قد تعتقد مثلك مثل الكثيرين أنّ أفكارك ومعتقادك هي نتاج سنوات من الخبرة والمعرفة والتحليل الموضوعي للمعلومات والتفاصيل التي تتوافر لديك، وقد ترفض بشكلٍ قاطع أن تعترف أنّ ثمة عوامل عديدة تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل أفكارك وتكوين معتقداتك، فكلّ فردٍ منا يحبّ دومًا أو يميل لأن يتصور أنّ كلّ ما يؤمن به يخضع لنطاقٍ واسع من العقلانية والمنطقية والموضوعية.
يُعد تسليط الضوء على الدليل الذي يؤكد ما نؤمن به بالفعل حيلة من بين الحيل التي تستخدمها عقولنا. فإذا سمعنا شائعة بشأن منافس لنا أو شخص نكرهه فإننا نميل إلى تصديقها، ونسرع في إطلاق الحكم قائلين “أنه رجل سيء”؛ وإذا سمعنا نفس الشائعة عن صديق عزيز لنا، فمن المرجّح ألا نصدقها، وأن نقول “هذه مجرد شائعة”.
لكنّ الحقيقة هي أنّ عقولنا البشرية لا تسلم من مشكلة كبيرة تُعرف في علم النفس باسم “الانحياز التأكيدي”، وتشير إلى أنّ أفكارنا ومعتقداتنا تستند غالبًا إلى الاهتمام والإيمان بالمعلومات التي تدعم أفكارنا المتواجدة لدينا من قبل، وفي الوقت نفسه نميل إلى تجاهل المعلومات التي تتحدى وتعارض معتقداتنا القائمة.
على سبيل المثال، تخيل أنّ شخصًا ما يحمل اعتقادًا بأنّ الذكور أكثر إبداعًا ونجاحًا من الإناث. كلّما واجه هذا الشخص رجلًا أو شابًا مبدعًا فسيحيل أسباب إبداعه ونجاحه لكونه ذكرًا. وعلى العكس تمامًا، كلّما واجه امرأةً غير ناجحة فسيحيل سبب فشلها لكونها أنثى. وقد يسعى ذلك الشخص أيضًا لتأكيد فكرته ومعتقده الذي يؤمن به عن طريق استبعاد وتجاهل –عامدًا- أي مثالٍ لامرأة ناجحة أو أي مثال من هذا القبيل والذي بدوره يمكن أنْ يقلّل من دعم فكرته وإضعافها.
يلعب الإنترنت دورًا كبيرًا في ترسيخ انحيازاتنا التأكيدية، فقد سهّلت محركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي وسارعت من الوصول للمعلومات والبيانات بشكلٍ غير مسبوق في التاريخ
وبمجرد أن نكون قد شكلنا وجهة نظر حول موضوع ما، فإننا نحتفظ بالمعلومات التي تؤكد هذه الوجهة مع تجاهل أو رفض أي معلومات قد تثير شكوكنا في ذلك. وبالتالي لا ننظر إلى الظروف والأحداث بطريقة موضوعية، وإنما نختار التفاصيل من المعلومات والبيانات التي تجعلنا نشعر بأننا بحالةٍ جيدة وتقودنا للراحة المعرفيّة لأنها تؤكد ما لدينا. وهكذا، نصبح سجناء لافتراضاتنا التي قد لا ترتبط للموضوعية والمنطق بصلة.
تؤثر هذه التحيّزات أو الانحيازات على الطريقة التي يقوم بها الأفراد بجمع المعلومات من حولهم، إضافةً على كيفية تفسيرهم لتلك المعلومات وحفظهم وتذكرهم لها. فإنّ الأشخاص الذين يدعمون أو يعارضون قضية معينة لن يسعوا للحصول على معلومات تدعمها وتؤكدها فحسب، بل سيسعون أيضًا لتفسير الأحداث بالطريقة التي تدعم أفكارهم الحالية، وسوف يتذكرون أيضًا الأشياء بطريقة تعزز هذه الأفكار.
