تقترب تركيا يوميًا من نهاية العام 2019، حيث ستقف على أعتاب مرحلة جديدة بعد استحقاق الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي ستجري معًا في آن واحد وستتحول معها تركيا من النظام البرلماني إلى الرئاسي وتصبح مؤسسة الرئاسة التي يوجد الرئيس على رأسها أقوى مؤسسات الدولة، وبالتأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كأول رئيس تركي منتخب من الشعب مباشرة في عام 2014 يريد أن يكون هذا الرجل مستندًا على النجاحات السابقة في كل العمليات الانتخابية التي خاضها.
ولكن هذه المرة تبدو الأمور مختلفة نوعًا ما، فنتائج الاستفتاء الأخيرة وأرقام المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير وتحديدًا إسطنبول قد أقلقت أردوغان الذي قال: “علينا أن نقرأ الرسالة التي وصلتنا من إسطنبول ولا بد ألا نترك بابًا في إسطنبول دون أن نطرقه”، وكذلك الحال توجد أسباب مهمة وراء ذلك ولعل من أهمها نقطة جوهرية يركز عليها هذا المقال وهي أصوات القوميين الأتراك ونسبة أصوات القوميين الأتراك الذين دعموا التعديلات الدستورية في استفتاء 16 أبريل، حيث دخل حزب العدالة والتنمية الذي حصل في آخر عملية انتخابية قبل الاستفتاء على نسبة تقترب من 50%، ورغم ذلك حاول تأمين هذه النسبة بالتحالف مع حزب الحركة القومية الذي حصل على نسبة 12% في آخر عملية انتخابية وعلى 16% في العملية التي سبقتها. ووفق هذه الحسبة البسيطة كان لا بد أن تكون نتيجة الاستفتاء 60% بالحد الأدنى، علمًا أن أحزابًا أخرى صغيرة مثل حزب الهدى بار وحزب الاتحاد الكبير دعموا التعديلات الدستورية، ولكن هذا لم يحدث وبالكاد تخطى التصويت لصالح التعديلات نسبة الحسم بقليل.
هناك تحضير للانتخابات من الآن ومن جميع الأطراف وهناك ثورة داخلية يقوم بها الرئيس أردوغان داخل صفوف الحزب ليستطيع خوض التحدي القادم
وفي هذا السياق كان واضحًا أن قسمًا كبيرًا من القوميين الأتراك كان متوقعًا منه مساندة حزب العدالة والتنمية ولكنه وقف مع كتلة الرفض وكأن نزيفًا مستمرًا كان يضعف جسد الحركة القومية وينقل الثقل في الحزب من “المحافظين” إلى “الليبراليين”. وإذا افترضنا أن حزب الحركة القومية به كتلتان واحدة أقرب إلى حزب العدالة وواحدة أقرب إلى حزب الشعب الجمهوري بمعنى أنها معارضة لحزب العدالة، فإن الكتلة الثانية بدت غير مقتنعة بموقف قيادة الحزب التي يمثلها رئيس الحزب دولت بهتشلي التي دعمت التعديلات والنظام الرئاسي، بل إن هذه الكتلة يجري العمل على إخراجها من الحزب عبر حزب جديد تقوده القيادية السابقة في الحركة القومية ميرال أكشينار.
وأمام هذا التحدي والنتائج السابقة التي لا تعطي ضمانة لأحد فإن العمل والمزيد من العمل فقط هو ما قد يعطي الضمانة، ولهذا نجد أن هناك تحضير للانتخابات من الآن ومن جميع الأطراف وهناك ثورة داخلية يقوم بها الرئيس أردوغان داخل صفوف الحزب ليستطيع خوض التحدي القادم.
وفي سياق الكتلة القومية فإن أردوغان سيعمل على كسب هذه الكتلة من الحركة القومية ولذلك فإننا سنلاحظ هذا في خطاب الرئيس أردوغان وسلوكه الذي سيرغّب هذه الكتلة بناء على معرفته بما تريد. وفعليًا ظهر هذا في بعض المواقف التي تخدم هذا التوجه ومنها الموقف الحاسم لتركيا من حزب العمال الكردستاني PKK والعمليات التي تحضر تركيا لشنها مع إيران على مواقع الحزب في قنديل وسنجار أو تجاه بعض المناطق في شمال سوريا، وكذلك الخلاف الدائر حاليًا مع الولايات المتحدة بسبب دعم الأخيرة لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD ومليشياته بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، وكذلك الحال الاهتمام بالتركمان الموجودين خارج تركيا خاصة في مناطق الصراع.
التنافس على أصوات القوميين الأتراك بدأ قبل الاستفتاء وظهرت أهميته بصورة كبيرة خلال الاستفتاء، ومن المتوقع أن يشتعل أكثر وسيحاول كل طرف تصدير خطاب أو مراعاة توجهات كل الأطراف التي يريد استقطابها
ولعل المشهد الذي وقع مؤخرًا كان شاهدًا يمكن أن يوضع في هذا الإطار، حيث احتفلت تركيا بالذكرى الـ946 لمعركة ملاذكرد التي دارت بين الإمبراطورية البيزنطية والسلاجقة الأتراك، حيث انتصر السلاجقة بقيادة ألب أرسلان انتصارًا تاريخيًا اعتبر نقطة تحول في التاريخ الإسلامي وكان مقدمة لدخول الأتراك إلى ما يعرف بتركيا حاليًا ومقدمة لبداية الدولة العثمانية التي قضت على الدولة البيزنطية. والشاهد من هذه الحادثة أن تركيا احتفلت هذا العام بذكرى المعركة لأول مرة، علمًا أن أردوغان أشار للمعركة ولشخصية ألب أرسلان قبل ذلك ولكن كان يغلب عليه أكثر التذكير بميراث تركيا العثماني وهو الأمر الذي يشد الإسلاميين أكثر ويؤثر بهم، ولكن هذه المرة كانت الإشارة إلى معركة تاريخية من العهد السلجوقي الذي يمكن للإسلاميين والقوميين الأتراك أن يفتخروا به وقد أعجبني قول الباحث نيكولاس دانفورث: “السلاجقة المكان المثالي للاجتماع زمنيًا وجغرافيًا لحنين أردوغان العثماني وللتركيز التقليدي للقوميين الأتراك على آسيا الوسطى”.
ومما سبق فإن التنافس على أصوات القوميين الأتراك بدأ قبل الاستفتاء وظهرت أهميته بصورة كبيرة خلال الاستفتاء، ومن المتوقع أن يشتعل أكثر وسيحاول كل طرف تصدير خطاب أو مراعاة توجهات كل الأطراف التي يريد استقطابها، وهنا سيكون على الراغب بالنجاح التعامل بمستوى عالٍ من الحنكة والذكاء والجهد من أجل أن يكسب مزيدًا من النقاط ويبدو أن الكفة تميل لصالح أردوغان الذي يعد متقدمًا على غيره في هذا المجال.