“لم يكن الرجل الذي شيع جنازته المصريون في 1 من يوليو 2007 وطنيًا مصريًا على الإطلاق، بل كان أكبر خائن في تاريخ أمتهم”.
بهذه الكلمات الصريحة القاسية، استعرض ضابط المخابرات الإسرائيلي يوري بار -جوزيف، الرواية الإسرائيلية عن الدور الذي قام به واحد من أكثر الشخصيات السياسية المصرية إثارة للجدل خلال القرن الماضي، في الصراع العربي الإسرائيلي، وهو الضابط المصري أشرف مروان، صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، في كتابه “الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ (إسرائيل)”، والذي صدرت الطبعة المصرية منه في أغسطس الماضي.
جنازة أشرف مروان
كما نعرف، ليست هذه المرة الأولى التي تُكذب فيها أطراف إسرائيلية سردية الدولة المصرية عن هذا الرجل، والتي تحفظ له مكانة وطنية رفيعة، حسبما أكدت دوائر رسمية على رأسها رئيس مصر الأسبق حسني مبارك الذي دافع عن مروان ضد شائعات خيانته، عقب وفاته – على إثر سقوط غامض من شقته في لندن في 27 من يونيو 2007 – مباشرة، قائلًا: “لقد كان رجلًا وطنيًا مخلصًا لبلده ونفذ مهمات وطنية”، فعلى مدار عقدين، زعمت عدة دراسات ومقالات أكاديمية إسرائيلية أنه كان عميلًا لصالح الموساد الإسرائيلي، إلا أنها المرة الأولى التي يتحدث فيها عسكري إسرائيلي، كان يعمل ضابطًا بجهاز المخابرات العسكرية، تحديدًا كمحلل استخبارات بوحدة الأبحاث بالجهاز – بجانب خلفيته الأكاديمية كأستاذ للعلوم السياسية بجامعة حيفا – وأتاح له عمله الاطلاع على أسرار أشرف مروان، حسبما ادعى.
يدّعي يوري بار – جوزيف أن مروان سعى للتقرب من منى ابنة الرئيس عبد الناصر عام 1965 لتحقيق أكبر استفادة ممكنة من الموقع السياسي الذي ينتظره إذا ما أصبح زوج ابنة رئيس الجمهورية الذي يسيطر على مقاليد الحكم في مصر
في هذه السلسلة التي ينشرها “نون بوست”، نتناول الرواية الإسرائيلية لإحدى أكثر قصص الجاسوسية إثارة في القرن العشرين، ونتطرق لدوافع عمالة أشرف مروان، ولقاءات الجاسوسية الأولى، وكيفية الكشف عن هويته، وكيف استفادت “إسرائيل” من خدماته؟ وما طبيعة تلك الخدمات؟ وأخيرًا من ألقى به من شرفة شقته في لندن قبل عشر سنوات؟
في الحلقة الافتتاحية، نستعرض أسباب ودوافع طرق مروان لأبواب الموساد.
في البدء.. كانت منى عبد الناصر
يدّعي يوري بار – جوزيف أن مروان سعى للتقرب من منى ابنة الرئيس عبد الناصر عام 1965 لتحقيق أكبر استفادة ممكنة من الموقع السياسي الذي ينتظره إذا ما أصبح زوج ابنة رئيس الجمهورية الذي يسيطر على مقاليد الحكم في مصر، أو هذا ما كان يفكر فيه آنذاك، وبرغم معارضة عبد الناصر للعريس بناء على تقرير قدمه له سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات، يحذر من طموحات مروان وولعه بالحياة المترفة ويشكك في حقيقة مشاعره تجاه ابنته، فإن الأخيرة رفضت الإصغاء لأبيها، حيث قلبها كان قد تعلق بالفعل بمروان، وأمام ضغوط منى وافق الأب على إتمام الزواج في 1966.
جانب من حفل زفاف أشرف مروان ومنى جمال عبد الناصر
خيبة أمل
رغم تحقيق حلم مروان بالتقرب من مركز القرار، فسرعان ما شعر بخيبة أمل كبيرة، فالأب الذي وافق على الزيجة تحت ضغوط ابنته لم يترك فرصة له لتحقيق أهدافه الشخصية والسياسية من الزواج، ونتيجة لثقته الهشة في زوج ابنته، قرر عبد الناصر أن يكون تحت عينيه، وبالفعل نقله عام 1968 من وظيفته كمهندس كيميائي بالجيش للعمل في المكتب الرئاسي تحت إشراف مباشر من رئيس مكتبه سامي شرف.
