عندما اشتعلت الأزمة الخليجية الأخيرة بصورة مفاجئة، اختار السودان موقف الحياد بين طرفي النزاع، وأعلن دعمه لجهود الوساطة الكويتية من أجل رأب الصدع. السودان كان في موقفٍ حساس لا يحسد عليه، إذ إن قطر كانت الحليف الأقوى والأوفى لنظام عمر البشير خصوصًا ما قبل مارس/آذار 2015، التاريخ الذي شهد انطلاق عملية عاصفة الحزم التي غيرت علاقات وتحالفات حكومة السودان مع السعودية والإمارات بعدما كانت شبه متوترة منذ استيلاء الرئيس عمر البشير على السلطة عام 1989.
رغم الضغوط التي مارستها الرياض على السودان، في مقابل ضغوطٍ داعمة لقطر من داخل الحزب الحاكم وبعض الأحزاب المتحالفة، اختارت حكومة الخرطوم أن تقف في المنطقة الوسطى وتعلن دعمها لجهود حل الخلاف بالسبل الدبلوماسية.
وبينما تستمر الأزمة، قام الرئيس البشير بزيارات متعددة إلى السعودية والإمارات ولوحظ الفتور الذي استُقبل به مقارنة مع زياراتٍ سابقة، مما يعكس عدم رضى الدولتين من موقف السودان المعلن، كما لوحظ أن جولات البشير لم تشمل دولة قطر التي لم يزرها منذ اندلاع الأزمة وهو ما أثار تساؤلات عدة في أذهان المراقبين.
شهدت علاقات السودان مع الرياض وأبو ظبي نقلة نوعية بعد مشاركة الخرطوم في عملية عاصفة الحزم عام 2015، وتبنَّت الدولتان (السعودية والإمارات) ملف رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان
غير أن الخبر الذي نشرته وكالة الأنباء السودانية (سونا) الأسبوع الماضي عن زيارة مرتقبة لرئيس الوزراء بكري حسن صالح إلى دولة قطر أعاد لفت الانتباه إلى علاقات السودان الوثيقة مع قطر ومدى تأثرها بالأحداث الأخيرة، حيث إن الدوحة كانت الداعم الأول لنظام الخرطوم في أيام عزلته، إذ قدمت له الدعم السياسي والمالي عشرات المرات، ثم توسطت من أجل حل النزاع في إقليم دارفور فأثمر ذلك عن اتفاقية الدوحة للسلام. فضلاً عن أن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد هو الحاكم الخليجي الوحيد الذي زار السودان عدة مرات، وكذلك والده الأمير السابق حمد بن خليفة، في حين أن آخر زيارة لملكٍ سعودي كانت عام 1976م، قام بها خالد بن عبد العزيز، بينما كانت زيارة مؤسس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان عام 1972 التي لم تتكرر حتى الآن لحاكم إماراتي، رغم زيارات البشير المتلاحقة للبلدين، حيث زار السعودية نحو 13 مرة خلال عامين فقط!
كما شهدت علاقات السودان مع الرياض وأبو ظبي نقلة نوعية بعد مشاركة الخرطوم في عملية عاصفة الحزم عام 2015، وتبنَّت الدولتان (السعودية والإمارات) ملف رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان، مما أفضى إلى قرار أصدره الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قضى بتخفيف العقوبات وإخضاع السودان لفترة مراقبة مدتها ستة أشهر، جددتها لثلاثة أشهر أخرى إدارة الرئيس الحالي دونالد ترمب ليتم النظر في رفع العقوبات كليًا في أكتوبر/تشرين الأول، وهو التاريخ الذي تنتظره حكومة البشير بفارغ الصبر.
انقسم الشارع السوداني في مواقفه من الأزمة الخليجية، إذ اختار الحزب الاتحادي الديمقراطي وبعض أحزاب اليسار مساندة محور الرياض أبو ظبي، بينما جاهر المؤتمر الشعبي وحزب الوسط الإسلامي بمساندة موقف قطر، واختار الحزب الحاكم بجانب حزب الأمة المعارض الحياد ودعم الوساطة، وإن كان الطرفان يميلان إلى التعاطف مع دولة قطر.
