دخلت حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال ضد قطاع غزة شهرها الخامس لتتصدر قائمة أطول الحروب التي شهدتها فلسطين منذ نشأة الكيان المحتل، مخلفة أرقام غير مسبوقة من الضحايا المدنيين، وسط حالة من الارتباك والترقب لما ستسفر عنه في ظل غياب الأفق بشأن نهايتها.
وأسفرت تلك الحرب الإجرامية التي دخلت يومها الـ122 عن ارتقاء 27131 فلسطينيًا، فيما وصل عدد الجرحى إلى 66287 مصابًا، 70% منهم من النساء والأطفال بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، كما دُمرت أكثر من 60% من البنية التحتية والسكانية للقطاع الذي يواجه كارثة إنسانية خانقة.
وكشفت الأشهر الـ4 المنقضية عن تناقض الخطاب الإعلامي والسياسي والعسكري الإسرائيلي، فبعيدًا عن عنتريات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت، وخرافات وزيري أمنه القومي والمالية، بن غفير وسموتيرتيش، تبقى تطورات الميدان الدليل الأكثر تعرية لهذا البون الشاسع بين التصريحات الرنانة والأرقام الفعلية على أرض الواقع.. فما الذي تغير في قواعد اللعبة بمعركة المواجهة بين المقاومة والاحتلال؟
ثبات المقاومة
أكثر المتفائلين ما كان يتوقع أن تصمد المقاومة – المفروض عليها حصار مشدد منذ سنوات – طيلة 4 أشهر كاملة أمام جيش الاحتلال المدعوم من جيوش أمريكا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا، والمدجج بأحدث أنواع الأسلحة من شتى الأنواع، التي يتم تزويده بها منذ انطلاق الحرب، في الوقت الذي تعاني فيه حماس من تجفيف منابع التسليح.
كما أن إدارة المقاومة للمعركة طيلة تلك المدة الطويلة يعكس أمرين مهمين، الأول يتعلق بالاستعداد الكبير على مستوى التسليح، والثاني دراسة المعركة بشكل عسكري دقيق، ووضع كل السيناريوهات المحتملة والتعاطي معها كل على حدة، وهو ما يفسر تقسيمها لجهدها القتالي على مدار أيام الحرب التي تتعامل معها كأنها معارك منفصلة، لكل منها أبجدياتها وأسلوبها وتكتيكاتها التي تتناسب وطبيعتها.
فمن يصدق أن المقاومة بعد 122 يومًا من الحرب التي أنهكت بطبيعة الحال الكثير من ترسانتها العسكرية، توقع خسائر كبيرة في صفوف الاحتلال، فوفق آخر بيان للمتحدث باسم “كتائب القسام” أبو عبيدة الأحد 4 فبراير/شباط 2024 تم استهداف 3 دبابات إسرائيلية من نوع “ميركافا” بقذائف “الياسين 105” في منطقة الصناعة جنوب غرب مدينة غزة، كما دمرت المقاومة “خلال الأيام الماضية 43 آلية عسكرية كليًا أو جزئيًا، فضلًا عن إجهاز مقاتليها على 15 جنديًا للاحتلال، من نقطة الصفر”.
ونجحت المقاومة في تكبيد جيش الاحتلال خسائر بشرية غير معهودة في صفوفه، أعلن عنها رسميًا في بياناته اليومية، حيث بلغت حصيلة قتلاه 562 قتيلًا، منذ عملية طوفان الأقصى، في حين بلغت حصيلة القتلى منذ العدوان البري على غزة 225 قتيلًا، وهو الرقم الصادم لكل الأوساط الإسرائيلية وحلفائها.
ماذا عن أهداف الاحتلال من الحرب؟
مع كل بيان يومي للجيش الإسرائيلي ومن خلال التصريحات الرسمية لنتنياهو وغالانت يتم التأكيد على أن الحرب ستستمر حتى تحقيق الأهداف الـ3 المعلنة ( القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان ألا تشكل غزة تهديدًا لإسرائيل)، مؤكدين أن جيش الاحتلال يواصل قتاله ومعاركه من أجل تحقيقها، لكن وبعد 122 يومًا لم يتحقق شيء مما تم التعهد به.
فلم تتمكن قوات الاحتلال بكل ما لديها من قدرات استخباراتية محلية أو مستوردة من حلفائها في أمريكا وبريطانيا، في تحرير أسير واحد لدى المقاومة، وكل من تم إطلاق سراحه حتى اليوم كان من خلال الهدنة المبرمة مع حماس، ومن توصل إليه جيش الاحتلال منهم سقط قتيلًا بنيرانهم الصديقة.
