحن عائدون إلى عام دراسي تحكم المدرسة فيه نقابات بلا وازع تربوي ويقدم فيه المعلمون دروسا لا علاقة لها بواقع الناس وحاجاتهم. وفي المقابل يزدهر خطاب تمجيد المدرسة كغطاء أخير لموت معلن لمدرسة لم تعد تفخر المتعلمين بها.
في خضم الاستعداد للعودة المدرسية لهذه السنة نرى أن المدرسة التونسية العمومية تتجه إلى كارثة ماحقة والمسؤولية مشتركة الآن لكن الصراع الأيديولوجي داخلها وحولها يخلق إطارا كاملا للخراب التعليمي. بعد أن خرّب المحاولة الديمقراطية الوحيدة في البلد. سيقول كل أب يودع أبناءه مؤسسة تعلمية إني أسلم ولدي للخراب المنهجي ولكن ليس لدي خيار آخر. إن فقرنا يكسر رقابنا أمام تيارات التخريب السياسي للمدرسة. ستبكي الأجيال القادمة من أثر هذه المرحلة.