“قلنا على الأقل نساهم بذلك في جلبها إلى خانة المدنية ولكن يبدو أننا أخطأنا التقييم”، كان هذا رد رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي على سؤال صحفي يبتغي صاحبه معرفة رأي الرئيس في سياسة التوافق التي انتهجتها حركته “حركة نداء تونس” مع حركة النهضة عقب انتخابات 2014، ومرد ذلك ومستقبل هذا التوافق، وأتبع جوابه هذا بالحديث عن ضرورة تغيير النظام السياسي للبلاد وتغول الهيئات الدستورية على الدولة.
كل هذا تزامن مع تعديل وزاري طال أمده وحمل معه رجوع وجوه “تجمعية” عملت مع نظام زين العابدين بن علي الذي ثار الشعب عليه في يناير 2011، وسبق ذلك دعوة صريحة لبعض الأحزاب إلى تأجيل الانتخابات البلدية مرة أخرى مع اقتراب أجلها، مما جعل البعض يتساءل: هل رجعت تونس إلى المربع الأول؟
عناصر تجمعية تعود إلى الحكومة
ظُهر أمس الأربعاء، أعلن رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد تعديلًا وزاريًا واسعًا هو الأول من نوعه منذ وصوله لمنصبه قبل نحو العام، في ظل ظروف صعبة تعانيها البلاد ومخاوف جدية على التجربة الديمقراطية الهشة بعد سنوات من الثورة، تعديل وزاري شمل 20 حقيبة (13 وزارة و7 كتاب دولة) قلص بموجبه الشاهد أعضاء حكومته إلى 33 عضوًا، حيث ألغى نصف كتاب الدولة، كما عين وزراءً جددًا في عدد من الوزارات المهمة، مع الإبقاء على بعض الوزراء ومنحهم حقائب جديدة، واستقدام وزراء سابقين، وتقليص عدد النساء داخل الحكومة إلى النصف تقريبًا.
عرف التعديل الوزاري رفع حصة “نداء تونس” بـ4 وزراء جدد، مع منح دور أكبر للمستقلين المحسوبين على الرئيس الباجي قائد السبسي
من الوزارات التي شملها التعديل الوزاري الجديد ليوسف الشاهد الداخلية والنقل والمالية والتربية، وتولى هذه الوزارات وزراء شغلوا مناصب في حكومات الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الذي أطاحت به الثورة التونسية عام 2011، مما يعبر حسب العديد من المراقبين، عن رغبة سياسية للإطاحة بالثورة التونسية والإعلان عن نهايتها وعدم تحقيقها لأهدافها.
إلى جانب عودة وجوه تجمعية بما يعكس الاصطفاف القديم بين النهضة وخصومها، عرف هذا التعديل رفع حصة “نداء تونس” بـ4 وزراء جدد، مع منح دور أكبر للمستقلين المحسوبين على الرئيس الباجي قائد السبسي، وكان زعيم حزب “نداء تونس” حافظ قائد السبسي (نجل الرئيس) قد طالب بالنصيب الأكبر للحزب من الحقائب لتنفيذ برنامجه الاقتصادي والسياسي، مما أدى إلى مفاوضات طويلة مع حزب “النهضة”، وهو الأكبر عددًا في البرلمان.
وأد التوافق
هذا التعديل الوزاري وإن سجل زيادة عدد وزراء النهضة في حكومة يوسف الشاهد بوزير واحد فقط، فإن حركة النهضة كانت أكبر الخاسرين، فقد تم تحجيم حضورها في الحكومة رغم كونها صاحبة أكبر عدد من المقاعد في البرلمان (69 مقعدًا)، كما أن الحكومة لم تستجب لشروط النهضة بأن يكون التعديل جزئيًا، وتأجيل التعديل الكبير لما بعد الانتخابات البلدية وإقرار موازنة العام المقبل حتى تحافظ على أكبر قدر من الاستقرار.
لقاء بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي
تزامن هذا التعديل، الذي كانت فيه النهضة أكبر الخاسرين، مع تصريحات الرئيس الباجي قائد السبسي لإحدى الصحف المحلية أمس الأربعاء، الذي أشار فيه إلى أن حزبه “نداء تونس” اضطر للتحالف مع حركة “النهضة” الإسلامية، مشيرًا “لم تكن أمامنا سيناريوهات أخرى (…) والنهضة كانت جاهزة لذلك إضافة إلى أحزاب أخرى بما أتاح حينئذ فرصة تشكيل تحالف حكومي، هي قبلت وليس بشروطها، وقلنا على الأقل نساهم بذلك في جلبها إلى خانة المدنية ولكن يبدو أننا أخطأنا التقييم”.
