بعد أيام من تعبئة الرأي العام إقليميًا ودوليًا، شنت الولايات المتحدة فجر السبت 3 فبراير/شباط، هجومًا على مقرات تابعة لفصائل مسلحة عراقية موالية لإيران على الحدود العراقية السورية، وتحديدًا في منطقة القائم، ردًا على هجوم سابق شنته “فصائل المقاومة الإسلامية في العراق وسوريا” 25 يناير/كانون الثاني الماضي، استهدف القاعدة العسكرية الأمريكية المعروفة بـ(T22) شرق الأردن، راح ضحيته عددًا من القتلى والجرحي في صفوف القوات الأمريكية.
الملفت في الضربة الأمريكية أنها جاءت بعد سلسلة من التحذيرات الأمريكية الموجهة لإيران وحلفائها، والأهم من ذلك أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، كانت حريصة على تحييد إيران من تداعيات هذه الضربة، وهو ما تمثل بتأخير موعد الهجوم حتى تستكمل إيران سلسلة التحركات والتنقلات العسكرية في الداخل السوري قبل يوم من موعد الهجوم، كإجراءات احترازية، وذلك على مستوى إعادة التموضع في مناطق بعيدة عن المواقع المستهدفة، فضلًا عن تأمين مواقع وجود مستشاري الحرس الثوري العاملين في الساحة السورية، وهو ما أكده البيان الصادر عن الحرس الثوري الإيراني عقب الضربات، إذ أشار إلى أنه لا يوجد ضحايا إيرانيون جراء الهجوم الأمريكي، الذي خلّف 10 قتلى و20 جريحًا في صفوف الفصائل المسلحة.
مما لا شك فيه أن إدارة بايدن تدرك أهمية تحييد إيران عن تبعات هذا الهجوم، وهي خطوة حرصت على ترسيخها في قناعة الإيرانيين، وذلك عبر تصريحات سابقة لعملية الهجوم أدلى بها المتحدث باسم الأمن القومي جون كيربي عندما قال: “الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب مع إيران”، وتصريحات أخرى قبل ساعات من الهجوم عندما قال: “الولايات المتحدة لن تشن هجمات على أهداف داخل إيران”، هذا التصور الأمريكي يؤسس لنقطة مهمة، وهي أن إدارة بايدن كانت تفكر بهجوم حسب المقاسات الإيرانية.
إن تحميل الفصائل المسلحة الموالية لإيران تكاليف الهجوم الأمريكي، خطوة تسعى من خلالها إيران إلى ضبط تحركات حلفائها، خصوصًا أن مثل هذه الخطوة، رغم أنها تمثل فرصة للولايات المتحدة بإظهار التفوق الأمريكي، فإنها من جانب آخر تسمح لإيران برسم مسار تحرك حلفائها في المرحلة المقبلة، وتحديدًا في سياق طبيعة الهجمات التي من الممكن أن تطال المواقع الأمريكية في المرحلة المقبلة.
فإيران هي الأخرى حريصة على ألا تؤدي الهجمات التي يشنها حلفاؤها إلى دفع إدارة بايدن لمزيد من الردود، كما أن الإدارة الأمريكية حريصة على توفير بيئة هادئة في مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية، وهي فرصة قد تستثمرها إيران أيضًا في تحقيق مزيد من التنازلات الأمريكية، مقابل ضبط سلوك حلفائها في العراق وسوريا.
مسارات مهمة
قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن رد الولايات المتحدة على الهجوم الذي طال قاعدة عسكرية أمريكية في شرق الأردن، ومقتل 3 جنود أمريكيين، بدأ اليوم، وسوف يستمر في الأوقات والأماكن التي تختارها واشنطن، وأضاف “بتوجيه مني، ضربت القوات العسكرية الأمريكية أهدافًا في منشآت بالعراق وسوريا يستخدمها الحرس الثوري الإيراني والميليشيات التابعة له لمهاجمة القوات الأمريكية”.
إن نظرة بسيطة على خطاب بايدن تشير إلى أنه يحاول التأكيد على ثلاثة مسارات مهمة هي: عدم وجود مدة زمنية محدد للردود الأمريكية على هجوم شرق الأردن، وذلك من أجل منع الفصائل المسلحة من المضي بأي ردود فعل غير متوقعة، والثاني التأكيد على الطابع “التكتيكي” للرد الأمريكي، وهو ما ظهر واضحًا في تركيز الهجوم الأمريكي على المنشآت العسكرية التابعة للفصائل، وذلك عبر استهداف مستودعات للأسلحة والصورايخ والطائرات المسيرة، وهو مستوى من التصعيد تتوقع إدارة بايدن بأنه مقبول إيرانيًا، خصوصًا أنه سيخدم دعاية “الصمود” الإيرانية، بأن هذا الهجوم لا يحمل مزيدًا من التهديد لوجود إيران وحلفائها في الساحة السورية.
