يعود الحديث عن سحب إيران لكبار ضباطها من سوريا خشية استهدافهم من قبل “إسرائيل” إلى الواجهة، مع استمرار استهداف الاحتلال للمستشارين الإيرانيين، وآخرهم المستشار في الحرس الثوري الإيراني سعيد علي دادي، بضربة نفّذها الاحتلال الإسرائيلي في دمشق الأسبوع الماضي.
ويبدو أن “إسرائيل” تنظر بعين الرضا إلى الأنباء التي كشفت عنها وكالة “رويترز” بخصوص سحب طهران كبار ضباطها من سوريا، إذ تعتبرها إشارة إلى عدم رغبة طهران بإشعال الجبهة السورية للثأر لمقتل مستشاريها بالضربات الإسرائيلية.
ونقلت وكالة “رويترز” عن 5 مصادر مطّلعة تأكيدهم أن الحرس الثوري الإيراني سحب كبار ضباطه من سوريا بسبب سلسلة من الضربات الإسرائيلية، مؤكدة أن “الحرس سيعتمد بشكل أكبر على الميليشيات المتحالفة معه للحفاظ على نفوذه هناك”.
لم تعلق إيران رسميًّا على معلومات الوكالة، لكن قناة “الميادين” اللبنانية المقربة من إيران، نفت نقلًا عن مصادر وصفتها بـ”الموثوقة” الأنباء التي تتحدث عن تقليص وجود الحرس الثوري الإيراني في سوريا، مؤكدة أن “السلطات الإيرانية طلبت من المستشارين الإيرانيين التواجد في سوريا من دون اصطحاب عائلاتهم معهم”.
إيران لن تتنازل عن وجودها في سوريا
ويطرح عدم ردّ إيران على الاغتيالات تساؤلات عن أسباب ذلك، في ظل تفسيرات تنطلق من عدم وجود أي مصلحة لطهران بالتصعيد في سوريا، بسبب هشاشة الاستقرار في هذه الدولة التي ما زال الوضع الميداني فيها ينذر بعودة المواجهات الكبيرة، التي قد تشغل إيران وتربك من حساباتها.
المحلل السياسي المطّلع على الشأن الإيراني فواز المفلح، يعتقد أن إيران ما زالت تحرص على تجنيب سوريا تبعات العدوان على غزة، ويدل على ذلك بعدم حدوث مناوشات كبيرة مع الاحتلال انطلاقًا من جبهة الجولان السوري المحتل، رغم التواجد الكثيف لإيران وميليشياتها على مقربة من الخط الفاصل هناك.
يضيف لـ”نون بوست” أن الثأر للمستشارين الإيرانيين الذين قُتلوا في سوريا لا بدَّ أن يكون انطلاقًا من سوريا، ويردف: “الرد من سوريا يعني حكمًا ردًّا من الاحتلال، وهذا ما قد يُنذر بدخول سوريا عمومًا والجنوب السوري غير المستقر في مرحلة جديدة، لن تكون في صالح إيران”.
بالتالي، بحسب المفلح، يُنظر إلى الأنباء التي نقلتها وكالة “رويترز” حول سحب إيران كبار ضباطها من سوريا، على أنها خطوة من طهران لتقليل خسائرها في سوريا، وذلك إلى حين توضيح مآل الحرب في غزة، وما إن كانت ستمتد إلى فترة طويلة، أو ستنتهي قريبًا بصفقة ما.
ويبقى السؤال: هل يعني ذلك تقليص نفوذ إيران في سوريا؟ يردّ الأكاديمي والباحث المختص بالشأن الإيراني غداف راجح بالقول: “لا يمكن بحال من الأحوال الحديث عن أي توجه إيراني لتقليص نفوذها في سوريا، رغم ارتفاع منسوب الخسائر في صفوف قواتها”.
ورغم اعترافه بأن الوجود الإيراني في سوريا اليوم بات على المحك، يؤكد لـ”نون بوست” أن إيران لن تتنازل عن وجودها في سوريا بهذه البساطة، وطهران لم تدفع كل ما دفعته للعودة بخفي حنين.
وموضحًا أهمية سوريا بالنسبة إلى إيران، يقول راجح: “تعدّ سوريا والعراق ولبنان وحتى اليمن، مواقع متقدمة للدفاع عن إيران، وهذا ما شهدناه من خلال القصف الأمريكي الأخير، في حين أن إيران التي تموّل وتدعم كافة الميليشيات لم تصَب بأي قذيفة”.
بدوره، يستبعد مدير المركز العربي للبحوث والدراسات بالقاهرة، هاني سليمان، من احتمال انسحاب إيران من المشهد السوري، رغم الضربات والاستنزاف وزيادة الضغط، ويقول لـ”نون بوست”: “لا شكّ أن للضربات تأثيرات سلبية على نفوذ ومركز إيران في سوريا وغيرها، لكن لدى طهران العديد من الأدوات التي تمتلكها للتعامل مع الواقع الجديد الذي استدعته الضربات”.
من المحتمل أن توعز طهران لـ”حزب الله” اللبناني بزيادة التصعيد في الجنوب اللبناني، وكذلك لجماعة “أنصار الله” الحوثيين لرفع منسوب الهجمات ضد سفن “إسرائيل” وحليفتها الولايات المتحدة في البحر الأحمر، مستدركًا: “لكن هذه المساحة تبقى منضبطة، والوضع يبقى على ما هو عليه”.