وهكذا أُصيبت تطلعات مروان بخيبة أمل في ظل عم لا يوليه الثقة رغم علاقة النسب، وتحت إشراف مدير يخضعه للرقابة الشديدة، وبخلاف ذلك كان يتقاضى 70 جنيهًا شهريًا، وهو مبلغ زهيد جدًا بالمقارنة بالحياة المترفة التي كان يتطلع إليها.
وبعد هزيمة 1967، قرر مروان الهرب من رقابة عمه، من خلال تقديم طلب للدراسة في الخارج، وبالفعل وافق عبد الناصر على سفره إلى لندن كي ينال شهادة الماجستير في الكيمياء.
صدام مروان وعبد الناصر
في لندن، وبجانب دراسته، عمل مروان موظفًا في السفارة المصرية هناك، وسرعان ما وقع في فخ مدينة الإغراءات اللامحدودة، وبعد فترة قصيرة شوهد مروان على طاولات لعب القمار في نادي بلاي بوي، وسط مجموعة أثرياء لم يكن يسمح راتبه البسيط ولا حتى المنحة المتوسطة التي خصصها عبد الناصر له ولزوجته في مجاراتهم وسرعان ما فقد كل أمواله. آنذاك اقترب مروان من ثنائي كويتي وصل لتوه إلى لندن أيضًا، هما الشيخ عبد الله المبارك الصباح، أصغر أبناء مؤسس الكويت، وزوجته سعاد ابنة محمد الصباح، وسرعان ما توثقت روابط الصداقة بين العائلتين، حتى إن زوجة الشيخ عبد الله سددت ديون مروان بعد إدمانه للعب القمار، واضطر لقبول أموالها رغم علمه بأن الرئيس يعارض بشدة أي تربح لعائلته من وضعه السياسي.
قبل رحيل عبد الناصر بأشهر قليلة، كان أشرف مروان وهو بعمر السادسة والعشرين فقط، مهندسًا كيميائيًا وضابطًا في الجيش المصري، وزوج ابنة رئيس الجمهورية، وموظفًا بمكتب الرئيس للمعلومات
نقلت هذه الأخبار السفارة المصرية في لندن، والتي كانت تضع صهر الرئيس تحت رقابتها بأمر سامي شرف، إلى عبد الناصر الذي جاء رد فعله سريعًا وعنيفًا، فأمر السفارة بوضع مروان على أول طائرة متجهة للقاهرة، وحدث الصدام بينه وبين الرئيس الذي واجهه بتصرفاته الطائشة، وصمم على طلاق ابنته، لكن الأخيرة، وكما فعلت في قرار الزواج، رفضت ذلك. ووصل الجميع إلى تسوية مرضية لكل الأطراف، حيث اتفقوا على أن يستمر الزواج مقابل أن يعيد مروان أموال زوجة الصباح إليها، وأن يتعهد بألا يتلقى أي أموال مرة أخرى تحت مسمى علاقته بالرئيس، ويعود برفقة زوجته إلى مصر تحت إدارة سامي شرف مرة أخرى، وألا يذهب إلى لندن إلا من أجل التقدم للامتحانات.
لماذا طرق مروان أبواب الموساد؟
بحلول صيف 1970، وقبل رحيل عبد الناصر بأشهر قليلة، كان أشرف مروان وهو بعمر السادسة والعشرين فقط، مهندسًا كيميائيًا وضابطًا في الجيش المصري، وزوج ابنة رئيس الجمهورية، وموظفًا بمكتب الرئيس للمعلومات، وكان أيضًا على وشك الإقدام على أكبر خيانة في تاريخ بلده، هكذا يقول مؤلف “الملاك”.
لكن، يظل السؤال الأبرز والأصعب في قصة أشرف مروان: ما الذي جعله يخاطر بحياته ومهنته لمساعدة ألد أعداء بلده؟
قدّم يوري تفسيرين لخيانة مروان: “المال والغرور”.
أما المال، فالسطور السابقة أوضحت أن مروان كان تواقًا للحياة المترفة، والفترة التي قضاها في لندن أظهرت له بشكل واضح ما يمكن أن يكون عليه ذلك، كذلك انضمامه لعائلة الرئيس جعله يحتك بطيف واسع من الأثرياء داخل مصر وخارجها، لكن طبيعة الحياة التقشفية التي كان يفرضها عبد الناصر على عائلته قللت من فرصه في حلم الثراء والترف، حتى الطريقة التي تصور مروان أنها ستمكنه من الالتفاف على هذه المشكلة، عن طريق أصدقائه الجدد، كشف له صدامه المبكر مع عبد الناصر بشأن مساعدة آل الصباح فشلها في تحقيق مآربه، وهكذا أصبح واضحًا له أن تحقيق أحلامه يحتاج إلى مصدر دخل لا يمكن حتى لمخابرات صهره كشفها.