والمسار الثالث الذي حاولت إدارة بايدن التأكيد عليه، هو الحرص على مخاطبة الرأي العام الأمريكي، فقد حرص بايدن على اختيار توقيت الهجوم في أثناء حضوره حفل تكريم الجنود الأمريكيين الذين سقطوا في هجوم شرق الأردن، خلال حضور عائلاتهم في قاعدة دوفر الجوية، ومع ذلك فإن الجمهورين رأوا أن الرد الأمريكي دون مستوى القوة التي ينبغي على الولايات المتحدة أن تظهره للأعداء، فقد علق النائب الجمهوري عن ولاية إنديانا، جيم بانكس، على الهجوم بقوله: “لم يحذر الإيرانيون قواتنا قبل قتلهم، هذه الضربات أفضل من لا شيء، لكنها قليلة ومتأخرة بخمسة أيام”، أما النائب عن ولاية فلوريدا، مايك والتز، فقال: “إنه مهتم بما إذا كانت الضربات الجوية ستفرض أي تكاليف حقيقية على إيران”.
معضلة الردع الأمريكي
رغم محاولة إدارة بايدن إظهار حالة من الحزم، فإنها فشلت حتى اللحظة في ترسيخ هذا التصور لدى الإيرانيين وحلفائهم، وهذا الفشل مرده طبيعة الردود الأمريكية على الهجمات التي يتعرض لها الجنود الأمريكيين في العراق وسوريا، فطيلة فترة إدارة بايدن التي شارفت على النهاية، تمكنت إيران من إفراغ أي جهد أمريكي لاحتواء تحركاتها، وبالشكل الذي أظهر بايدن بأنه “محارب متردد”، وهو ما شجع إيران وحلفائها على مزيد من الاستفزازات العسكرية في المنطقة.
إن فشل محاولة إدارة بايدن تكرار ما كان يفعله الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، هي محاولة لا تقف عند مسألة أن النهج الديمقراطي يختلف عن النهج الجمهوري بالحكم، بل إن طبيعة الظروف التي تعيشها الإدارة الديمقراطية في الحكم اليوم، تختلف عن الظروف التي كان يعيشها الجمهوريون في أثناء فترة ترامب، فالضغوط الداخلية الأمريكية التي يواجهها بايدن، جراء استمرار الحرب في أوكرانيا وغزة، خلقت حالة من التردد لديه، من إمكانية أن تتورط الولايات المتحدة في صراع غير واضح المعالم مع إيران وحلفائها، وهو ما قد يهدد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
ويندرج في هذا الإطار أيضًا، تمكن إيران من تجاوز فكرة “الرد الانتقامي”، الذي عبرت عنه إدارة بايدن في أكثر من مناسبة، ومنها الهجوم الأخير، وهذا أمر قد لا تتضح مساراته بصورة واضحة وبشكل كامل ومن ضربة واحدة، فقط تحاول إدارة بايدن وعبر ردودها “التكتيكية” أن تجبر إيران وحلفاءها على التراجع خطوة للوراء، كمدخل لعدم “الرد الانتقامي” كما تحاول إدارة بايدن تجنبه.
فضلًا عن ذلك فإن استمرار ثنائية “المُهادن والمُقاوم” في العراق، جعلت إدارة بايدن تواجه تحديًا حقيقيًا في اعتماد نهج واحد بالعراق، فهذه الصورة الضبابية عقدت الإجراءات الأمريكية في كبح جماح الهجمات التي تشنها الفصائل المسلحة الموالية لإيران، خصوصًا أن التحول من حالة الهدنة إلى حالة المواجهة، لا تحدها مسارات واضحة، قدر تعلقها بطبيعة ومستوى العلاقات الأمريكية الإيرانية في العراق.
إن رغبة إيران في خلق مزيد من الإخفاقات لدى إدارة بايدن داخليًا وخارجيًا، تمثل لعبة بدأت إيران تحرص على استمرارها، خصوصًا أنها أظهرت عجزًا أمريكيًا على مواجهة ما تراه الولايات المتحدة تهديدًا لحلفائها في الشرق الأوسط، فحتى هذه اللحظة لم تحقق الضربات الأمريكية تأثيرًا واضحًا في معادلة التوازن الإقليمي، فما زالت إيران وحلفاؤها في العراق واليمن وسوريا، ورغم الاستنزافات العسكرية التي يتعرضون لها، يمتلكون القدرة على إحراج الولايات المتحدة بالوقت والمكان المناسب، وهو ما يمثل دليلًا واضحًا على نجاح إيران في إظهار لعبة “الرد الأمريكي” بأنها ليست إلاّ محاولة من إدارة بايدن للتنفيس عن الضغوط الداخلية والخارجية التي تواجهها، وبالشروط التي تراها إيران مناسبة.