منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية ثابتة على دعم “إسرائيل” وإنكار الإبادة الجماعية في قطاع غزة، عبر تصريحات رؤوسها الثلاث الظاهرين في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة: الرئيس جو بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومنسق مجلس الأمن القومي الأمريكي للاتصالات الإستراتيجية جون كيربي.
التبني الأمريكي الكامل لـ”إسرائيل”، دعمًا بالسلاح والمال، الذي دفع رئيسها الأمريكي إلى تجاوز الكونغرس مرتين وإمداد الاحتلال بالحرب خلال عدوانه على قطاع غزة، يدفعنا بالضرورة إلى تسليط الضوء على لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية (AIPAC)، التي جندت خلال 4 أشهر من الحرب مواردها المالية والبشرية ومصالحها للحفاظ على خط ثابت أمريكي يواجه المظاهرات الألفية التي تشهدها عواصم الولايات وأمام الكايبتول لأول مرة دعمًا لفلسطين.
“آيباك”.. حيث الصهيونية في عقر الدار الأمريكية
تأسست اللجنة العامة للشؤون الأمريكية الإسرائيلية (American-Israel Public Relations Committee) عام 1954، لتمثل اللوبي الضاغط التي يستخدمه يهود الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل توفير الدعم لـ”إسرائيل” بأشكاله كافة، توازيًا مع الضغط على الإدارة الأمريكية والمؤسسات الأمريكية الأخرى، بما يعمق التحالف الأمريكي الإسرائيلي ومنع حصول أي تحالفات أخرى قد تسبب الضرر للاحتلال الإسرائيلي.
تؤكد هذه اللجنة أن وجود “إسرائيل” مهم جدًا لحماية المصالح الأمريكية الحيوية في منطقة الشرق الأوسط، ومواجهة كل أشكال “الإرهاب” في العالم، ومنع أخطار من الممكن أن تحصل في هذه المنطقة المهمة في خريطة الإستراتيجية الأمريكية.
يشكل اليهود النسبة العظمى من أعضاء آيباك، وتحظى بشبكة علاقات تشمل مئات المؤسسات، وعددًا كبيرًا من المتبرعين الأثرياء اليهود وغير اليهود، وترى المنظمة نفسها على أنها المتحدث باسم المجموعات اليهودية في الولايات المتحدة، كالسياسيين والمنظمات ومجموعات الضغط ومراكز الأبحاث والتفكير والطلاب.
وعلى خلاف الواقع والحقائق، تسعى اللجنة إلى تعزيز فكرة أن “إسرائيل” دولة الديمقراطيات في الشرق الأوسط، وتضغط من أجل نيل المزيد من الدعم المالي بواسطة تعميق العلاقات الاقتصادية بين “إسرائيل” والولايات المتحدة، لزيادة الدعم بواسطة القروض، ثم تتحول القروض إلى هبات، حيث تعمل آيباك على شطب الديون الاسرائيلية المتوجبة للإدارة الأمريكية.
مركز صنع القرار
قد يعد الهدف الأساسي لتأسيس آيباك، هو منع الكونغرس الأمريكي من إصدار تشريعات تؤثر على الاحتلال الإسرائيلي ولو بمقدار بسيط، فتشكل اللجنة العامة للشؤون الإسرائيلية الأمريكية السد المنيع أمام استصدار هذه القوانين، تجاوبًا مع مظاهرات أو مطالبات عامة يقودها شخصيات يؤيدون فلسطين.
لذلك، تزود اللجنة كل عضو من أعضاء الكونغرس بوثائق وبيانات عن كيفية التصويت في الكونغرس في أثناء عرض اقتراح أو مشروع معين له علاقة بالاحتلال الإسرائيلي، وتستميل أعضاء الكونغرس من خلال الزيارات الخاصة ودعوتهم إلى لقاءات واحتفالات وموائد، وتتقرب من رؤساء اللجان العاملة داخل الكونغرس في سبيل ترتيب وتنظيم عمليات الاقتراع على قرارات ومشاريع القوانين، ثم تكتب لهم أجزل الشكر في بياناتها المختلفة.
