“في صيف عام 2007 أوكل الجيش الأمريكي إليّ مهمة تصميم برنامج إعادة تأهيل المعتقلين من الناحية النفسية لتبني الآراء والأفكار المعتدلة ومنع تنامي الفكر المتطرف، يغطي البرنامج عشرين ألف معتقل وثمانمئة من الأحداث في معسكر “بوكا” في العراق، وكان من بين أولئك المعتقلين أبو بكر البغدادي، تقول البروفيسورة “آنا سبيكهارد” مختصة علم النفس الاجتماعي ومؤلفة كتاب “الحديث مع الإرهابيين”.
كان البرنامج يهدف إلى منع تنامي الفكر المتطرف بين المعتقلين والحد من تجنيد المتطرفين داخل المعتقل، أظهرت التقديرات آنذاك أن ما نسبته 15% من المعتقلين من المتطرفين المتبنيين لفكر تنظيم القاعدة، طلب مسؤول معسكر “بوكا” آنذاك الجنرال الأمريكي غارنر من البروفيسورة سبيكهارد المسارعة في تطوير برنامج إعادة التأهيل لإدراك الجيش الأمريكي تطور زرع الفكر المتطرف في عقول المعتقلين إلى تدريب نظري على آليات الهجوم المسلح لتنفيذها فور خروجهم من المعتقل، لم يتمكن الجنرال غارنر من متابعة مراحل البرنامج لحلول الجنرال دوغلاس ستون مكانه كمسؤول عن المعسكر.
استعان البرنامج بثلاثة معتقلين من تنظيم القاعدة مُصنفين كأئمة سلفيين وقد شغلوا في السابق منصب المسؤولين عن الترويج الإعلامي لتنظيم القاعدة والزرقاوي في العراق لكنهم انقلبوا على القاعدة وتطوعوا للمساعدة في الحرب ضدها، وبترشيح من وكالة المخابرات الأمريكية ووكالة استخبارات الدفاع الأمريكية انضم هؤلاء الثلاثة بعد إطلاق سراحهم لفريق عمل البرنامج، كانت مهمتهم الرئيسية محاورة المعتقلين الذين يرون في القاعدة تمثيلاً للإسلام وأن نهجها يأتي بالمنفعة على الشعب العراقي.
يبدو المشهد حتى اللحظة وكأن الجيش الأمريكي يهتم بمستقبل العراق، بيد أن الواقع أبلغ في كشف حقيقة الموقف الأمريكي من المتطرفين هناك
ما يميز تصميم هذا البرنامج وفقًا لسبيكهارد جمعه بين أئمة سلفيين ذوي مصداقية بين المعتقلين وعلماء نفس ذوي خبرة واسعة للعثور على الخطاب الفكري الذي جذب المعتقلين للانتماء إلى التنظيمات المتطرفة من خلال الجلوس الأسبوعي واليومي مع أعضاء عدة من المنتمين لتنظيم القاعدة بهدف تصويب أفكارهم المتطرفة، ورغم أن برامج علاج نفسية سابقة لمكافحة التطرف مُشابهة لهذا البرنامج تم تنفيذها في اليمن والسعودية وماليزيا وسنغافورة وسكوتلاند، فإن برنامج البروفيسورة آنا سبيكهارد كان الأول من نوعه في الجمع بين علماء النفس وأصحاب الاختصاص الشرعي.
يبدو المشهد حتى اللحظة وكأن الجيش الأمريكي يهتم بمستقبل العراق، بيد أن الواقع أبلغ في كشف حقيقة الموقف الأمريكي من المتطرفين هناك، لم يُكتب للبرنامج النجاح فلم تُتح له الفرصة لاستكمال مراحله العلاجية، إذْ بدأ الجنرال ستون بإطلاق سراح سريع للمعتقلين بعد إشراكهم في برنامج إعادة تأهيل لا يتجاوز الأربعة أيام، واعتراض البروفيسورة سبيكهارد بأن الأربعة أيام برنامج هش ولا يمكن الاتكال عليه في إعادة تأهيل المتطرفين لم يلقَ آذانًا مُصغية وتم إيقاف برنامجها لأسباب مجهولة.
يؤكد ضابط سلاح الجو الأمريكي جيمس سكايلر جيروند وقائد أحد المجمعات في معسكر “بوكا” أن إقامة البغدادي في المعتقل ساهمت في تعزيز التطرف لديه، وبحسب جيروند فإن كثيرًا من العاملين في معسكر “بوكا” اعتراهم قلق شديد عما إذا ما كان المعسكر يحتجز المتطرفين فقط أو أنهم أنشأوا للمتطرفين طنجرة ضغط للتطرف والتشدد اسمها معسكر “بوكا”.
الغريب أن أحدًا لم يُطالب بالشروع في فتح تحقيق عن أسباب الإيقاف المفاجئ لبرنامج البروفيسورة سبيكهارد، ولم يُطالب أحد بمراجعة صحة الإجراءات التي اتخذها الجيش الأمريكي بجمع المتشددين في ثكنة واحدة
تقول البروفيسورة آنا سبيكهارد: “لدى قراءتي عن إعلان داعش دولتها، كان محبطًا بالنسبة لي بشكل لا يُصدق كيف كان البغدادي والعديد من أعضاء تنظيمه من الصفوف الأولى بين أيدينا وربما تطور تطرفهم تحت أنوفنا، وبدلاً من تنفيذ برنامج بعناية وبمغزى لكبح التطرف قررنا ببساطة ألا نفعل شيئًا”، وجاء في اعتراف من الجنرال دوغلاس ستون لصحيفة “نيويورك تايمز”: “إذا كنت تبحث عن مكان لبناء جيش فالسجن المكان الأنسب، لقد أمددناهم بالرعاية الصحية وأطعمناهم والأهم من هذا كله أننا أبقيناهم على قيد الحياة وجنبناهم التعرض للقتل في المعارك”.
هذا وقد سبق أن نشرت صحيفة “الغارديان” تحقيقًا صحافيًا عن معسكر “بوكا” أجرت فيه لقاءً مع “أبو أحمد” أحد قيادات تنظيم داعش ورفيق البغدادي في المعتقل، يقول أبو أحمد: “كان لدينا الكثير من الوقت للجلوس والتخطيط، فمن المستحيل أن نجتمع بهذه الصورة في أي مكان في بغداد، الأمر الذي سيشكل خطرًا كبيرًا علينا، لكن هنا كنا في أمان تام وعلى بُعد بضعة أمتار فقط من قيادات تنظيم القاعدة، واتفقنا جميعنا على الالتقاء بعد إطلاق سراحنا، وبالفعل بعد خروجنا اجتمعنا وتابعنا فعل ما اعتدنا عليه قبل إلقاء القبض علينا إلا أننا في هذه المرة كنا نؤدي أعمالنا بمهارة أعلى”.
الغريب أن أحدًا لم يُطالب بالشروع في فتح تحقيق عن أسباب الإيقاف المفاجئ لبرنامج البروفيسورة سبيكهارد ولم يُطالب أحد بمراجعة صحة الإجراءات التي اتخذها الجيش الأمريكي بجمع المتشددين في ثكنة واحدة والسماح لهم بالالتقاء بضباط وقيادات سابقين من حزب البعث العراقي أصحاب الخبرة القتالية والعسكرية الواسعة اُعتقلوا داخل المعسكر، ومسارعة الجيش الأمريكي بإطلاق سراحهم بدفعات متتابعة على فترات قصيرة.
ربما بطريقة أو بأخرى يمكن وصف معسكر “بوكا” بمفتاح بوابة الجحيم التي أطلقت العنان لتنظيم داعش.