شنت القوات الأمريكية ضربات انتقامية ضد ميليشيات “فيلق القدس” التابعة للحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا الجمعة 2 فبراير/شباط 2024 في تمام الساعة التاسعة مساءً بتوقيت غرينتش، حسبما أعلنت القيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم”، التي أوضحت في بيان لها أن الغارات الجوية استخدمت أكثر من 125 ذخيرة دقيقة التوجيه استهدفت قرابة 85 هدفًا.
“استهدفت الضربات منشآت عمليات القيادة والسيطرة ومراكز الاستخبارات والصواريخ والقذائف ومخازن الطائرات المُسيرة، والمرافق اللوجستية وسلسلة توريد الذخيرة لمجموعات الميليشيات ورعاتها من الحرس الثوري الإيراني، الذين سهلوا الهجمات ضد القوات الأمريكية وقوات التحالف”، حسب البيان نفسه.
وتأتي تلك الضربات التي قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إنها بداية الانتقام، ردًا على استهداف “المقاومة الإسلامية في العراق” الموالية لطهران، لتجمع أمريكي شمال شرق الأردن في 28 من يناير/كانون الثاني المنقضي، ما أسفر عن مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة 34 آخرين.
الحكومة العراقية: 16 شهيدا بينهم مدنيون إضافة إلى 25 جريحا جراء العدوان الأمريكي السافر على سيادة #العراق #الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/idBAwc0qFG
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) February 3, 2024
ويتزامن استهداف مواقع تابعة لفيلق القدس في سوريا والعراق مع ضربات إضافية شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا فجر اليوم ضد أهداف عسكرية تابعة لجماعة الحوثي في محافظة صعدة (شمال اليمن)، بعد ساعات قليلة من تنفيذهما هجوم بـ7 غارات على محافظة حجة (غرب اليمن)، حسبما أعلن الحوثيون.
واعتبر المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية يحيى رسول أن الضربات خرق لسيادة بلاده وتهديد بجرها والمنطقة إلى ما لا يحمد عقباه، على حد تعبيره، مؤكدًا أن نتائجها ستكون “وخيمة” على الأمن والاستقرار الإقليمي، فهل تشهد كرة النار مزيدًا من التدحرج نحو توسعة دائرة الصراع في الشرق الأوسط؟
ردع وانتقام ودعاية.. ثلاثية الرد الأمريكي
لا شك أن عملية “البرج 22” التي سقط فيها 3 جنود أمريكيين وأصيب 34 آخرين، شكلت نقطة مفصلية في خريطة المواجهات بالشرق الأوسط، وأفضت إلى تغير واضح في قواعد الاشتباك، إذ لم تتعرض الولايات المتحدة ومصالحها في الشرق الأوسط خلال الآونة الأخيرة، تحديدًا منذ بداية الحرب على غزة، إلى هذا النوع من الاستهداف المباشر لمصالحها.
ومن ثم فإن عملية بهذا الحجم كانت تتطلب ردًا سريعًا وقويًا من واشنطن، وهو ما أكده بايدن ووزير دفاعه ورئيس القوات المسلحة في الكونغرس، حيث توعدوا – بعدما اتهموا الميليشيات المدعومة من طهران بالتورط في تلك العملية – بالرد الانتقامي، لكن “في الوقت وبالطريقة التي نختارها”.
وجاء التحرك الأمريكي بشأن استهداف عدة مواقع تابعة للميليشيات المدعومة من إيران في سوريا والعراق مدفوعًا بـ3 مسارات رئيسية، تمثل في مجملها أهداف إدارة بايدن من شن تلك العملية.
أولًا: الانتقام.. فما تعرضت له أمريكا في 28 من يناير/كانون الثاني الماضي كان صادمًا للأمريكان وحلفائهم، حيث عرّض سمعتهم للخطر ووضع شخصيتهم الدولية على المحك، ولذا كان لا بد من الانتقام بالطريقة التي تحفظ للولايات المتحدة سمعتها وماء وجهها ويبقي نفوذها في المنطقة.
ساعة الصفر الأميركية حانت.. بايدن بدأ انتقامه من إيران بضربات في سوريا والعراق
"وفقاً لشبكة "NBC" الأميركية ، فإن الضربات هي أقوى رد فعل لبايدن حتى الآن على الميليشيات الموالية لـ #إيران التي شنت أكثر من 150 هجومًا ضد القوات الأميركية منذ السابع من أكتوبر"#سوشال_سكاي pic.twitter.com/VS4WGrQnAi
— سكاي نيوز عربية (@skynewsarabia) February 2, 2024
ثانيًا: الردع.. الصمت الأمريكي إزاء عملية البريج وعدم الرد عليها بالشكل القوي كان حتمًا سيُطمع الكل في جعل المصالح الأمريكية في المنطقة أهدافًا مشروعة لها، كما أنه قد يفتح الباب أمام عمليات أخرى أكثر قسوة وضراوة، خاصة في ظل تشابك المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
ومن هنا جاءت عملية 2 فبراير/شباط الحاليّ بمثابة الردع لكل الميليشيات الإيرانية والموالية لها في اليمن ولبنان والعراق وسوريا للتفكير أكثر من مرة في استهداف أي مصالح أمريكية في المنطقة، وهي الرسالة التي تُمني واشنطن نفسها أن تحقق أهدافها بأقل ثمن ممكن، خاصة أنها أعلنت أكثر من مرة رغبتها في عدم توسعة الصراع في المنطقة.