ولا تخصص اللجنة دعمها لحزبٍ دون آخر من الديمقراطيين أو الجمهوريين، بل توجه جهودها على دعم الحزبين للعلاقة بين الولايات المتحدة والاحتلال، وبحسب موقعها الإلكتروني، تقول اللجنة إنها تضم لأجل هذه الغرض أكثر من 3 ملايين أمريكي مؤيد لـ”إسرائيل” من كل منطقة في الكونغرس.
تقول آيباك بكل صراحة: “نحن نقف مع أولئك الذين يقفون مع إسرائيل وإننا أكبر لجنة عمل سياسية مؤيدة لإسرائيل في أمريكا وتدعم المرشحين الأمريكيين في مراكز القرار بموارد مباشرة أكثر من أي لجنة عمل سياسية أخرى، و98% من المرشحين المدعومين من آيباك فازوا في الانتخابات العامة عام 2022”.
تمويل المرشحين
الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، الذي بكى أكثر من نتنياهو نفسه على يوم 7 أكتوبر/تشرين الثاني، كان لآيباك حصة من بكائه، وهو الذي يصنف كأثر أعضاء مجلس الشيوخ الذين تلقوا دعمًا ماليًا من المانحين الداعمين لـ”إسرائيل”، خلال توليه عضوية المجلس لمدة سبع فترات عن ولاية ديلاوير (1990 – 2009)، قبل أن يصبح نائبًا للرئيس الأسبق باراك أوباما.
ورغم التعديلات التي أُدخلت على قوانين التبرع الفردي للمرشحين السياسيين وحصرها بألف دولار، فإن آيباك أسست لجانًا من مجموعة أفراد تستطيع كل لجنة أن تتبرع بمبلغ 5 آلاف دولار، وبلغ عدد هذه اللجان ما يزيد على الخمسين.
وتشير بيانات حكومية إلى أن آيباك أكبر مانح مالي لزعيم الديمقراطيين بمجلس النواب حكيم جيفريز، ولزعيم الجمهوريين ورئيس المجلس مايك جونسون، وتبرعت المنظمة بأكثر من 50 مليون دولار لأعضاء مجلس النواب في دورة الانتخابات الأخيرة عام 2022.
وخلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كشف موقع إنترسبت الأمريكي في تقرير أن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية تبرعت للنائب الجمهوري مايك جونسون بنحو 95 ألف دولار في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وفقًا لتحليل الموقع لسجلات لجنة الانتخابات الفدرالية.
وأشار الموقع الأمريكي إلى أن آيباك تعتبر أكبر جهة مانحة لجونسون في عام 2023 بعد أن قاد تمرير حزمة مساعدات كبيرة للاحتلال الإسرائيلي، وأن معظم المدفوعات التي قبضها النائب الأمريكي جاءت بعد عملية طوفان الأقصى، وزادت وتيرتها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.
وأكد إنترسبت، أن هذا الارتفاع جاء بعد قيادة جونسون تمرير دعم كبير لـ”إسرائيل” يقدر بـ14 مليار دولار، عندما ترأس مجلس النواب، حين كافح من أجل تسريع تمرير ذلك الدعم عبر فصله عن مشروع قانون تقديم مساعدات مخصصة لأوكرانيا، واللجوء لاستخدام أموال مصلحة الضرائب لتمويله.
تمويل رحلاتهم إلى “إسرائيل”
لا يقتصر تمويل آيباك على مجال قرارات الكونغرس، بل أيضًا تموّل من خلال مؤسسات ترعاها، رحلات أعضاء مجلس التشريع الأمريكي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتقدم تبرعات لمجموعات سياسية وثقافية في الولايات المتحدة، لترسيخ الحقائق الكاذبة عن “إسرائيل”.
خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد شهر من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كشف موقع إنترسبت أسماء مؤسسات كبرى ومنظمات غير ربحية ظلت تموّل رحلات لأعضاء الكونغرس الأمريكي إلى الاحتلال، وأن هذه الرحلات تلعب دورًا مهمًا في حشد الدعم للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية داخل أروقة الكونغرس.