كذلك ضمان ألا تشكل غزة منطقة تهديد للداخل الإسرائيلي، فتحول هذا الهدف إلى أمزوحة يلوكها الإسرائيليون قبل الفلسطينيين داخل أشداقهم سخرية من حكومة الكابينت، إذ إن صافرات الإنذار لا تزال تدوي في المستوطنات وتل أبيب، فضلًا عن الفشل في إعادة أكثر من 500 ألف إسرائيلي إلى مستوطناتهم في غلاف غزة خشية استهدافهم، ليبقوا داخل ملاجئهم والفنادق في قلب دولة الاحتلال محملين إياها خسائر فادحة.
أما فيما يتعلق بالقضاء على حماس، فالأمر وصل إلى دروب المستحيل، فبعدما أعلن جيش الاحتلال سيطرته الكاملة على شمال القطاع، وتفكيك الهيكل العسكري والإداري لحركة حماس هناك والاستيلاء على جميع متعلقاتهم ومن ثم انسحاب الجيش، إذ بالحركة تعيد نشر قوات من شرطتها وموظفي الخدمة المدنية بالقرب من المكاتب الحكومية ومستشفى الشفاء شمال قطاع غزة، كما بدأت في صرف رواتبهم الشهرية، حسبما نقلت وكالة “أسوشييتد برس” عن مواطنين غزيين ومسؤول في حماس.
عاجل | مراسلة الجزيرة: صفارات الإنذار تدوي في ياد مردخاي شمال قطاع غزة ومناطق أخرى في الغلاف pic.twitter.com/wyMjRaJGOd
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) February 5, 2024
الوكالة الأمريكية فسرت تلك العودة، رغم القصف الوحشي الذي استهدف شمال القطاع بأكمله على مدار 4 أشهر كاملة، والتوغل البري في معظم جنباته مدعومًا بأحدث الأسلحة الاستخباراتية، على أنها دليل على صمود حماس وثباتها وفشل كبير لقوات الاحتلال في تحقيق هدفها المزعوم.
ويعاني جيش الاحتلال من حالة ارتباك واضحة وفوضى في إدارة المعركة ميدانيًا، فبينما فشل في حسم معركة الشمال رغم الانسحاب، ويواجه مقاومة شرسة في خان يونس تكبد خلالها خسائر فادحة، يلمح اليوم إلى نقل المعركة جنوبًا حيث رفح، الأمر الذي يعكس عشوائية انهزامية وهرولة نحو الهروب للأمام.
وقاد الارتباك العسكري إلى ارتباك موازٍ على المستوى السياسي، حيث تعاظمت الانقسامات داخل حكومة الكابينت بشأن سير المعركة وتباين الرؤى عن اليوم التالي للحرب، الأمر الذي دفع جنرالات الاحتلال إلى التشديد على ضرورة الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية كأحد أهداف الحرب، بعدما تعرضت لتشققات لم تعهدها من قبل في ظل ضغوط داخلية متصاعدة ومطالبات بإسقاط الحكومة والتشكيك في إدارة الحرب وما حققته من نتائج حتى الآن.
بعد فشل القوة.. الرضوخ للحلول السياسية
منذ اليوم الأول للحرب يصدح نتنياهو وجنرالاته بأنه لا تفاوض مع حماس، وأن الاستسلام وإطلاق أسرى المحتجزين هو الشرط الوحيد لوقف إطلاق النار، لكنها العنتريات التي تضعهم جميعًا في حرج أمام الشارع الإسرائيلي، بعدما يتكشف زيفها وكذبها وتراجعهم عنها قسرًا وقهرًا.
المرة الأولى كانت إبان الهدنة السابقة في 24 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، التي بموجبها أُطلق سراح عدد من المحتجزين لدى المقاومة، حينها قال وزير دفاع الاحتلال إن استمرار الحرب وتكبيد حماس الخسائر الفادحة هو السبيل الوحيد لإجبارها على التفاوض وتقديم التنازلات.
تفاؤل إسرائيلي بشأن مفاوضات #باريس.. صفقة جديدة في الأفق بين حماس والاحتلال pic.twitter.com/IvudldQIKu
— العربي الجديد (@alaraby_ar) January 30, 2024
ورغم مرور شهرين ونصف تقريبًا على تلك الهدنة، ها هي حكومة الاحتلال تغازل حماس بصفقة أخرى، بعدما فشلت في تحقيق أهدافها بالقوة، فيما عرفت باسم “صفقة باريس” كأحد مخرجات الاجتماع الذي عقد بالعاصمة الفرنسية في 28 يناير/كانون الثاني الماضي بمشاركة “إسرائيل” والولايات المتحدة ومصر وقطر، لبحث صفقة تبادل أسرى ووقف الحرب في غزة، وهي الصفقة المقرر لها أن تتم عبر 3 مراحل، وتمتد لفترة تصل إلى 35 يومًا مع إمكانية تمديدها أكثر من ذلك.
