تتكشف يومًا تلو الآخر خطوط المؤامرة التي تشنها دولة الاحتلال وحلفاؤها الغربيون ضد وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) عبر ورقة “وقف التمويل” وهي الورقة الأكثر قسوة التي تهدد حياة آلاف الفلسطينيين الذين باتوا أكثر اعتمادًا على مساعداتها ومبادراتها الإغاثية في ظل استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة.
قررت 18 دولة (الولايات المتحدة وكندا وأستراليا واليابان وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وألمانيا وهولندا وفرنسا وسويسرا والنمسا والسويد ونيوزيلاند وأيسلندا ورومانيا وإستونيا والسويد) تعليق تمويلها للوكالة، رضوخًا للمزاعم الإسرائيلية بشأن مشاركة 12 من موظفي الوكالة في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
رغم أن حكومة الاحتلال لم تقدم أي أدلة تثبت تلك الاتهامات، فإن الوكالة فتحت تحقيقًا موسعًا وعاجلًا بشأن تلك المزاعم واتخذت بعض الإجراءات الاستباقية لحين انتهاء التحقيقات أبرزها فصل 9 ممن شملتهم الادعاءات الإسرائيلية، فيما ارتقى آخر ولم يستدل على الموظفين الباقيين، ومع ذلك استبقت الدول المانحة التحقيقات وعلقت تمويلها في رسالة ابتزاز للوكالة التي تعد المتنفس الوحيد لنحو 5 ملايين لاجئ فلسطيني منتشرين في الأردن ولبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة وقطاع غزة.
"إذا توقف عمل #الأونروا سيُكتب علينا الموت".
نازحون في دير البلح، #غزة يعربون عن مخاوفهم من تأثر عمل الوكالة- التي يعتمدون على مساعداتها- بسبب نقص التمويل.
إذا استمر تعليق تمويل #الأونروا، ستُضطر غالبا إلى وقف عملياتها بنهاية الشهر الحالي. @UNRWA https://t.co/JKTLxcdO3p pic.twitter.com/Kdfr6bS96f
— أخبار الأمم المتحدة (@UNNewsArabic) February 2, 2024
حذرت الوكالة في تغريدة لها يوم 3 فبراير/شباط 2024 من أن سكان غزة “يموتون أمام أعين العالم” في كارثة فريدة من نوعها، لافتة إلى أن أزمة الجوع والمأساة الإنسانية التي تتفاقم يومًا بعد يوم، في ظل الهجمات الإسرائيلية والحصار، فيما حذر رئيس الوزراء، وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، من التداعيات الكارثية لوقف تمويل الأونروا، داعيًا خلال لقائه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في نيويورك، إلى الفصل بين الوكالة كمؤسسة أممية والادعاءات بشأن عدد من موظفيها.
يأتي الهجوم الإسرائيلي على الوكالة الأممية واستهدافها بتلك الطريقة الممنهجة تزامنًا مع قرارات محكمة العدل الدولية التي أدانت فيها حكومة الاحتلال وطالبتها باتخاذ إجراءات احترازية لمنع ارتكاب أي جرائم إبادة بحق الشعب الفلسطيني، وهي القرارات التي وضعت الكيان المحتل في قفص الاتهام أمام المجتمع الدولي وفضحت انتهاكاته العنصرية تجاه فلسطينيي القطاع، فهل هناك علاقة بين الحرب على الأونروا والمحكمة الدولية؟
محاولة لتشتيت الانتباه
أن تأتي تلك الادعاءات – تورط 12 من إجمالي 30 ألف موظف يخدمون بالوكالة في عملية الطوفان – بعد 24 ساعة فقط من رفض محكمة العدل الدولية طلب الكيان المحتل بسحب الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا وفرضها تدابير احترازية ضد حكومة الكيان، هو في حقيقته محاولة لصرف الأنظار عن تلك الإدانة وجرائم الحرب التي ترتكبها “إسرائيل” وتحويلها إلى مسار آخر.
توقيت تلك الاتهامات لم يكن من قبيل الصدفة، خاصة أن حكومة الاحتلال وإعلامها الموالي كانت قد تبنت خطابًا مشتركًا يرتكز على التقليل من قرارات العدل الدولية رغم ما تحمله من سابقة تاريخية في فضح جرائم الكيان على مرأى ومسمع من العالم أجمع، إذ دعمت جنوب إفريقيا دعواها بعشرات الأدلة والبراهين التي كشفت عن حجم الإجرام الإسرائيلي ونسفت الصورة الذهنية الدولية التي بذلت لأجل ترسيخها الكثير والكثير.