وحسب العديد من المراقبين، فإن تصريح السبسي والتعديل الوزاري الجديد الذي كان أقرب إلى الاستئصال منه إلى التوافق، مثل بداية نهاية التوافق الذي كان قائمًا، وأعاد الصراع الأيديولوجي بين النداء والنهضة إلى مربعه الأول، وكان “نداء تونس” قد تأسس في منتصف سنة 2012، بقصد القضاء على حركة النهضة التونسية ومسك زمام الأمور والاستحواذ على السلطة في البلاد، وضم الحزب يساريين ودستوريين وتجمعيين ورجال أعمال ونقابيين ومستقلين.
تأجيل الانتخابات
لم يكتفِ السبسي وجماعته بهذا، فحمل يوم أمس إشارات لإمكانية تأجيل الانتخابات المحلية المقرر إنجازها في الـ17 من شهر ديسمبر المقبل والتي تصر حركة النهضة على إجرائها في موعدها، فعند سؤال السبسي عن إمكانية تأجيل هذه الانتخابات قال إنّ هذا شأن البرلمان والأحزاب السياسية، إلا أنه دستوريًا عليه التوقيع على أمر دعوة الناخبين قبل موعد الانتخابات بـ3 أشهر لكنه لم يفعل ذلك، وأرجع سبب ذلك إلى عدم استيفاء كل الشروط الإجرائية، من ذلك الفراغ الحاصل في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وعدم المصادقة على قانون الحكم المحلي من قِبل البرلمان الذي لم يدع بعد إلى عقد دورة استثنائية لاستكمال هذه النقائص رغم اقتراب الموعد المحدد للانتخابات.
تؤكد الهيئة المستقلة للانتخابات وحركة النهضة، التي يعتبرها المراقبون الحزب الأكثر استعدادًا للانتخابات البلدية، تنظيم الانتخابات البلدية في موعدها المقرر
وأول أمس الثلاثاء، طالبت أحزاب بضرورة تأجيل الانتخابات، وقالت 8 أحزاب صغيرة بينها حزب “آفاق تونس” المشارك في الحكومة في مؤتمر صحافي إنها تؤيد تأجيل هذه الانتخابات، وقال أمين عام “الحزب الجمهوري” (وسط) عصام الشابي: “نطالب بتأجيل الانتخابات البلدية وندعو رئيس الجمهورية للاستماع إلينا (..) للاتفاق على تاريخ جديد لهذه الانتخابات”.
وقال رئيس حزب «آفاق تونس» ياسين إبراهيم إن لدى حزبه شكوكًا في قدرة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على تنظيمها في أفضل الظروف، مضيفًًا أن هذا موقف مشترك بين 8 أحزاب، موضحًا “نهاية آذار/مارس تبدو لنا تاريخًا جيدًا لهذه الانتخابات”، وأضاف أنه لا يمكن تنظيم الانتخابات من دون سد الفراغ في هيئة الانتخابات وتبني البرلمان قانونًا انتخابيًا يتيح التنظيم الإداري والمالي للانتخابات البلدية.
في المقابل، تؤكد الهيئة المستقلة للانتخابات وحركة النهضة، التي يعتبرها المراقبون الحزب الأكثر استعدادًا للانتخابات البلدية، تنظيم الانتخابات البلدية في موعدها المقرر، وبعد تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية واعتماد دستور جديد للجمهورية التونسية في العام 2014، من شأن هذه الانتخابات البلدية الأولى أن ترسخ أكثر الديموقراطية المحلية في تونس.
تغيير النظام السياسي
إلى جانب ذلك، اعتبر السبسي أن النظام السياسي المنبثق عن الدستور الحالي يشكو هنات عدة، وهو نظام شل العمل الحكومي أو يكاد، وطابعه الهجين لا يساعد الحكومة ـ أي حكومة ـ والسلطة التنفيذية عمومًا على القيام بواجباتها في تسيير الدولة وتحقيق التنمية في إطار مجتمع ديمقراطي تتحقق فيه قيم الحرية والكرامة.
البرلمان التونسي هو صاحب السلطة الأعلى في البلاد
وخلص الباجي قايد السبسي إلى القول: “في تونس نعيش في ضوء نظام سياسي شاذ فيه من الحرص على استقلالية عمل المؤسسات حد التعطيل والشلل، وفيه كذلك من إفراد بعض الهيئات المستقلة بصلاحيات استثنائية حد التغول على الدولة وعلى المؤسسات الدستورية ذاتها، بما فيها مجلس نواب الشعب صاحب السلطة الأصلية والأم في النظام السياسي الحالي، وكل ذلك كان يتم تحت شعار الاستقلالية”، حسب قوله.
ويسعى السبسي إلى تعديل دستور 2014، وتغيير النظام السياسي في تونس بما يسمح له بالحكم بمفرده أسوة بالحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فقد تربى في ظل حكمهما ويسعى لإعادة طريق الحكم الفردي في البلاد.
