إصلاحات غائبة.. لبنان يقرّ موازنة 2024 رغم ما بها من مخالفات

على غير العادة التي ظلت لعدة سنوات ماضية، أقرّ لبنان موازنته للعام الجاري ضمن المهلة الدستورية، بعدما كانت تُقرّ سابقًا بعد بداية العام المالي أو قبل نهايته في بعض الأحيان، إلا أن تلك الإيجابية لم تنعكس على مضامين تلك الموازنة.

فلبنان الذي يمرّ بأسوأ انهيار اقتصادي في العالم بحسب البنك الدولي، جاءت موازنته على غير المستوى الذي يتطلبه المشهد الاقتصادي الحالي، خاصة مع تجاهلها الإصلاحات اللازمة، فضلًا عن العلل التي تخلّلتها، كاستبعاد القروض ونفقات الهيئات والمؤسسات الحكومية.

وتأتي موازنة 2024 دون وجود قطع حساب (الحساب الختامي) لميزانيات الأعوام الثلاثة السابقة، ما يضفي حالة من عدم الشفافية مع غياب الأرقام الدقيقة والنهائية للإيرادات والنفقات السابقة، فضلًا عن كونه يعدّ أمرًا تعجيزيًّا أمام صانعي القرار أو أصحاب الرقابة لتقدير حجم المخصصات اللازمة لكل موازنة جديدة.

وبلغ مجموع النفقات في الموازنة الجديدة 295 ألف مليار و113 مليونًا، لتبلغ عند احتسابها عند سعر صرف يوازي 89 ألفًا و500 ليرة لبنانية أي حوالي 3.3 مليارات دولار، بمعدل يبلغ 7 أضعاف مثيلاتها في موازنة عام 2022، وتم تخصيص 44.66% من إجمالي النفقات للرواتب والأجور والمخصصات الاجتماعية ومعاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة وتحويلات القطاع العام.

في المقابل، بلغ مجموع الإيرادات الرقم نفسه، أي بمجموع 3.3 مليارات دولار، تتوزع بين الإيرادات الضريبية المختلفة لتستحوذ على 77.8% من مجموع الإيرادات، فيما بلغت الإيرادات غير الضريبية 22.1%.

تجميل الموازنة

تعدّ مساواة الإيرادات بالنفقات محاولة لتصفير عجز الموازنة، عبر استبعاد بعض المخصصات ما يعكس عدم واقعية الموازنة وانفصالها عن الواقع، وهو ما يمكن اعتباره عملية تجميلية للموازنة.

فمشروع موازنة 2024 المقدَّم بالأساس من قبل وزارة المالية، قدّر العجز بـ 41.73 تريليون ليرة لبنانية، قبل أن تسفر مناقشات لجنة المال والموازنة عن تصفير العجز على الورق، من خلال رفع الإيرادات بحوالي 37 تريليون ليرة وتخفيض النفقات بمعدل 5.41 تريليونات ليرة.

إلا أن الخطورة التي تكمن حول تضخيم الإيرادات بشكل غير واقعي، تتمثل في أن الحكومة قد تعجز عن توفير التمويل اللازم لحجم النفقات المذكورة، والتي لا تعطي الصورة الصحيحة والشاملة عن النفقات العامة الفعلية.

الخطورة التي تكمن حول تضخيم الإيرادات بشكل غير واقعي، تتمثل في أن الحكومة قد تعجز عن توفير التمويل اللازم لحجم النفقات المذكورة، والتي لا تعطي الصورة الصحيحة والشاملة عن النفقات العامة الفعلية.

وتعدّ الضرائب والجهات المانحة هي المنفذ الوحيد لتمويل النفقات، خاصة مع إعلان مصرف لبنان في أغسطس/ آب الماضي أنه لن يقوم بتمويل عجز الموازنة عبر طباعة النقود، ليصبح من الصعب توفير الأموال اللازمة للنفقات العامة لموازنة 2024 عبر البنك المركزي، أو الاقتراض الذي يعدّ مستحيلًا بعد تخلُّف البلاد عن السداد في مارس/ آذار 2020.

ويشكّل الجزء الأكبر من الإنفاق العام المرصود في الموازنة على النفقات الجارية 86%، بينما مثلت النفقات الاستثمارية نحو 9% فقط، إذ تستحوذ الأجور ورواتب موظّفي القطاع العام على نصف نفقات الموازنة.

وجاءت الضرائب في مقدمة الإيرادات بواقع 69%، إلا أن الضرائب ارتكزت بشكل أساسي على الضرائب غير المباشرة التي تطال عموم المواطنين، الذين يعانون من تزايُد معدل الفقر وتراجُع القدرة الشرائية على مدى نحو 5 سنوات، في حين تمّ تخفيض ضرائب الدخل إلى أقل من 20% من الإيرادات.

وتتمثل تلك الإشكالية في أن توزيع العبء الضريبي يأتي بشكل لا يتناسب مع فئات المجتمع أو بشكل يعدّ غير عادل، إذ إن هذا الاتّساع في الضرائب غير المباشرة، مثل ضرائب الاستهلاك وضريبة القيمة المضافة، يشمل الجميع دون مراعاة لفروق الطبقات، في حين لم تسعَ الموازنة لتعويض فجوتها الإرادية من خلال فرض مزيد من الضرائب مباشرة على أصحاب الثروات والفئات ذات الدخول العالية، إذ تمثل الضرائب المباشرة خُمس الإيرادات.

ولم تقتصر التشوُّهات التي جاءت في موازنة لبنان عند هذا الحد، بل شملت أيضًا تعدد أسعار الصرف، وهو ما يعاكس طبيعة موازنات الدول التي تقوم على سعر موحَّد تحدَّد من خلاله قيم ثابتة لجميع مخصصات الموازنة، إلا أن ذلك يأتي نتيجة عدم قدرة الدولة على توحيد سعر الصرف.