وينتظر الوسطاء ودولة الاحتلال معًا موقف حماس وردها النهائي على تلك الصفقة بعدما باتت الكرة في ملعبها، حيث أكد رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، أنهم تسلموا المقترح وبصدد دراسته والتشاور مع كل الفصائل والمكونات الفلسطينية، لافتًا إلى أن حماس تلقت دعوة لزيارة القاهرة من أجل بحث الاتفاق، دون تحديد موعد الزيارة.
زخم داعم للقضية وملاحقة الاحتلال دوليًا
شهدت معادلة المواجهة تغيرات جوهرية بعد 4 أشهر من الحرب، حيث تزايد الزخم العالمي تجاه القضية الفلسطينية التي تحولت إلى قضية رأي عام دولي، فيما زخرت شوارع وميادين العالم بحراك جماهيري لم تعرفه القضية من قبل، بعد سنوات من النسيان والتجاهل والابتعاد عن ترمومتر المزاج الشعبي العالمي.
بل امتد الطوفان إلى داخل الأوساط السياسية والإعلامية في الدول الغربية، حيث تزايدت أعداد الداعمين لغزة والقضية برمتها من الساسة والإعلاميين والخبراء والمحللين، بينما تصدرت مسألة “حل الدولتين” طاولات النقاش في كثير من الساحات، إثر جرائم الإبادة الانتقامية التي ترتكبها قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين في القطاع والضفة.
كما أعادت القضية الفلسطينية تموضعها الإقليمي والدولي مجددًا، لتصبح المتغير المستقل الذي يقود خلفه – إلى حد ما – متغيرات تابعة عدة قادرة على إشعال الصراع وتوسيع دائرته في الشرق الأوسط، وتحريك القوى الدولية لقطع الشطرنج المختلفة من أماكنها، وهو ما يمكن سحبه على التوترات في الجبهات اليمنية واللبنانية والعراقية وتطوراتها الميدانية وتداعياتها على الاقتصاد والأمن العالميين.
– وسط أجواء ثلجية صعبة .. مظاهرة في #النرويج 🇳🇴 لـ دعم #فلسطين 🇵🇸، وفضح مجازر الأطفال التي تحدث في #غزة يومياً ..✌️🇵🇸 pic.twitter.com/qdF5XYqmBJ
— EslAm OthmAn🦅🇪🇬 (@Esll7970Gladii) February 4, 2024
وفي المقابل تعرضت الصورة الوردية، التي بذل الكيان المحتل لأجل تلميعها الكثير من الوقت والمال، للتشوهات الفاضحة، فلأول مرة منذ عقود طويلة يقف الاحتلال في قفص الاتهام على مرأى ومسمع من العالم يدافع عن جرائم الإبادة التي يرتكبها بحق الفلسطينيين، امتثالًا للدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية وألزمت الحكومة الإسرائيلية باتخاذ تدابير احترازية لوقف جرائمها المرتكبة، وذلك بعد رفض طلب سحب الدعوى والاعتراف ضمنيًا بالانتهاكات الإسرائيلية.
وأمام هذا الفشل يصر نتنياهو على إكمال الحرب لأقصى نقطة ممكنة، وتوسيع دائرة الصراع قدر الإمكان، والإبقاء على سخونة الساحة الإقليمية على أشدها، يقينًا أن ذلك قد يؤجل نهاية مستقبله السياسي ويؤخر مؤقتًا ملاحقته قضائيًا بسبب تهم الفساد المتورط فيها وفشله الذريع في إدارة المعركة، وهو الإصرار الذي يصفه ساسة إسرائيليون بأنه تغليب للمصالح الشخصية على حساب مصالح الكيان المحتل.
في الأخير يُحسب للمقاومة ما قدمته حتى الآن، وقدرتها على الصمود طيلة تلك الفترة رغم الحصار المفروض عليها عسكريًا واقتصاديًا، في مواجهة جيش مدعوم من أعتى جيوش العالم عبر جسر إمداد لا يتوقف، وهو الصمود الذي غيّر كثيرًا من قواعد الاشتباك في المنطقة وأعاد فرض معادلة توازنات جديدة، باتت فيها المقاومة ومحور الممانعة بصفة عامة رقمًا صعبًا لا يمكن تجاهله في الحاضر والمستقبل معًا.