بعد إعلان هيئة الانتخابات العليا نتيجة استفتاء 16 نيسان/أبريل التي جاءت بنسبة 51.48%، والتي أفضت إلى ما بات يُعرف باسم “عملية المواءمة” التي تقضي باتخاذ إجراءات تربط مؤسسات الدولة بالمؤسسة الرئاسية، وصولاً لتغيير شكل الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، أخذت تركيا تمضي قدماً نحو إجراء عدة تغييرات آخرها كان ربط جهاز الاستخبارات بمؤسسة الرئاسة.
في ضوء هذه العملية، أعلنت الصحافة التركية، في 25 آب/أغسطس 2017، ربط جهاز الاستخبارات القومي بمؤسسة الرئاسة، على أن يصبح الرئيس التركي هو المتابع المباشر لعمل الجهاز، فما هي دلالات هذا الإجراء؟
إن الدلالة الأولى لهذا الإجراء، تكمن في توسيع وتقوّية الصلاحيات الممنوحة للرئيس، إذ يحق للرئيس، بعد هذا الإجراء، متابعة عمل جهاز الاستخبارات، وتوجيهه بشكل مباشر، كما بات يحق له مطالبة بعض أفرع الاستخبارات بإجراء تحقيقات داخلية وخارجية بشكل مباشر، إلى جانب صلاحيته في طلب إجراء تحقيقات سرية أو علنية داخل الوزارات والجيش ومؤسسات الدولة الأخرى من دون الرجوع إلى البرلمان.
لا شك في أن هذه التغييرات تقوّي من يد الرئيس ومؤسسته أمام المؤسسات الأخرى. كذلك تؤدي هذه المعادلة إلى ميل كفة ميزان القوى داخل تركيا من الجيش إلى الاستخبارات، بحيث سيصبح بإمكان جهاز الاستخبارات إجراء التحقيق الذي يريد، واتخاذ الإجراء الوقائي الاستباقي الذي يرغب به ضد الجيش، في أي وقت، ومن دون إذن مسبق من النيابة، الأمر الذي يجعل مؤسسة الرئاسة قادرة على إحكام سيطرتها على الجيش الذي سيتحول، بفعل هذه الإجراءات، إلى مؤسسة تحكمها الشفافية، بعدما كانت عبارة عن “صندوق مُغلق” أمام كافة مؤسسات الدولة الأخرى، لا سيما وأن التغييرات المذكورة تمنح مؤسسة الرئاسة صلاحية إجراء التحقيقات عبر تجاوز الإجراءات القضائية البيروقراطية التي كانت تُعيق السلطة السياسية عن توقع محاولات الانقلاب أو التمرد. وهنا إيحاء بانتهاء الأسطورة المناطة بالجيش التركي بأنه “حامٍ للنظام العلماني”، حيث كان تدفعه هذه الأسطور لإجراء الانقلاب أو التمرد الذي يُريد.
حرصت الدولة العثمانية في أواخر سنوات حُكمها على تأسيس جهاز استخبارات في عام 1909، عُرف باسم “تشكيلات مخصوصة” أي الفرقة الخاصة
أما الدلالة الثانية، فتتمثل في تحصين الإرادة السياسية لمؤسسة الرئاسة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ما يعني تسريع عملية اتخاذ القرار بناءً على معلومات استخباراتية تجعل القرار المُتخذ أقرب ما يكون للصواب. وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال مدى أهمية جهاز الاستخبارات في محاربة جماعة “غولن، وتشكيل مصدر قوة لحزب العدالة والتنمية الذي طالما بحث عن موازن لقوة الجيش “العلماني”، وقوة الشرطة والقضاء “الغولنية”، لتثبيت أقدامه في الحكم، فبعد القضاء على نسبة كبيرة من خطر جماعة “غولن”، يصبح حزب العدالة والتنمية بحاجة ملحّة لإنهاء خطر تمرد الجيش المحتمل ضد خطوات تحويل نظام الحكم التقليدي من برلماني إلى رئاسي. ولا شك في أن الاستخبارات هو الجهاز الأقوى القادر على توفير المناخ والحصن اللازمين لذلك.