جزء من هذا الردع يتعلق بتوفير الغطاء الأمني لحماية دولة الاحتلال من أي استهدافات خارج الحدود، فما ينسحب على الأهداف الأمريكية قد ينسحب على الأهداف الإسرائيلية، وهو ما تتعامل به واشنطن مع الحوثيين في اليمن والمقاومة الإسلامية في العراق، فضلًا عن حزب الله في لبنان، حيث تتخندق مصالح الحليفين في مسار واحد.
ثالثًا: الدعاية الانتخابية.. لا يتحرك بايدن وإدارته وحزبه في أي ملف داخلي كان أو خارجي خلال الآونة الأخيرة دون وضع الانتخابات القادمة في الحسبان، إذ إن معظم التحركات تكون مدفوعة سياسيًا بالدعاية الانتخابية للحزب ومرشحيه في الماراثون المقبل الذي تحتدم بشأنه المنافسة مبكرًا، فيما يفقد بايدن الكثير من رصيده بسبب مواقفه السياسية الداعمة للإجرام الإسرائيلي.
ومن ثم يحاول بايدن البحث عن أي انتصار خارجي يعوض به شعبيته، معتبرًا أن الحفاظ على سمعة بلاده والانتقام من أي محاولات للتطاول عليها وتهديد مصالحها في الخارج، ناهيك باستهداف التمدد الإيراني في الشرق الأوسط بما يعني في بعض جوانبه الدفاع عن مصالح الحليف الإسرائيلي، هو انتصار في حد ذاته.
عملية دقيقة
أعلنت القيادة الوسطى الأمريكية أن الضربات نفذت بطائرات انطلقت من الولايات المتحدة ضمت قاذفات بعيدة المدى، وأنها استهدفت 7 مواقع، 3 منها في العراق و4 في سوريا، لافتة إلى أن المنشآت المستهدفة هي مراكز قيادة وتحكم وتجسس ومواقع تخزين صواريخ ومسيّرات.
ففي العراق استهدف القصف مخازن سلاح ومقار للحشد الشعبي في منطقة دور السكك بالقائم في محافظة الأنبار، كذلك مقر قيادة عمليات الأنبار للحشد، ومقر الطبابة ومقرات أخرى في منطقة عكاشات المجاورة لقضاء القائم، حسبما أعلنت المصادر الأمنية العراقية، فيما كشف بيان صادر عن الحكومة العراقية عن مقتل 16 شخصًا بينهم مدنيين، فيما أصيب نحو 25 آخرين، جراء عملية القصف.
وفي سوريا استهدف الطيران الحربي مقار ومستودعات تابعة للمليشيات الإيرانية في بلدة عياش شمال مدينة دير الزور، وكانت مركز تدريب رئيسيًا للحرس الثوري الإيراني، كما أنها واحدة من أكبر قواعد المليشيات الإيرانية شرقيّ سوريا، بجانب أنها كانت مقرًا لتنظيم “داعش” سابقًا.
بحضور وزير الدفاع.. الرئيس الأميركي جو بايدن يشارك في استقبال رفاة 3 جنود أميركيين قتلوا بهجوم استهدف "البرج 22" العسكري#الشرق #الشرق_للأخبار pic.twitter.com/tZTqXs0AYN
— Asharq News الشرق للأخبار (@AsharqNews) February 3, 2024
كما استهدف القصف مدينة الميادين ومنطقة الشبلي وعين علي في محيطها بريف دير الزور الشرقي، كذلك وسط المدينة في حيّ “حويجة صقر”، بالإضافة إلى موقع آخر فيما يعرف بـ”المطبخ الإيراني”، ومواقع عدة بالقرب من منطقة “الرادارات” ومنطقة “هرابش” عند مدخل دير الزور الشرقي، وقُصف مطار دير الزور العسكري الذي يُعد قاعدة مهمة للمليشيات المدعومة من إيران، علاوة على استهداف محطة الضخ الثالثة في بداية مدينة تدمر ببادية محافظة حمص وسط سوريا.
وفي المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا استهدف الطيران الأمريكي حي الهجانة غربي مدينة البوكمال وقرية الهري في محيطها، فيما أشارت تقارير إعلامية إلى أن المواقع المستهدفة تابعة لفصيلي “فاطميون وزينبيون” المدعومين من إيران.
ورغم عدم وجود إحصاء رسمي ونهائي لتلك الضربات التي قالت قناة “الميادين” المقربة من إيران إن “معظم المواقع التي استهدفتها الولايات المتحدة كانت قد أُخليت بالكامل قبل العدوان”، فإن المرصد السوري لحقوق الإنسان كشف أن القصف أدى إلى مقتل 6 (بينهم 3 من جنسيات غير سورية) وإصابة 4 من عناصر الميليشيات الإيرانية.
