من أعجب ما نجده في كتب التاريخ بأن أهل دمشق عندما وصلهم نبأ دخول المغول إلى بغداد وسقوط الخلافة أسرعوا إلى الجامع الأموي الكبير وشرعوا في قراءة صحيح البخاري عسى الله أن يحمي البلاد والعباد ببركة الحديث الشريف ويرد كيد المعتدين. في هذه الأثناء كان للمماليك في مصر بقيادة المظفر قطز والظاهر بيبرس رد فعلا مختلف تماما حيث هرعوا لتنظيم الجيش والإعداد للمعركة الفاصلة لحماية مصر ورد المغول. والنتائج جاءت بعد ذلك في مصر والشام متناسبة مع كيفية إدراك كل طرف لمعنى وحجم الخطر القادم ومتناسبة كذلك مع نوع ردة الفعل أو صناعة الفعل تجاه ذلك الخطر (الإستجابة), حيث دمر المغول معظم الشام ودخلوا حلب وحمص ودمشق, بينما أنهزموا في معركة عين جالوت على يد القائد قطز والظاهر بيبرس في ٣ أيلول ١٢٦٠.
فالإستجابة الصحيحة والمناسبة للتغيرات الطارئة في البيئة التي نعيش فيها (التحديات) هي الشرط الأول للنجاح على الصعيد الفردي حسب كارنجي وهي الشرط الأساسي للتمكن من البقاء وإكتساب الخبرة والرصيد المعرفي لبناء الحضارة والحفاظ عليها حسب آرنولد تويبني. غياب التحديات أوصل المجتمعات في بغداد وأغلب المناطق الشرقية البعيدة عن الصليبيين في مثالنا السابق إلى حالة من الترهل التي أنتجت الضعف والتخلف الثقافي ثم جاءت إستجابات المجتمعات للتحدي المغولي بعد ذلك متفاوته ولكن سلبية في مجملها,حيث تسعى للبحث عن الحل للأزمة الجديدة والطارئة في الهروب إلى الماضي إنطلاقا من تفسيرات خاطئة للمعتقد الموروث. لم تؤد هذه التفسيرات إلى إنتاج حلولا عملية قادرة على التعامل مع التحدي الجديد. بينما أتجه المماليك الذين يتشاركون مع أهل الشام في المعتقد الموروث ذاته إلى إبداع حلولا عملية قابلة للقياس والتطبيق تسعى لتتناسب مع التغيير المستجد في للبيئة. الفرق بين الحالتين كان وجود النخبة المتميزة القادرة على توليد الإستجابة للتحدي وإيجاد الحلول مما يجعلها تحتل موقع القيادة والقدوة.
هذه المفارقة تكررت كثيرا في التاريخ ويعدها البعض أحد النظريات التي تفسر إنقراض شعوب كالإنكا والمايا أو غياب دول وضياعها كوحدة جغرافية سياسية كالأندلس أو إسكوتلاندا.
وهنا نجد أن ماكس فيبر يتفق مع آرنولد تويبني صاحب نظرية (التحدي والإستجابة) في أن كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية توجد صفوة أو نخبة, يكون لها الدور القيادى والمؤثر فى المجتمع, تتصدر الحياة الإجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو الفكرية. إلا أن آرنولد تويبيني يزيد على ذلك ويعزي سقوط الحضارة أو تراجعها لدى أي شعب لضعف قدرة هذه النخبة على مجاراة التغييرات في عصرها وتخلفها عن مستوجبات الحضارة في زمنها. حيث يرى توينبي أن المجتمع القائم على أقلية مسيطرة فاقدة للإبداع ستقود المجتمع نحوالجمود ومواجهة التحديات الجديدة بإعادة قولبة الأدوات القديمة, فالمماليك في مثالنا السابق الذين دحروا الصليبيين والمغول ركنوا إلى أسلوبهم الحربي المعتمد على الفروسية دون أن يطوروه كثيرا مما أدى إلى فشل تكتيكهم أمام نابليون وهزيمتهم المدوية في معركة إمبابة في ١٧٩٨.
إن عجز النخب الحاكمة في بلادنا في نهايات القرن التاسع عشر عن إدراك التغييرات في الواقع السياسي والحضاري المتعلق بهبوط الدولة العثمانية وتمدد القوى الإستعمارية وبالتالي عجزهم عن توليد إستجابات مناسبة (التحالفات الخاطئة والثقة بالوعود الزائفة) أدى إلى خلق الفراغ الذي جلب الإستعمار. وعجز النخب التالية لها عن فهم توازنات القوى أدى لضياع فلسطين, حيث أن الإستجابة لتلك التحديات (سياسات وتحالفات تلك الحقبة وحروب ٤٨ و ٦٧ ) لم تكن على المستوى الكافي لصناعة الحلول.
كيف يمكن لنا صناعة إستجابة مناسبة؟
تختلف صياغة الإستجابة بإختلاف المستوى المرصود: المستوى الفردي وكيفية التعامل مع الصعوبات والتحديات أم المستوى الجمعي على صعيد ردة فعل المجتمع وآليات تكوين الإستجابة على مايستجد من أزمات تهدد المجتمع كوحدة إجتماعية وسياسية.
يمكن إستقاء الإجابة من علوم الإدارة الحديثة وخاصة ما يسمى بعلم “إدارة التغيير”.إلا أن الإحاطة بالموضوع بشكل جيد سيتطلب سلسلة من المقالات ولكن يمكننا الإيجاز بما يلي:
الخطوة الأولى: دائما هي إدراك الواقع كما هو وبشكل صحيح ومجرد. فالتوصيف السليم وتسمية الأشياء بمسمياتها يعد أمر محوري من أجل الوصول إلى فهم سليم. يوجد العديد من الأدوات التي يمكن أن تساعدنا كالخرائط الدماغية والتحليل المتشجر وغيرها.
الخطوة الثانية: تحليل جذور أسباب التغيير أو التحدي أو الإشكال وكذلك آفاق التحدي وتبعاته والسيناريوهات المترتبة على كيفية التعامل مع التحدي وماهو دورنا في كل منها وأين تكمن مصالحنا.
الخطوة الثالثة: تحديد الذهنية المناسبة لتوليد الإستجابة والتعامل مع الأحداث والأطراف. حيث يجب التعامل بذهنية تختلف عن تلك التي أدت إلى ظهور الإشكال.
الخطوة الرابعة: توليد الإستجابة المناسبة في سياق خطة عمل ورؤيا تستوعب الصورة الأكمل وتسعى لمعالجة الجذر الأساسي للإشكال وعدم الإكتفاء بمعالجة الظواهر.
جميع المجتمعات العربية تمر اليوم بمرحلة مفصلية وحاسمة تستوجب منا التعامل العلمي والجدي مع التحديات والتناقضات الجديدة الطارئة وإلا فإن زمن الفوضى والإضطرابات سيطول حتى يأتي ذلك الجيل القادر على تجاوز هذه الأزمات.