وقال الموقع إن ملايين الدولارات تُنفق كل عام لنقل المئات من أعضاء الكونغرس إلى الأراضي المحتلة في رحلات تستغرق 8 أيام، وتعد الرحلات المدفوعة التكاليف بالكامل مهمة لآيباك كونها تساعدها في إبقاء أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على مواقفهم الراسخة إلى جانب الاحتلال.
وأوضح التحقيق الصحفي أن تلك المجموعات الممولة لرحلات الأعضاء هي: مؤسسة كوريت، ومؤسسة سوارتز، والصندوق القومي اليهودي، ومؤسسة “ون إيت” (One 8)، ومؤسسة تشارلز ولين شوسترمان العائلية، ومؤسسة بول سينغر، وصندوق ميلتون كوبر القابل للنقض، وعقارات هيدي أوردن.
وساهم هؤلاء المانحون في تغطية نفقات 129 رحلة إلى “إسرائيل” عام 2019 برعاية صندوق التعليم الأمريكي الإسرائيلي، وبقيمة إجمالية بلغت 2.32 مليون دولار، وفق ما نقله الموقع الأمريكي عن قاعدة بيانات السجلات العامة المعروفة باسم “ليغي ستورم”، ووفقًا للإقرار الضريبي غير المنقح لعام 2019، استقطب الصندوق ملايين الدولارات من 8 مجموعات وشركات عقارية ومؤسسات عائلية خيرية.
الضغط على المعارضين
أما الجهة الأخرى من علاقة لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية بالكونغرس الأمريكي، فيكمن في تهديدها الدائم للنواب والأعضاء الذين يتعاطفون مع القضية الفلسطينية، مثل إلهان عمر ورشيدة طليب، وتيسير حملات الإعلانات ضدهم، وتفعل ذات الأمر مع المؤثرين حول العالم، كما دفعت شركات كبرى إلى سحب تعاقدها مع العارضة الأمريكية من أصول فلسطينية بيلا حديد بعد مواقفها المؤيدة لفلسطين.
وقالت صحيفة الغارديان البريطانية إن اللوبي الصهيوني في أمريكا أطلق حملة تشهيرية ضد المرشحين الديمقراطيين التقدميين مناصري فلسطين، منها نشر إعلانات تعرض وجه إلهان عمر بالفوتوشوب بجوار صواريخ حركة حماس، ما أسفر عن تعرضها للتهديد بالقتل، وأضافت الصحيفة أن هذا اللوبي “ضخ عشرات الملايين من الدولارات لهذه الحملة”.
خلال الدورة الانتخابية لعام 2022، حطمت آيباك أرقامًا قياسية من خلال طرح عشرات ملايين الدولارات في عمليات شراء الإعلانات ضد المرشحين التقدميين في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، لصالح مرشحين أكثر تحفظًا ودعمًا لـ”إسرائيل”.
ومع تصاعد الدورة الانتخابية لعام 2024، يُحتمل أن تضع آيباك ولجان تمويل العمل السياسي التابعة لها مرة أخرى، ملايين الدولارات لضرب النواب التقدميين، وهي خطوة تهدد إلى حد كبير طريق الديمقراطيين لاستعادة الأغلبية في مجلس النواب، من أجل ضمان صعود المرشحين الداعمين لـ”إسرائيل”، والتخلص من الأسماء المشهورة بمناصرتها القضية الفلسطينية.
وكتبت النسخة الإنجليزية لصحيفة العربي الجديد، أن آيباك رصدت نحو 100 مليون دولار كميزانية لهذه الحملة، التي تستهدف بها “بشكل رئيسي” الديمقراطيين التقدميين، مثل جمال بومان وكوري بوش وسمر لي وإلهان عمر ورشيدة طليب، بالإضافة إلى “الجمهوري توماس ماسي بسبب تصويت الأخير بـ”لا” على قرارات متعددة تتعلق بالعدوان على غزة.