بالعودة إلى زيارة رئيس الوزراء بكري حسن صالح إلى الدوحة والمرتقبة في الخامس من سبتمبر/أيلول الحاليّ، فإنه ينظر إلى أنها ستحقق نوعًا من التوازن المطلوب بعد جولات البشير المستمرة بين الرياض وأبو ظبي.
يتنامى في السودان تيار مناهض للمشاركة في حرب اليمن، إذ يجاهر رئيس حزب الأمة الصادق المهدي بمواقفه المناهضة لمشاركة الجيش السوداني في التحالف الذي تقوده السعودية
الجنرال بكري صالح الذي رافق الرئيس عمر البشير منذ استلامه للسلطة قبل نحو 28 عامًا، يتميز بالهدوء الشديد والتأني في اتخاذ القرارات عكس البشير، كما يُعرف عنه الحزم وعدم التسامح مع الفساد والمفسدين، قد يقول قائل إن صالح شريك في إخفاقات الحزب الحاكم بحكم وجوده الطويل في السلطة، لكن الرجل في تقديرنا لم يمنح فرصة حقيقية حتى الآن، إذ إن معظم الصلاحيات تتركز في يد رئيس الجمهورية، والذي ربما يفكر في نقل الحكم إلى رئيس الوزراء بنهاية فترته عام 2020م إذا لم يغير رأيه في اللحظات الأخيرة ويترشح مرة أخرى كما حدث في 2015 رغم وعوده بعدم الترشح!
لربما أثَّرت ضغوط المحسوبين على الحكومة السودانية مثل الطيب مصطفى رئيس منبر السلام العادل الذي دعا بشكل صريح إلى الوقوف بجانب قطر وفاءً وعرفانًا لمواقفها تجاه السودان، فجعلت رئيس الوزراء صالح يقبل الدعوة القطرية بحماس، وهو الرجل الصامت الذي نادرًا ما يتحدث أو يقوم بزيارة خارجية.
يتنامى في السودان تيار مناهض للمشاركة في حرب اليمن، إذ يجاهر رئيس حزب الأمة الصادق المهدي بمواقفه المناهضة لمشاركة الجيش السوداني في التحالف الذي تقوده السعودية، كما يلفت محسوبون على الحزب الحاكم والأحزاب المتحالفة معه إلى أن محور الرياض أبو ظبي يسعى لتطويق السودان من خلال دعمه للجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر الذي لا يخفي عداءه للحكومة السودانية. فضلاً عن نجاح السعودية والإمارات في إغراء رئيس الجارة تشاد إدريس دِيبي حتى أغلق السفارة القطرية في إنجامينا وأدلى بتصريحات مفاجئة عن تضرر بلاده من الدور القطري في المنطقة، جرى ذلك بعد زيارة إدريس ديبي لأبو ظبي قبل فترة قليلة، وزيارة أخرى لتشاد قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
تكتسب الزيارة النادرة المرتقبة لرئيس الوزراء السوداني بكري حسن صالح أهمية كبرى، إذ إنها قد تعمل على تحقيق قدر من التوازن المطلوب في ظل هرولة البشير وجولاته المستمرة على السعودية والإمارات.
وعلى الصعيد الشعبي، يذكر سودانيون أن سفراء قطر جابوا أصقاع البلاد من أقصاها إلى أقصاها خصوصًا السفير السابق علي الحمادي الذي يصفه الناشط والأكاديمي البارز محمد محجوب هارون بـ”شيخ العرب”، وينسب إليه إنجاز وثيقة الدوحة لسلام دارفور التي تم توقيعها عام 2011 وانضم إليها أطراف أخرى لاحقًا. حيث يضيف هارون في الصدد قائلاً: “قطر هي الطرف العربي الذي يُمكن أن تنظر إليه الأطراف السُودانية، بما في ذلك الحكومة ومعارضيها بوصفه الأكثر توازنًا للتوسط لتسوية أزمات السودان”، لكن محللين آخرين يرون أن الحياد ودعم الوساطة الكويتية الخيار الأسلم للسودان، رغم تحفظ طرفي النزاع خصوصًا محور الرياض أبو ظبي.
لكل ذلك تكتسب الزيارة النادرة المرتقبة لرئيس الوزراء السوداني بكري حسن صالح أهمية كبرى إذ إنها قد تعمل على تحقيق قدر من التوازن المطلوب في ظل هرولة البشير وجولاته المستمرة على السعودية والإمارات.