في عام 1960، أجرى عالم النفس المعرفي “بيتر واسون” عددًا من التجارب التي أظهرت وتوصّلت إلى أنّ الأشخاص لديهم ميل كبير للحصول على المعلومات التي تؤكد معتقداتهم القائمة. ولسوء الحظ، فإنّ هذا النوع من التحيز يمكن أن يمنعنا من النظر في المواقف والأحداث بشكل موضوعي، إضافةٍ إلى إمكانية تأثيره على القرارات التي نتخذها والتي يمكن أن تؤدي إلى خيارات ضعيفة أو خاطئة.
ولو نظرنا للموضوع فسنرى أنّ تأثيره لا يقتصر على الأحداث الصغيرة والمواقف الفردية وحسب، وإنّما يمتد بشكلٍ أكبر ليؤثر على المجتمع ككلّ. فخلال موسم الانتخابات على سبيل المثال، يميل الناس للبحث عن المعلومات الإيجابية التي تحسّن من صور مرشّحيهم وتؤكد على أحقيتهم بالفوز، وفي الوقت ذاته يبحثون أيضًا عن المعلومات السلبية التي تشوه صورة المعارضين وتؤمن بعدم أحقيتهم بالفوز.
كما يلعب الإنترنت دورًا كبيرًا في ترسيخ انحيازاتنا التأكيدية، فقد سهّلت محركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي وسارعت من الوصول للمعلومات والبيانات بشكلٍ غير مسبوق في التاريخ، لكن المشكلة تكمن في أننا اعتدنا دومًا على البحث عما يؤكد قناعاتنا المسبقة فقط ومتابعة من يوافق أفكارنا ومواقفنا، وكأننا نبحث عن ملاذٍ آمن يحمي قناعاتنا الشخصية دون تعريضها لخطر التغيير أو التبديل.
كلنا مصابون بالانحياز التأكيدي أو نصاب به أحيانًا، نميل لتفضيل المعلومات التي تؤكد أفكارنا المسبقة وافتراضاتنا، بغض النظر عن صحة هذه المعلومات. من الجيد معرفة ذلك والإقرار به، فهذا يساعدنا على التعامل مع هذا التحيّز بطريقة واعية ربما تنتهي بنا إلى التخلص منه.
محاولة أن نكون أكثر انفتاحًا هي جزء من التحدي الذي يستلزمه محاربة الانحياز التأكيدي
طرق محاربة الانحياز التأكيدي بسيطة، ولكنها صعبة التطبيق. فجميعنا نستطيع التفكير أكثر في أيّ قضية أو موضوع والتعمق فيها واختبار النظريات والأقوال البديلة أو المتضادة، لكننا نميل دومًا للكسل في طبيعتنا كبشر، ولا نحبّذ أن نبذل مزيدًا من الجهد في التكفير وتقليب الحقائق والمعلومات. فنجد من الصعب علينا أن نقرأ كتابًا يتحدى معتقادتنا الدينية أو الإيمانية، أو النظر في الانتقادات لآرائنا السياسية، أو مناقشة من يحملون أفكارًا اجتماعية مختلفة.
إنّ محاولة أن نكون أكثر انفتاحًا هي جزء من التحدي الذي يستلزمه محاربة الانحياز التأكيدي. هل يمكننا أن نستقبل تلك الأفكار االمعارضة بصدر رحب؟ هل يمكن أن نسمح للشكوك بأن تأخذ مجرى لعقولنا أو تغيرها حتى؟
ولذلك، في المرة القادمة عندما تقول لنفسك أو لأحدٍ آخر بأن وجهات نظرك موضوعية ومنطقية ووسطية، فكّر قبل ذلك كم أعطيت من اهتمام ووقت وجهد لاكتشاف معلومات وآراء مضادة لرأيك تختلف عنها وتتحداها، هل بنفس المقدار الذي أعطيته للمصادر والأشخاص الذي يؤكدون قناعاتك المسبقة أم بمقادير مختلفة؟