بدأت واشنطن في ساعة متأخرة من مساء يوم الجمعة، 2 فبراير/ شباط الجاري، ردّها العسكري في سوريا والعراق، إثر استهداف فصائل مسلحة عراقية قاعدة البرج 22 في أقصى شمال شرق الأردن بطائرة مسيّرة في 28 يناير/ كانون الثاني الماضي، والذي أودى بحياة 3 جنود أمريكيين وجرح قرابة 40 آخرين، في الوقت الذي اتهمت فيه واشنطن فصائل مسلحة عراقية تتبع إيران بالوقوف وراء الحادث.
وشنّت الولايات المتحدة سلسة غارات شملت استهداف 85 هدفًا، عبر استخدام 125 قذيفة دقيقة التوجيه، وفق ما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكي “البنتاغون”، في الوقت الذي كشفت فيه مصادر أمريكية أن الردّ لن يتوقف عند ذلك، وأن عملياتها ستأخذ نهجًا تصاعديًّا.
وقد تعرضت القواعد الأمريكية في العراق وسوريا لنحو 160 هجومًا بالصواريخ والطائرات المسيّرة، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول تاريخ بدء عملية “طوفان الأقصى” ضد الكيان الإسرائيلي.
تنديد حكومي
أعلنت الحكومة العراقية، السبت 27 يناير/ كانون الثاني الماضي، انطلاق الجولة الأولى للحوار الثنائي بين بغداد وواشنطن لإنهاء مهمة التحالف الدولي في العراق، وأكدت الحكومة العراقية في بيان مقتضب أن “رئيس الحكومة محمد شياع السوداني رعى انطلاق الجولة الأولى للحوار الثنائي بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية، لإنهاء مهمة التحالف الدولي في العراق”.
وتتعرض بغداد لضغط سياسي كبير من قبل الولايات المتحدة التي تطالب حكومة السوداني بوضع حدّ لهجمات الفصائل المسلحة، كما تتعرض في الوقت ذاته لضغط كبير من الفصائل المسلحة والقوى السياسية للردّ على الانتهاكات الأمريكية للسيادة العراقية، وتطالب بأنهاء الوجود الأمريكي للبلاد، فيما تشجّع إيران كذلك الحكومة على المضيّ بهذا النهج.
في غضون ذلك، أدانت الحكومة العراقية الضربات الأمريكية التي وصفتها بأنها اعتداء وخرق للسيادة العراقية، وأنها استهدفت مقرّات تتبع قوات الأمن العراقية، وتعليقًا على ذلك قال فادي الشمري، مستشار رئيس الوزراء العراقي، في تصريح خاص لـ”نون بوست”، إن قصف المواقع العراقية العسكرية والمدنية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية جريمة مروعة واعتداء صارخ على سيادة العراق وشعبه وحكومته.
مردفًا: “سنحمي بلادنا بالإجراءات التي تحفظ كرامتنا، ولن نتهاون تحت أي ظرف أو تبرير، وأن تبعات تعريض المنطقة للانفجار بسلوكيات عدوانية سيكون لها أثمان باهظة”.
وتعرضت الحكومة العراقية لحرج كبير بعد الضربات الأمريكية، إذ أكّد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، أن واشنطن أبلغت الحكومة العراقية بالضربات قبل شنّها، في الوقت الذي نفت فيه الحكومة العراقية هذه الادّعاءات جملةً وتفصيلًا.
من جانبه، عدَّ باسم العوادي، المتحدث باسم الحكومة العراقية، تصريحات كيربي ادّعاءً كاذبًا يستهدف تضليل الرأي العام الدولي، مبيّنًا في بيان صحفي بالقول: “عمد الجانب الأمريكي بعد ذلك إلى التدليس وتزييف الحقائق، عبر الإعلان عن تنسيق مسبق لارتكاب هذا العدوان، وهو ادّعاء كاذب يستهدف تضليل الرأي العام الدولي، والتنصُّل من المسؤولية القانونية لهذه الجريمة المرفوضة وفقًا لجميع السنن والشرائع الدولية”.
مشهد مربك
في غضون ذلك، وصف الكاتب والمحلل السياسي رعد هاشم الوضع في العراق بأنه “مربك”، وأنه من الصعوبة بمكان أن تضع واشنطن توازنًا فيما يتعلق بالردع في المنطقة، مبيّنًا في الوقت ذاته أن ذلك ينطبق على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي سيجدُ صعوبة في الاستمرار بما وصفها سياسة “مسك العصا من الوسط” التي كانت قائمة حتى الهجوم الأخير على قاعدة البرج 22 في الأردن.
وتابع هاشم في حديث خاص لـ”نون بوست” أن الفصائل المسلحة وإيران ستضغطان باتجاه أن يكون للسوداني موقف واضح بالضدّ من الولايات المتحدة، وهو ما قد يؤدّي إلى خسارته الموقف والدعم الأمريكيَّين، بما يجعل السوداني في موقف صعب للغاية يعدّ الأسوأ له منذ توليه منصبه عام 2022، وفق هاشم.