الحد من استقلالية الهيئات الدستورية
فضلًا عن إعادة النظر في طبيعة النظام السياسي، دعا السبسي أيضًا إلى إعادة النظر في الهيئات الدستورية التي قال إنها تهدد تماسك الدولة ووجودها، معتبرًا أن هذه المنظومة لا يمكنها مطلقًا تأمين الاستقرار والتنمية لتونس.
عمل السبسي على ضرب هيئة الحقيقة والكرامة من الداخل والخارج والتأثير على عملها حتى لا تحقق أهدافها التي أسست من أجلها
وتساءل السبسي عن معنى هيئات تعمل دون أي رقابة وتحت عنوان الاستقلالية، تمارس صلاحيات مطلقة وتقرر ميزانياتها ورواتب العاملين فيها وأعضائها، ومعها تحولت الهيئات والمؤسسات السيادية كمجلس نواب الشعب الى مجرد أجهزة لتزكية قرارات هذه الهيئات، إن هذا ضرب لمبدأ فصل السلطات وتعدي على الدولة وبدعة لا نجد لها مثيلًا خارج تونس.”
ولا تعتبر دعوة السبسي لإعادة النظر في عمل الهيئات الدستورية ودورها جديدة، فسبق أن وجه انتقاده لعمل الهيئات الدستورية، وخاصة هيئة الحقيقة والكرامة، حيث عمل على ضربها من الداخل والخارج والتأثير على عملها حتى لا تحقق أهدافها التي أسست من أجلها.
موقف النهضة
لئن ثمنت حركة النهضة، في بيان رسمي لها صادر عن المكتب التنفيذي للحركة عقب نشر حوار الرئيس وإعلان التعديل الوزاري الجديد، حرص رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي على تحقيق المصالحة الشاملة وترسيخ الوحدة الوطنية بين التونسيين، وإعلان تجديد دعمها لمسار التوافق الوطني وتمسكها بمقوماته وخصوصًا مع حركة نداء تونس والعائلة الدستورية كما تدعو كل الأطراف السياسية إلى الالتفاف حوله، فإن أطرافًا عديدة من الحركة عبرت عن رفضها لمعظم مضمون الحوار واعتبار التعديل الوزاري ضربًا لها وإعلان وفاة لسياسة التوافق المتبعة مع نداء تونس.
واعتبر العديد من قيادات الحركة في تصريحات متفرقة أن كلام السبسي بشأن فشله في جلب النهضة لحظيرة المدنية نوع من المزايدة السياسية والانتخابية، مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية وتراجع نسبة ثقة التونسيين في الرئيس الباجي قائد السبسي و”نداء تونس”، خاصة بعد سلسلة الانقسامات التي شهدها الحزب منذ تأسيسه صيف 2012.
ويرى مراقبون أن كلام السبسي الغاية منه الرجوع إلى مربع الهوية، سعيًا منه لتقسيم التونسيين، فضلًا عن إلهائهم عن كبرى المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، في هذا الشأن كتب القيادي بحركة النهضة وعضو مجلس الشورى فيها، تدوينة في حسابه الخاص على موقع التواصل الاجتماعي جاء فيه “الحداثة والمدنية عند الباجي …أن نتصالح مع المفسدين الذين نهبوا أموال تونس طيلة عقود وبشروط مخزية،. أن نتنكر للهوية والمعتقد ونلقي بالمرجعية الإسلامية في مصانع الخمر القذرة فنحل الحرام ونحرم الحلال،. أن نحور الدستور الذي توافق عليه معظم التونسيين لنجعل من الباجي إلهًا يسكن قرطاج، بيده كل الصلاحيات يأمر وينهي دون رقيب ولا نظير،. أن نتحول إلى لصوص في السلطة نتآمر على البلاد ننهبها ونخربها بدل خدمتها وإعمارها.
من جهته كتب النائب عن الحركة في البرلمان ماهر ذويب تدوينة جاء فيها ردًا على كلام السبسي الذي قال إنه فشل في جر النهضة للمدنية “أنت أخطأت التقييم ونحن أخطأنا العنوان”.
ويرى العديد من التونسيين أن حديث الباجي قائد السبسي عن مدنية حركة النهضة وضرورة إعادة النظر في النظام السياسي للبلاد وتعديل عمل الهيئات الدستورية ومراقبتها وإمكانية تأجيل الانتخابات المحلية القادمة، وتزامن ذلك مع تعديل وزاري أرجع وزراء ابن علي إلى الحكم وقلص من حضور حركة النهضة مقابل الترفيع في حضور وزراء نداء تونس ومستقلين محسوبين على الباجي قائد السبسي، كلها مؤشرات لعودة تونس إلى مربع الصفر وما قبل 14 من يناير 2011.