بعد أن استطاعت هيئة تحرير الشام بسط سيطرتها على غالب محافظة إدلب نهاية شهر تموز/يوليو 2017، إثر إنهاءها لنفوذ حركة أحرار الشام الإسلامية في المحافظة، أصبح هناك هاجس كبير لدى الناس من أن تتحول إدلب إلى موصل جديدة وذلك بسبب تصنيف جبهة النصرة المكون الرئيسي للهيئة على أنها جماعة إرهابية.
وبعد سيطرة هيئة تحرير الشام على معبر باب الهوى، عملت تركيا على منع مواد البناء والسلع غير الغذائية من دخول الأراضي السورية حيث صرح وزير التجارة والجمارك التركي، بولنت توفنكجي، أن “أنقرة ستحد من حركة السلع غير الإنسانية عبر المعبر، لأن الجانب السوري يخضع لسيطرة تنظيم إرهابي”.
سارعت تحرير الشام إلى تدارك الموقف من خلال إصدار بيان بعنوان “الثورة مستمرة” أكدت فيه أنها جزء من ثورة الشعب السوري داعية جميع الفصائل والفعاليات الثورة إلى مؤتمر عام يهدف لجمع الرؤى والعمل على بناء مشروع لكيان سني يحفظ الثوابت ويحقق الأهداف بمشاركة جميع أطياف الثورة.
ومن ثم طرحت الهيئة في بيانها فكرة إنشاء إدارة مدنية لإدارة شؤون الناس في المناطق المحررة مع تأكيدها على فرز قوات أمنية من الفصائل العسكرية ووضعها في خدمة تلك الإدارة بينما ينحاز باقي مقاتلي الفصائل إلى الجبهات ونقاط التماس مع قوات النظام.
وفي 24 آب/أغسطس 2017، تم إطلاق مؤتمر عام في مدينة إدلب لمناقشة مشروع الإدارة المدنية وقد حضره بعض الشخصيات البارزة، كان منها مؤسس الجيش السوري الحر رياض الأسعد والشيخ إبراهيم شاشو وبعض الشخصيات من الائتلاف السوري المعارض.
مشروع الإدارة المدنية بقي أفكاراً عامة غير واضحة، وغير مبلورة في أذهان الداعين له، فهل هذه الإدارة عبارة عن مشروع لتنظيم أوضاع المدنيين بشكل مؤقت
وقد صدرت عشرات البيانات من المجالس المحلية في محافظتي إدلب وحلب تؤيد المبادرة وترحب بها، كل ذلك يأتي ضمن جهود كبيرة بذلت من أجل تجنيب المنطقة جحيم حرب جديدة وقصفاً قد لا يبقي ولا يذر ضمن سياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها القوات الروسية وقوات التحالف من أجل طرد من تصفهم بالإرهابيين من المناطق المستهدفة.
إلا أن مشروع الإدارة المدنية بقي أفكاراً عامة غير واضحة، وغير مبلورة في أذهان الداعين له، فهل هذه الإدارة عبارة عن مشروع لتنظيم أوضاع المدنيين بشكل مؤقت في ظل الواقع الاستثنائي الذي تعيشه سوريا، أم أنها عبارة عن دويلة صغيرة تتجه نحو أن يكون لها حدود وجمارك وعلاقات مع الدويلات المجاورة لها إن صح التعبير، كدويلة عفرين أو كدويلة الأسد التي تعددت حكامها من روس وإيرانيين وغيرهم.
وفي 30 من شهر آب/ أغسطس 2017، أي بعد 6 أيام من إطلاق مؤتمر المبادرة المدنية، أصدرت الحكومة السورية المؤقتة بياناً دعت فيه لتشكيل جيش وطني موحد يكون منضوياً تحت ملاك وزارة الدفاع في الحكومة، محذرة من أن استمرار تشرذم قوى الثورة سيؤدي في النهاية إلى إجهاضها من قبل أعدائها، وتكرار سيناريو الموصل، وأن الشعب السوري سيخسر بعدها حريته وكرامته ومستقبل بلاده لعقود قادمة.
تلا ذلك دعوة المجلس الإسلامي السوري للاستجابة لمبادرة الحكومة المؤقتة مصدراً فتوى بلزوم الوحدة وتشكيل جيش وطني في ظل وزارة دفاع واحدة.
وقد أيدت العشرات من فصائل المعارضة دعوة الحكومة المؤقتة والمجلس الإسلامي السوري لتشكيل جيش موحد، كان أبرزها حركة أحرار الشام وجيش الإسلام وفيلق الشام وحركة نور الدين الزنكي.