إعادة انتشار
مع زيادة الضربات التي يوجّهها الاحتلال الإسرائيلي إلى مواقع إيرانية في سوريا، انتشرت أنباء عن اتخاذ قادة إيران تدابير احترازية كبيرة، خاصة في عمليات التنقل داخل سوريا، إلى جانب عمليات إعادة انتشار تنفّذها القوات والميليشيات التابعة لإيران.
بحسب مركز جسور للدراسات، يبلغ عدد المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا 570 موقعًا، لكنها تتميز عن بقية القواعد الأجنبية هناك بافتقارها للبنى التحتية العسكرية، ما يجعلها غير قادرة على شنّ عمليات عسكرية.
يضيف المركز في دراسة رصدها “نون بوست” أن هذه القواعد جاهزة دائمًا لإعادة الانتشار لتفادي الضربات الجوية، وتردف الدراسة أن “إيران تحاول تعويض افتقارها للبنية التحتية العسكرية عبر استثمار البنى التحتية والمرافق العائدة لقوات النظام”، وبحسب مركز جسور تأخذ بعض المواقع الإيرانية صفة مدنية كغطاء لأعمالها الأمنية، مثل المراكز الثقافية والقنصلية في حلب.
وثمة من يؤكد أن التطورات الأخيرة ستدفع بإيران إلى زيادة انتشار قواتها في ثكنات ومواقع النظام السوري العسكرية، تفاديًا للقصف.
في هذا الإطار، يؤكد الخبير العسكري النقيب عبد السلام عبد الرزاق، أن العديد من ثكنات النظام العسكرية تعرضت للقصف من قبل “إسرائيل”، بسبب المعلومات عن تواجد مقارّ إيرانية أو مستودعات فيها، مثل الفرقة الأولى في الكسوة بريف دمشق، والفرقة الثالثة بزاكية، والفرقة الخامسة في ريف درعا.
ويضيف لـ”نون بوست” أن “الاحتلال يركّز على شحنات الأسلحة التي تصل من طهران، لكن مع العدوان على غزة بدأ الاحتلال يركّز على استهداف القيادات، وهذا يبدو مربكًا لإيران”.
كما كشفت صحيفة “الجريدة” الكويتية عن زيارة أجراها قائد فيلق القدس، اللواء إسماعيل قآني، للعاصمة السورية، التقى فيها رئيس النظام بشار الأسد، وجرى تسليم الأخير رسالة من المرشد الأعلى علي خامنئي، تؤكد وجود اختراق أمني داخل الأجهزة الأمنية السورية.
وأضافت نقلًا عن مصدر أنه تمّ الاتفاق مع الأسد على اتخاذ إجراءات مضادة، بينها إخفاء هويات الضباط الإيرانيين، وإصدار ترخيص خاص يسمح للمهمين منهم بدخول سوريا والخروج منها دون الكشف عن هوياتهم لفترة مؤقتة، على أمل أن تتمكن دمشق من كشف أماكن الاختراق.
والثلاثاء 6 فبراير/شباط، استهدفت ضربات إسرائيلية مبنى يستخدمه “حزب الله” في منطقة راقية في محافظة حمص وسط سوريا، وقتل فيه ثلاثة من عناصر الحزب، ونقلت “الشرق الأوسط” عن سكان الحي استيائهم من بيع أو تأجير أماكن داخل الأحياء السكنية لغرباء يختارون الأحياء الآمنة والهادئة. وقال أحد سكان المنطقة: “يتسللون إلى مناطقنا بشكل هادئ لا يلفت الانتباه، وبعد الاستهداف نفاجأ أن الموقع كان يستأجره محسوبون على إيران أو حزب الله”.
ويكشف هذا أن إيران وأذرعها تستخدم تقنيات التمويه عن قواعدها وأماكن انتشار عناصرها وقيادييها ليس ضمن الثكنات العسكرية السورية فحسب، ولكن ضمن الأحياء المدنية الآهلة بالسكان كذلك، ويكشف أيضًا عن أن الاختراق إسرائيلي يُمكّن تل أبيب من الوصول لمعلومات شديدة التمويه، لدرجة أن الجيران لا يعرفون بوجود الهدف إلا بعد أن استهدافه بغارة إسرائيلية.
وبجانب الضربات الإسرائيلية برزت الضربات الأمريكية الأخيرة التي استهدفت مواقع تابعة للميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق، ردًّا على مقتل 3 جنود أمريكيين في هجوم على قاعدة البرج 22 في الأردن، تتَّهم مجموعات تابعة لإيران بتنفيذه قبل أسبوعَين.
وفق مصادر محلية لـ”نون بوست”، استهدفت الضربات مستودعات ذخيرة ومراكز قيادة إيرانية في دير الزور وريفها الشرقي، لكن لا معلومات دقيقة عن حجم الخسائر البشرية التي مُنيت بها إيران ومجموعاتها.
في العموم، تُغلق الأوساط المراقبة الباب على احتمال تقليص إيران لنفوذها في سوريا، وتشدد على أن إيران لن تتخلى عن سوريا كمصدّات دفاعية متقدمة لها في المنطقة، وتلفت إلى أهمية الجغرافيا السورية بالنسبة إلى الحسابات المتعلقة بمشروع إيران في المنطقة.