الإعلانات الممولة
بشكلٍ صادم، تظهر نتائج استطلاع أمريكي أن أكثر من نصف الشباب الأمريكي يرون أن الحل يكمن في تفكيك “إسرائيل” وعودة كل يهودي إلى بلده، ما شكل صدمة لجهود لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، وكثفت من مسار تمويلها للجانب الإعلاني، الذي يستهدف بشكل أساسي وعي الشاب الأمريكي.
وخلال عملية طوفان الأقصى، كشف تحليل لصحيفة “بوليتيكو” الأمريكية أن منظمات داعمة لـ”إسرائيل” أنفقت، خلال العدوان على غزة، ما يقرب من 100 مرة أكثر على الإعلانات عبر منصات التواصل الاجتماعي التابعة لشركة “ميتا” في نوفمبر/تشرين الثاني أكثر منه في أكتوبر/تشرين الأول 2023، مقارنة بالمجموعات المتحالفة مع الفلسطينيين والعرب.
ويُظهر الإنفاق المشترك لأكثر من مليوني دولار على “فيسبوك” و”إنستغرام” كيف تحاول الجماعات الداعمة للاحتلال، تشكيل الرأي العام بين الأمريكيين، وخاصة الأجيال الشابة التي تشكك بشكل متزايد بشرعية وجود “إسرائيل”.
وأجرى الموقع الأمريكي تحليلًا لقاعدة البيانات عبر الإنترنت التي تتبع المجموعات التي تشتري الرسائل المدفوعة على كل من “فيسبوك” و”إنستغرام” خلال فترات زمنية محددة، وقامت بمراجعة الإعلانات التي تم عرضها في الفترة ما بين 2 نوفمبر/تشرين الثاني و1 ديسمبر/كانون الأول، بناءً على انتماءات مجموعات المناصرة إما للقضايا الإسرائيلية وإما الفلسطينية.
أحد الإعلانات التي رصدها الموقع، جاء في نصه “أخبر واشنطن، الآن هو الوقت المناسب للوقوف إلى جانب إسرائيل”، وصدر عن آيباك، وتم عرضه في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، واستهدف مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الأكبر سنًا في ولايات مثل نيويورك ونيوجيرسي وكاليفورنيا.
مشروع 7\10
استمرت آيباك في العبث بالإعلام الأمريكي وتعزيز الرواية الإسرائيلية حتى أصدرت بالتعاون مع منظمات ومجموعات ضغط يهودية في الولايات المتحدة مشروعًا باسم “7/10”، في إشارة إلى أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لـ”محاربة” ما أسمتها “معلومات مضللة ينشرها مناهضو إسرائيل”.
وشارك في المشروع، كل من لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية “آيباك”، واللجنة اليهودية الأمريكية، والاتحادات اليهودية في أمريكا الشمالية، ورابطة مكافحة التشهير، ومؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الرئيسة.
ونقل موقع “آكسيوس” الأمريكي في وقت سابق من شهر ديسمبر/كانون الأول 2023، عن المدير التنفيذي لـ”7/10″ جوش إيساي، قوله: “عمل هذه المنظمات الخمسة معًا بهذه الطريقة أمر غير مسبوق، ويظهر مدى إدراك اليهود الأمريكيين لأهمية هذه اللحظة لـ”إسرائيل” في محاربة كراهية اليهود في الولايات المتحدة وفي العالم”، على حد تعبيره.
وبينما تطرق الولايات المتحدة الأمريكية أبواب الانتخابات البرلمانية والرئاسية فيها خلال عام 2024، فإن الحقائق تنفي فرضية أن الديموقراطيين أقرب للفلسطينيين من الجمهوريين، وقد أثبت العدوان على غزة تواطأ عميقًا للديمقراطيين في تمويل ودعم الاحتلال الإسرائيلي، لكن الأكيد أن من خلفه آيباك، لن يكون منصفًا ولو لمرة لفلسطين، وسيشارك بالإبادة الجماعية.