سيدة بريطانية: "أشعر بالخجل التام، ليس فقط من افتقارنا إلى الإنسانية، ولكن من افتقارنا إلى الأخلاق العالية والضمير. على حكومتنا أن تطاطئ رأسها خجلا بسبب القرار الشرير بتعليق تمويل #الأونروا!"#حرب_غزة pic.twitter.com/PmGdobv1gE
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) February 3, 2024
وترى كبيرة محللي الشؤون الإسرائيلية في مجموعة الأزمات الدولية، مايراف زونسزين، أنه بغض النظر عن صحة الاتهامات التي أوردتها “إسرائيل” والولايات المتحدة بحق موظفي الأونروا، فإن مسايرة تلك الأخبار في هذا التوقيت تبدو كأنها “محاولة لصرف الانتباه عن حكم محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية في غزة”، منوهة أن “إسرائيل” ومنذ فترة طويلة دأبت على بناء قضية ضد الوكالة الأممية في محاولة لإخراجها التدريجي من غزة.
التحايل على قرارات العدل الدولية
لم يكن أمام الاحتلال بعد إدانة محكمة العدل الدولية له وقبولها دعوى جنوب إفريقيا رغم الضغوط التي مورست على منصة القضاة، سوى افتعال معركة وهمية مع الوكالة الأممية كرد فعل انتقامي على ما بدر منها، خاصة أنها كانت أحد المصادر الرئيسية التي استعانت بها المحكمة الدولية في إدانة الكيان المحتل.
وفيما تطالب العدل الدولية حكومة الاحتلال بتسهيل تقديم المساعدات الإغاثية لسكان القطاع، تستهدف الأخيرة الوكالة الوحيدة التي تؤدي هذا الدور في هذا التوقيت، وتحاول تجفيف منابع تمويلها وتعطيلها بالكلية عن أداء مهامها، وهو ما يعني التحايل على القرارات التي اتخذتها المحكمة.
كما أن تسليط الضوء على ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي من خلال اتهام بعض موظفي الأونروا بالاشتراك في عملية الطوفان، كأنه أصل الأزمة وطرف بدايتها ونهايتها، هو محاولة لإلغاء السياق العام الذي استندت إليه جنوب إفريقيا في دعواها حيث الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول وحتى اليوم، إذ يخطط المحتل لتجميد عقارب الزمن عند 7 أكتوبر/تشرين الأول وفقط، الأمر الذي يُجهض جهود إدانة دولة الاحتلال وينسف القضية برمتها، هكذا تأمل حكومة نتنياهو وحلفائها الغربيين.
"أنت بلا قلب هل تدرك مدى قسوتك".. نشطاء يهاجمون نائب في الكونغرس الأمريكي بسبب دعوته لإبادة #غزة ووقف دعم #الأونروا#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/0ZUpW4kpcr
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) February 1, 2024
تصفية قضية اللاجئين
منذ تأسيس الأونروا بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949، وتفويضها بتقديم المساعدة والحماية للاجئين في كل من الأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية وقطاع غزة، حتى التوصل إلى حل عادل لمشكلتهم، وهي تتعرض للاستهداف من الاحتلال بين الحين والآخر.
ظلت الوكالة على مدار أكثر من 70 عامًا حجر عثرة أمام المخطط الصهيوأمريكي لتصفية قضية اللاجئين وإنهاء حقهم في العودة إلى بلادهم، ودفع الباقي نحو التهجير، قسريًا كان أو طوعيًا، وهو المخطط الذي نجحت الأونروا في إجهاضه من خلال إبقاء الأمل لدى المهجرين الفلسطينيين وتقديم يد العون والمساعدة لهم.
عن "الأونروا" من جديد.
صرخ "الكيان" ضدها بزعم تافه عن 12 من موظفيها شاركوا بهجوم 7 أكتوبر، فردّ العجوز المتصهين في البيت الأبيض "لبيك يا سيدي"، وعلى إثره سار أتباع.
هي حملة قديمة هدفها شطب قضية اللاجئين.
لكن قضيتهم باقية؛ ولو اختفت "الأونروا"، لأنها جزء من قضية كبرى اسمها فلسطين. pic.twitter.com/BPABMJLVtT
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) February 2, 2024
ومن ثم تعرضت لحملات استهداف عدة على مدار العقود الماضية، تارة بدعوى تعليم مناهج تحريضية للفلسطينيين، وتارة باختراقها من عناصر تابعة للمقاومة، وكانت النتيجة ممارسة المزيد من الضغوط والابتزاز من خلال تعليق التمويل الذي تعتمد عليه بشكل كامل بين الحين والآخر.
وجدت دولة الاحتلال الحرب الدائرة الآن في غزة فرصتها السانحة للانتقام من الأونروا والقضاء عليها عبر مزاعم واتهامات ليست لها أساس من الصحة وفاقدة لأدنى معايير الاستيثاق، ساعدها على ذلك تواطؤ الدول الغربية ورضوخها للأوامر الأمريكية التي انبرت لتعليق التمويل دون التيقن من حقيقة تلك المزاعم أو الانتظار للانتهاء من التحقيقات بشأنها، رغم ما قد يترتب على هذا الأمر من تفاقم للوضع الكارثي في القطاع.