دعوة الحكومة المؤقتة لتشكيل جيش وطني قد يؤدي إلى اقتتال جديد بين الفصائل
فما هو الرابط بين المبادرتين وهل الجيش الموحد هو رديف للإدارة المدنية أم أن الجيش الوطني هذا هو جيش الحكومة المؤقتة التي تنوي أن ترسخ لها وجود في الداخل السوري ولا سيما بعد أن انتقل مقر تلك الحكومة إلى مدينة إعزاز الحدودية شمال حلب، في حين بقي وجود مكاتب للحكومة في محافظة إدلب متحفظاً عليه مع وجود بعض الجامعات أو المؤسسات المدنية التي تتبع للحكومة شكلياً.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف لحكومة يعمل موظفوها بشكل تطوعي بعد قرار رئيس الحكومة جواد أبو حطب توقف الدعم عنها وانقطاع الرواتب عن موظفيها، كيف لتلك الحكومة أن تشكل جيشاً موحداً؟! وكيف لها أن تقدم التمويل اللازم له؟!
يرى الناشط السياسي السوري مأمون سيد عيسى أن الدعوة إلى تشكيل جيش موحد تحت قيادة وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، سيكون له تداعيات في نشوب اقتتال جديد بين الفصائل، المؤيدة للجيش الموحد وقد بلغت 44 فصيلاً وبين الرافضة له والمؤيدة للإدارة المدنية كهيئة تحرير الشام وبعض الفصائل الإسلامية.
يقول سيد عيسى في منشور له على الانترنت: ” أرى هذه الحالة قد تخلق احتقاناً، قد يؤدي لصدام بين هذه الكتلة المتكونة وجبهة تحرير الشام، لا سمح الله إن حدث هذا سيستغله النظام ليتسلل الى إدلب بعد أن يكون الضعف قد أصاب الجميع، وسيؤدي هذا الصدام إن حصل لا سمح الله الى الإخلال بوحدة حاضنة الثورة حيث تجد أخاً ينتمي للجبهة وأخوه او ابن عمه ينتمي لأحد الفصائل المذكورة قد أصبحا ضدين”.
هذه المبادرات تحمل في طياتها التخلي عن مطلب إسقاط النظام في دمشق والعمل ضمن مفاوضات سياسية تؤدي إلى حل سياسي توافقي
لذلك فإن الواضح أنه ليس عند الحكومة المؤقتة قدرة على تحمل تكاليف تشكيل جيش وطني موحد، وإن قطع الدعم عنها يُظهر أن هذه الحكومة لا تعدو أن تكون مجرد ورقة انتهت صلاحيتها وهناك مشروع يحاك لسوريا أكبر من مشروعها، ولعل الروس والأمريكان ومعهم الأتراك والإيرانيين قد اتفقوا على حل سياسي يُفضي لدمج مقاتلي المعارضة بالجيش النظامي بعد ترتيب أوراق الحكومة الوطنية الجديدة، وأن دعوة الحكومة المؤقتة ومعها المجلس الإسلامي ما هي إلا فرقعات إعلامية، تؤدي بشكل أو آخر إلى عزل هيئة تحرير الشام التي تدعم مبادرة الإدارة المدنية، كل ذلك تهيئة لقتالها أو إرغامها للذوبان في مكونات جديدة مفروضة من الخارج ضمن حل سياسي ترعاه الدول الكبرى.
ويرى عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في سوريا الأستاذ منير ناصر أن الدعوة إلى تشكيل جيش موحد وتوحيد الفصائل في كيان واحد هي دعوة مشبوهة حيث قال في خبر وتعليق له نشر على الفيس بوك: “من هنا نجد أنّ دعوة المجلس الإسلامي السوري تأتي في سياق الحثّ على الانخراط في الحكومة المؤقتة المنبثقة عن الائتلاف العلماني أكثر من كونها دعوة لتوحيد الصف، فلطالما كان هذا المجلس طرفاً في النزاعات الفصائلية، وبياناته شاهدة على ذلك، وهذا الانخراط في الحكومة المؤقتة هو عينُ ما سَعت له أمريكا منذ إنشائها الائتلاف ليكون وجهاً سياسياً للثورة يقودها إلى الحل السياسي الأمريكي، والذي بات واضحاً بعبارة مختصرة أنه لا يُمثل إلا (حضن الوطن)”.
والمدقق في مبادرتي الحكومة المؤقتة وهيئة تحرير الشام يرى أنها تندرج ضمن اتفاق وقف التصعيد الذي تم تنفيذه بداية أيار/ مايو 2017، والذي أوقف جميع العمليات العسكرية بين فصائل المعارضة وقوات النظام، لذلك فإن هذه المبادرات تحمل في طياتها التخلي عن مطلب إسقاط النظام في دمشق والعمل ضمن مفاوضات سياسية تؤدي إلى حل سياسي توافقي، وهذا الأمر ترفضه شريحة كبيرة من السوريين الذين فقد كثير منهم أعزاء لهم وأقرباء سواءً بقصف النظام أو من خلال التصفيات الجسدية في المعتقلات أو غير ذلك من أساليب القتل التي انتهجها النظام وداعميه خلال 7 سنوات من عمر الثورة.