وفيما يتعلق بالتوتر والتصعيد الأخير، أشار هاشم إلى أن التصعيد الأخير يعدّ خارج الأطر والحدود المسيطَر عليها والمتعارف عليها سابقًا، لا سيما أن جميع الأطراف -واشنطن وإيران والفصائل- لديها وسائل ضغط كبيرة على العراق، بما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى أزمة سياسية داخل البلاد، فضلًا عن أزمات مع بقية المحاور الدولية والإقليمية.
واختتم هاشم أن الأزمة لا تزال جارية، ولا يُعرف المدى الذي ستصل إليه في ظل غياب الإشارات الواضحة من قبل جميع الأطراف، للمضيّ بتهدئة أو تفاهمات للحدّ من تأثير الأزمة الحالية، وفق تعبيره.
في صعيد ذي صلة، يرى المحلل السياسي علي البيدر أن التصعيد الأخير سيؤثر على جولة المباحثات التي يجريها العراق مع الولايات المتحدة لإخراج قوات التحالف من البلاد، معتبرًا أن التصعيد الحاصل بين الفصائل المسلحة والأمريكيين يشي بأن العراق لا يزال حلبة للصراع، الأمر الذي من شأنه نقل صورة سلبية أمام العالم.
وفيما يتعلق بإمكانية سحب الولايات المتحدة قواتها من البلاد، أوضح أن واشنطن لا تريد الانسحاب بهذه الطريقة التي تعطي انطباعًا بأنها أُجبرت على ذلك، انطلاقًا ممّا يمثله ذلك من انتصار للجماعات المسلحة التي يمكن لها ابتلاع الدولة والسلطة، مبيّنًا في الوقت ذاته أن التيارات السياسية العراقية -بما فيها الكتل الشيعية- تدرك أن غياب الوجود الأمريكي في العراق يعني نهاية مرحلة وجودها في السلطة.
مخاطر جمّة
واتساقًا مع الآراء السابقة، يتفق الخبير الأمني حسن العبيدي مع ما ذهب إليه البيدر، في أن هناك مخاطر جمّة محدقة بالعراق، فيما إذا تواصلت المناوشات على الأراضي العراقية بين الفصائل المدعومة من إيران من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى.
وبيّن العبيدي أن هناك العديد من الملفات الأمنية المهمة لا تزال بيد الولايات المتحدة، لا سيما ما يتعلق بتشغيل مقاتلات إف-16 الأمريكية التي يمتلكها العراق، والحاجة المستمرة إلى صيانة هذه المقاتلات من قبل الشركات الأمريكية.
وتابع العبيدي في حديثه لـ”نون بوست” أن العراق لا يزال يفتقر إلى قدرات قتالية تتعلق بالمجال الجوي، بما يشمله ذلك من الرادارات والآليات العسكرية وعقود التسليح والتدريب وغيرها، مبيّنًا في الوقت ذاته أن الفصائل المسلحة لديها إمكانات باتت معلومة وواضحة، وتستطيع من خلالها الاستمرار بإزعاج وإرباك الوجود الأمريكي في البلاد، لا سيما أن الفصائل باتت تستهدف القواعد الأمريكية في سوريا أيضًا، بعد أن كانت عملياتها قبل 7 أكتوبر/ تشرين الثاني مقتصرة على القواعد الأمريكية في الأنبار وأربيل.
واشنطن أكدت أن ردّها لم ينتهِ، في حين أن الفصائل المسلحة باشرت ردّها على الضربات الأمريكية عبر العديد من العمليات ضد القواعد الأمريكية.
وبعيدًا عن الملف الأمني، يذهب الباحث في الشأن السياسي رياض العلي إلى ما هو أبعد من ذلك، لا سيما ما يتعلق بالشأن الاقتصادي، إذ يرى أن الولايات المتحدة لا يزال بيدها الكثير من الأوراق الاقتصادية التي يمكن أن تشلَّ بها الاقتصاد العراقي، خاصة فيما يتعلق بالدولار الأمريكي واستمرارية تدفّقه إلى العراق.
ويؤخذ بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات اقتصادية على العديد من المصارف الأهلية التي تتهمها بغسيل الأموال والتعامل مع الحرس الثوري الإيراني، وهو ما يمكن لواشنطن التلويح بهذه الورقة مرة أخرى للضغط على الحكومة العراقية.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، يؤكد العلي أن جميع الأطراف المتصارعة لديها أوراق ضغط على العراق، في حين أن الحكومة العراقية تحاول الحدّ من تأثيرات الصراع المستمرة التي قد تؤدي بالوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد إلى الهاوية.
يترقب العراقيون ما قد تؤول إليه الأيام والأسابيع القادمة، لا سيما أن الولايات المتحدة أكّدت أن ردّها لم ينتهِ، في حين أن الفصائل المسلحة باشرت بردّها على الضربات عبر العديد من العمليات ضد القواعد الأمريكية، بما يشي أن البلاد مقبلة على مرحلة لا تُعرف لها نهاية حتى الآن.