🔻 مخازن السلاح في مدينة القائم بالعراق 😂😂 pic.twitter.com/Fon01k11Wa
— المرصد العسكري ⧨ (@Military_OSTX) February 2, 2024
هل تكتفي واشنطن بهذا الرد؟
حرص بايدن خلال مشاركته مراسم وصول رفات الجنود الـ3 الذين قتلوا في عملية “البرج 22” قبل 5 أيام، تأكيد أن عملية الجمعة كانت رد فعل على استهداف التجمع الأمريكي في الأردن، مؤكدًا: “الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع في الشرق الأوسط أو أي مكان آخر في العالم. لكن دعوا كل من يسعى لإلحاق الضرر بنا أن يعلم ما يلي: إذا تسببت في ضرر للأمريكيين فسوف نرد”.
واستبعد بايدن توجيه أي ضربة داخل الأراضي الإيرانية، لافتًا إلى أن هذا أمر غير محتمل فيما يبدو، وذلك رغم تأكيده أكثر من مرة أن الميليشيات التي نفذت عملية الـ28 من يناير/كانون الثاني كانت مدعومة إيرانيًا، فيما قال البيت الأبيض إن الرئيس لا يريد حربًا مع طهران.
ورغم المكاسب التي من الممكن أن تحققها الولايات المتحدة من توتير الأجواء في المنطقة، بما يخدم استعادة نفوذها المتراجع وممارسة الضغط على خصومها في المعسكر الشرقي، بجانب الاقتراب من المنابع الرئيسية للطاقة والسيطرة على الممرات اللوجستية التي تتحكم في الكثير من قواعد اللعبة عسكريًا واقتصاديًا، فإن الإدارة الأمريكية في الوقت الراهن لا تريد توسيع دائرة الصراع في الشرق الأوسط خشية تعريض مصالحها هناك للخطر.
وفي السياق ذاته دعا منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل اليوم السبت، جميع الأطراف إلى تجنب المزيد من التصعيد في الشرق الأوسط، وقال إن على الجميع أن يحاولوا تجنب انفجار الوضع، دون أن يسمّي عملية الجمعة تحديدًا، فيما حذرت وزيرة الخارجية البلجيكية من تفجر الأوضاع، وقالت “هناك إمكانية كبيرة لتصاعد الوضع في المنطقة ويجب أن نحذر من وقوع ذلك”.
عاجل | "المقـ.ـاومة الإسلامية" في العراق: استهدفنا بمسيرة قاعدة حرير الأمريكية قرب مطار أربيل بإقليم كردستان pic.twitter.com/BQpr9Ms5Yp
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) February 3, 2024
ومع قابلية كل البراكين المحيطة بالمنطقة للانفجار في أي وقت: لبنان، سوريا، العراق، اليمن، مصر، فضلًا عن ليبيا والسودان والصومال، فإن كل القواعد الأمريكية والمصالح اللوجستية ربما تكون في مرمى الاستهداف، وهو ما تتجنبه واشنطن على الأقل في الوقت الراهن حيث الماراثون الانتخابي والصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين الذي يتخذ من معارك الخارج حلبة كبيرة للتنافس بينهما.
قد ترى الولايات المتحدة في تلك الضربة التي استهدفت 85 هدفًا للميليشيات التابعة لفيلق القدس، ما يرضي غرورها ويحفظ سمعتها، ردًا على عملية الأردن، مكتفية بذلك عن أي تصعيد قادم حتى إن حوت خطابات بايدن عكس ذلك، من باب الحرب النفسية والضغوط الممارسة على طهران.
وعلى الجانب الآخر وبعيدًا عن العنتريات الصادرة عن قادة إيران، التي تستهدف تخدير الرأي العام المحلي في مقامها الأول، فإنهم حتمًا يتجنبون تجاوز الخطوط الحمراء في مواجهتهم مع الأمريكان، خاصة بعدما تلقوا عدة ضربات موجعة خلال الآونة الأخيرة سقط فيها العديد من كبار قادتها في سوريا والعراق، ومن ثم قد توظف طهران ميليشياتها المسلحة في المنطقة للقيام ببعض المناوشات العسكرية التي تستهدف أهدافًا أمريكية، لكن في حدود حفظ ماء الوجه دون حدوث نتائج تستفز الجانب الأمريكي كما حدث في البريج.
وفي الأخير.. وبعيدًا عن رغبة كل من واشنطن وطهران في تجنب التصعيد في المنطقة وتوسعة دائرة الصراع، والاكتفاء بالسجال السياسي والإعلامي، وربما العسكري عن طريق الميليشيات، فإن كرة النار المتدحرجة بهذا الشكل في ظل حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال في غزة قد تفتح الباب أمام جميع السيناريوهات، ليبقى الشرق الأوسط بأكمله فوق فوهة بركان قابلة للاشتعال في أي وقت.