وتتمحور الدلالة الثالثة لهذا الإجراء حول أن أنقرة ماضية في إجراء عملية “المواءمة”، بكل عزم، حتى يأتي عام 2019 الذي سيشهد انتخابات على كافة المستويات، وأنقرة يحكمها نظام رئاسي. وفي ضوء استمرار هذه العملية، من المتوقع أن تؤول مؤسسة الشؤون الدينية، ومؤسسة الإعلام والصحافة، ومؤسسة التخطيط التنموي، وغيرها، إلى ما آلت إليه مؤسسة الاستخبارات.
يعتبر جهاز الاستخبارات من أهم الأجهزة الأمنية العاملة من أجل تأمين أمن واستقرار الدولة، ويُعد العمود الفقري للدول القومية التي تستند عليه من أجل اتخاذ القرار المناسب لإجراءاتها الداخلية والخارجية، وإجراء الدعاية السياسية المناسبة المُدعمة لهذه الإجراءات. ولأهمية الاستخبارات، لم يُحرِم القانون الدولي عمله، ولم يتطرق إليه، نظراً لحساسية الأمر وفقاً لجميع الدول.
يُقيم هذا الإجراء بإيجاز على أنه تغيير تكتيكي للاتجاه نحو تغيير استراتيجي يقلب نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي “قوي” يستند على قوة وازنة، في أقرب وقت ممكن
ومن هذا المنطلق، حرصت الدولة العثمانية في أواخر سنوات حُكمها على تأسيس جهاز استخبارات في عام 1909، عُرف باسم “تشكيلات مخصوصة” أي الفرقة الخاصة. وفي 3 تشرين الثاني/نوفمبر 1918، أسست حركة المقاومة الوطنية جهاز “قوات اليد السوداء” “كاراكول” كجهاز استخبارات بديل لجهاز “التشكيلات المخصوصة” الذي انهار على إثر انهيار الدولة العثمانية، وكانت مهمته الأساسية هي تنفيذ عمليات الاغتيال للخائنين والمتعاونين مع الاحتلال، إلى جانب رصد المعلومات حول تحركات الاحتلال.
بعد تحقيق المقاومة التركية انتصاراً ملموساً على قوات الاحتلال، عمد قائد هذه المقاومة، مصطفى كمال باشا، في 3 أيار/مايو 1921، إلى تأسيس ما عُرف باسم “تشكيلات مسلح مدافعة ميلية” أي قوات الدفاع القومية المسلحة “ميم”. وتولت هذه القوات جميع الأنشطة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية في البلاد. لكن بعد فترة من الزمن، تبين لمصطفى كمال باشا أن هناك ضعفاً بارزاً في المجال الاستخباراتي التركي أمام أجهزة الاستخبارات السوفييتية والأمريكية والألمانية والإيطالية التي تصوغ دعاية سياسية سوداء ضد تركيا، وتعجز تركيا عن صد هذه الدعاية، فعمل رئيس الأركان العامة آنذاك، فوزي تشاكمك، على تأسيس جهاز “خدمة العمالية الملية” “ماه” أي جهاز الاستخبارات القومي عام 1926، وقام عام 1927 بربطه بوزارة الداخلية. وفي عام 1965، تم تحويل اسم “ماه” إلى “ميت”. وكلمة “ميت” هي اختصار لاسم “ميلي استخبارات تشكيلاتي” أي جهاز الاستخبارات القومية الذي لا زال يحتفظ باسمه حتى يومنا هذا.
في المحصلة، يُقيم هذا الإجراء بإيجاز على أنه تغيير تكتيكي للاتجاه نحو تغيير استراتيجي يقلب نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي “قوي” يستند على قوة وازنة، في أقرب وقت ممكن.