وفي حال استمرار تعليق التمويل المقدم للأونروا فإن قضية اللاجئين قد تدخل قسريًا غرفة الإنعاش المؤقت، لتتحول هي الأخرى إلى قضية ابتزاز وورقة ضغط جديدة بأيدي حكومة الاحتلال وحلفائها الغربيين، يحققون بها العديد من المكاسب التي حالت الوكالة دون تحقيقها طيلة السنوات الماضية.
معضلة التمويل.. ماذا عن العرب؟
تعتمد الأونروا في تمويلها بالمقام الأول على تبرعات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، حيث تشكل تلك التبرعات نحو 93.28% من إجمالي ما تتحصل عليه من أموال، والباقي تقدمه الأمم المتحدة، وتشكل تبرعات الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي نحو 70% من إجمالي تمويل الوكالة.
تعد الولايات المتحدة أكبر متبرع للأونروا، حيث تحملت وحدها عام 2023 قرابة ربع ميزانية الوكالة بحصة بلغت 296 مليون دولار من إجمالي تعهداتها البالغة 1.17 مليار دولار، أما دول الاتحاد الأوروبي فبلغت حصتها قرابة 520.3 مليون دولار.
تحول التمويل إلى ورقة ابتزاز تمارسها الدول المانحة ضد الوكالة، فاستخدمها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حين أوقف دعم بلاده للوكالة عام 2018 اعتراضًا على رفض بعض الدول الخطوة الأمريكية بنقل مقر سفارتها للقدس باعتبارها عاصمة لدولة الاحتلال.
اللافت هنا أن الدول العربية رفعت من مساهمتها في ميزانية الأونروا خلال هذا العام (2018) لتعويض وقف التمويل الأمريكي، فوصلت نسبة مساهمة العرب 25% من موازنة الوكالة، وهي نفس النسبة الأمريكية، لكن سرعان ما تراجع العرب عن هذا الدعم بعد رجوع واشنطن عن قرار وقف تمويل المنظمة عام 2021، ليصل في العام ذاته إلى 3% ثم 4% عام 2022.
تشير هذه الوقائع إلى إمكانية تعويض الدول العربية لجزء كبير من نقص التمويل المقدم للوكالة نتيجة تعليق بعض الدول المانحة لمساعداتها، لا سيما أن المبلغ الإجمالي الذي تحتاجه الوكالة سنويًا (1.17 مليار دولار) ليس بالرقم المستحيل أو الصعب تقديمه إذا توافرت الإرادة والرغبة في ذلك بعيدًا عن حسابات واعتبارات بعض الحكومات والأنظمة العربية من خشية إغضاب الحليف الإسرائيلي الأمريكي من هذا التحرك.
مدير الأونروا في غزة يتحدث عن الأوضاع المأساوية في خان يونس جنوبي قطاع غزة. pic.twitter.com/iUB5C1Oh7c
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) February 2, 2024
تفاقم الكارثة الإنسانية
يهدد وقف الدول المانحة تمويلها المقدم للأونروا بتعميق الكارثة الإنسانية في غزة، إذ يعد 70% من سكان القطاع المقدر عددهم بـ2.3 مليون شخص من اللاجئين، هذا بخلاف تهديد حياة اللاجئين في البلدان الثلاثة الأخرى فقط، الأردن ولبنان وسوريا، فضلًا عن الضفة الغربية.
تحتضن الأونروا اللاجئين الفلسطينيين في غزة عبر 8 مخيمات معترف بهم، ويعدون من أكثر الكثافات السكانية في العالم، تتولي رعايتهم بشكل كامل، وهي مخيمات: الشاطئ وجباليا والبريج والنصيرات والمغازي ودير البلح وخان يونس ورفح.
وكان 63% من إجمالي سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي قبل الحرب التي بدورها زادت من الوضعية الصعبة، فأكثر من 80% من الغزيين يعيشون في فقر، وتجاوزت نسب البطالة حاجز الـ50% العام الماضي، وهي النسبة المرجح زيادتها خلال أشهر الحرب الأخيرة.
علمًا بأن الغالبية العظمى من ساكني القطاع يعتمدون في الأساس على الدعم والخدمات المقدمة من الأونروا (التعليمية والصحية والصحة النفسية وخدمات الإغاثة والخدمات الاجتماعية والقروض الصغيرة والمساعدة الطارئة) من خلال طاقهما الذي يتكون من أكثر من 13.000 موظف في أكثر من 300 منشأة في مختلف أنحاء غزة.
تمارس “إسرائيل” سياستها المعهودة في توظيف كل الأوراق لخدمة أهدافها العنصرية، مدعومة بحلفائها الغربيين المنساقين بشكل كامل من الصهيونية العالمية، حتى لو كان ذلك على حساب تعريض حياة الملايين للخطر، فيما باتت الكرة الآن في ملعب العرب والمسلمين لتقديم الحد الأدنى من الدعم الإنساني الذي يحفظ لهم وجههم المشوه بشقوق الخذلان والانبطاح والخزي والعار.