ويعدّ أحد أسباب تعدد الموازنة أيضًا هو عدم رغبه الدولة في توحيد سعر الصرف عند سعر السوق المقدَّر بـ 89 ألفًا و500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، والذي قد يكبّد المصارف، التي تصرف الدولار عند 15 ألف ليرة، أموالًا طائلة لن تكون قادرة على ردّها بشكل كامل في حال تصريفها إلى الدولار بسعر السوق، فضلًا عن أن تصريف البنوك بهذا السعر المتدني يحدّ من السحوبات المصرفية.

ومنذ أن بدأ الاقتصاد اللبناني بالانهيار عام 2019، فقدت العملة المحلية حوالي 95% من قيمتها، ومنعت البنوك معظم المودعين من سحب مدخراتهم، وبات أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر.

يعدّ تقليص مخصصات الوزارات الخدمية إلى هذا الحد في وقت ترتفع فيه أعداد الأسر الفقيرة إلى مستويات قياسية مقارنة بمستويات 2019، ناقوس خطر يهدد البلاد

واندلعت الأزمة بعد عقود من الإسراف في الإنفاق وفساد النخبة الحاكمة، التي قاد بعض أفرادها البنوك التي قدمت قروضًا كبيرة للدولة، وتقدِّر الحكومة إجمالي خسائر القطاع المالي بأكثر من 70 مليار دولار، معظمها تراكمَ لدى البنك المركزي.

انعكاسات الموازنة

رغم زيادة حجم الإنفاق خلال العام الجاري، إلا أن موازنة البلاد جاءت عند 3.3 مليارات دولار، أي نحو 20% من حجم موازنة عام 2019 التي بلغت 17 مليار دولار، الأمر الذي يعكس مدى تأثير الانكماش الاقتصادي خلال السنوات الماضية على البلاد.

إذ إنه رغم زيادة مخصصات الوزارات الخدمية مقارنة بمخصصات موازنات العام الماضي لتصل إلى 747 مليون دولار، إلا أنها لا تشكّل سوى 40% من مستواها قبل الأزمة عام 2019، ليأتي هذا الانكماش في حجم الموازنة على حساب الإنفاق على الصحة لتصبح عند نصف ما كانت عليه قبل الأزمة، وتبقى موازنة التعليم عند 12% ممّا كانت عليه عام 2019.

ويعدّ تقليص مخصصات الوزارات الخدمية إلى هذا الحد، في وقت ترتفع فيه أعداد الأسر الفقيرة إلى مستويات قياسية مقارنة بمستويات عام 2019، ناقوس خطر يهدد البلاد ليس على المستوى الاقتصادي فقط بل على المستوى الاجتماعي، إذ إنه يسهم في زيادة معدلات الجريمة وارتفاع معدلات الطلاق.

وبحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا“، فإن من يعانون الفقر متعدد الأبعاد بلغوا عام 2021 من إجمالي السكان حوالي 82%، فيما نسبة من يعانون الفقر المدقع متعدد الأبعاد تبلغ 40%.

وأشارت الإسكوا إلى أن الأسر اللبنانية باتت محرومة من الرعاية الصحية، فيما لا يستطيع حوالي 52% من السكان الحصول على الدواء، وما يقارب 54% لا يستطيعون الوصول إلى الطاقة الكهربائية، أما عن الفقر المادي في لبنان كشفت الإسكوا أنه بلغ 74%، متخطيًا نسبته السابقة البالغة 55% عام 2020 و29% عام 2019.

كذلك تسهم محدودية مخصصات الاستثمار بالموازنة في بلد يعاني من تراجع أداء القطاع الخاص وانخفاض مستويات التوظيف، في زيادة معدلات الفقر وتقليص معدلات النمو الحقيقية للاقتصاد.

كما أن استمرار تجاهل الإصلاحات اللازمة، كالديون المتراكمة التي تتطلب الذهاب إلى وضع خطة لإعادة هيكلة الدين العام الذي تجاوز مستوى الـ 102 مليار دولار، والتي تعدّ ضرورة لتعافي الاقتصاد المحلي وعودة الثقة لدى المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي؛ يعني استمرار أزمات لبنان.

كذلك تخفيض فاتورة الأجور والرواتب وملحقاتها من نحو 6.6 مليارات دولار عام 2019 إلى نحو 46 تريليون ليرة في موازنة 2024، أي ما لا يزيد على 500 مليون دولار، يزيد من اتّساع رقعة الفقر، خاصة مع تزايد معدلات التضخم.

 إصلاحات لازمة

تلك المعطيات تدفع بالإصلاحات التي طرحها صندوق النقد وناشد بها الخبراء الاقتصاديون عدة مرات إلى الواجهة، والمتمثلة في ضرورة إصلاح السياسات المالية العامة وكل ما يتعلق بإعادة هيكلة الدين العام، وإعداد موازنة منضبطة وفقًا للمعايير الدولية، على أن تتضمّن مكونًا رئيسيًّا خاصًّا بدعم النشاط الاجتماعي وكل الأنشطة الخاصة بالخدمات الاجتماعية الرئيسية.

كذلك العمل على الإصلاحات الخاصة بالقطاع المالي، عبر التركيز على الجهاز المصرفي ودور مصرف لبنان المركزي، وتحديد الخسائر وفق دراسات فنية معتمدة للمعايير الدولية، وأيضًا توحيد نظام سعر الصرف، فضلًا عن الإصلاحات الهيكلية والحوكمة والشفافية والأمور القطاعية ذات الأولوية التي تحددها الدولة.