من اليمين: موشى ديان، أشرف مروان، جمال عبد الناصر
وبشأن الدافع الثاني، الغرور، فهو يفسر سبب اختياره للموساد من بين جميع وكالات الاستخبارات العالمية، فالحياة التي خطط لها مروان أفسدها عليه صهره سريعًا، وعرقل طموحاته، وفشل الشاب الوسيم في تحقيق مآربه من محيطه، وحاوطه الإحباط من كل الجهات: مرتب زهيد، مكانة محدودة، شعوره بأنه مشبوه وتحت المراقبة، صهر لا يثق به.
كما نبهته الضغوط التي مارسها عبد الناصر على ابنته لإقناعها بالطلاق منه، إلى احتمالية أن يصبح خارج العائلة في أي وقت، هذا الخطر المحدق الذي كان يعيشه مروان قبل اتخاذ قرار التعاون مع “إسرائيل”، كان مدعاة لأن يشعر بالخزي والبؤس، فالرجل المغرور الذي خطط لمصاهرة الزعيم تمهيدًا لحياة أكثر ترفًا ومكانة سياسية مرموقة انتهى به الحال إلى شخص مشبوه لا يثق فيه صهره ويسعى للتخلص من علاقته بابنته، وبالطبع كان يخشى مروان من مجرد التفكير في مصيره إذا ما استطاع الرئيس إقناع ابنته بالطلاق.
كل هذه الظروف خلقت شعورًا بالاغتراب داخل مروان، وخلقت أيضًا حاجة ماسة لديه للحصول على ثمن من العالم الذي يحيطه، والذي يقف عائقًا في طريق أحلامه، وقبل كل ذلك دفعته لاستعادة كبريائه، وأن يريهم من هو أشرف مروان.
بالنسبة لمروان، كانت أفضل طريقة لذلك أن يقدم ولاءه لألد أعداء صهره، العدو الذي ألحق بمصر قبل 3 سنوات هزيمة نكراء، وأن يلحق العار بالرئيس وإيذائه بطريقة لم يسبق أن فعلها أحد من قبل، وفي كل الأحوال كانت هذه الطريقة الحل الأمثل لمشكلاته المالية والنفسية معًا.
شكّلت “أنا” مروان المتضخمة، بجانب علاقته المحبطة مع عبد الناصر وحاجته إلى المال ورغبته في مغامرة من نوع آخر انطلاقًا من فعل الخيانة، عوامل فاصلة في اتخاذه قراره الأخطر على الإطلاق، تحديدًا في صيف 1970، بالاتصال بالسفارة الإسرائيلية في لندن.
يقدم مؤلف “الملاك” أيضًا تفسيرًا نفسيًا لخيانة مروان، فيقول إنه تأثر، كما سائر المصريين، بهزيمة يونيو، وأحس بالانكسار والخديعة بعد سنوات استطاع فيها صهره تشكيل قناعات لدى الوعي الجمعي بأن مصر قادرة على الانتصار وتجميع العرب تحت مظلة قومية، بالطبع كل ذلك انهار بعد هزيمة يونيو التي دفعت مروان إلى الاتجاه العدمي حيث التخلي عن الإيمان بأي فكرة قومية أو دينية أو اجتماعية، والبحث بدلًا من ذلك عن الكسب السريع كمفتاح للتحقق على المستوى الذاتي بعيدًا عن مصير الجماعة، هذا من جانب. من جانب آخر أراد مروان التخلص من عذاب الشعور بالهزيمة عبر تبديل ولائه الداخلي إلى صف المنتصر الذي اكتسح عدة دول عربية في 6 أيام فقط، هكذا لمس الإسرائيليون الذين تعاملوا معه، فيما بعد، لديه حاجة عاطفية عميقة إلى أن يكون في صف صاحب اليد العليا في الصراع، مهما يكن هذا الجانب.
وهكذا شكّلت “أنا” مروان المتضخمة، بجانب علاقته المحبطة مع عبد الناصر، وحاجته إلى المال، ورغبته في مغامرة من نوع آخر انطلاقًا من فعل الخيانة، عوامل فاصلة في اتخاذه قراره الأخطر على الإطلاق، تحديدًا في صيف 1970، بالاتصال بالسفارة الإسرائيلية في لندن.
هكذا بدأت إحدى أكثر قصص الجاسوسية إثارة في القرن العشرين.
في الحلقة القادمة، نتحدث عن بدايات “الملاك” مع الموساد، والمعلومات الخطيرة التي كشف عنها لينال ثقة الإسرائيليين.