لكلٍ منّا حظه من الجراح التي خلّفتها جرائم الانقلاب العسكري في مصر؛ وأزعم أني كنت أقل حظاً من غيري، وأكثر معافاة. نعم .. “كُنتُ” !
ليس “خالد حمزة” رقماً جديداً أضيف لأرقام المعتقلين السياسيين في سجون سلطة الانقلاب؛ جميع المظلومين تتكافأ دمائهم وحرماتهم، والله وحده يعلم السرائر، لكنّ “خالد” ليس كغيره، على الأقل بالنسبة لي!
عرفت “خالد” منتصف عام 2010، كنت حائراً، تائهاً، أبحث عن كثير من الأجوبة، لكنّي حين قابلته اكتشف أنني لم أكن قادراً على طرح الأسئلة الصحيحة ابتداءاً! وجدته ذا بصيرة حادة، كثير التواضع على سعة علمه واطلاعه، دمث الخلق إلى درجة تجعلك ترتقي معه روحياً على الرغم من أحاديث السياسة والثقافة والفكر.
“خالد” الذي درس الهندسة ثم الفلسفة وعلم النفس، تعلمت منه كيف تنتمي إلى جماعة لها طابع تنظيمي منغلق لظروفها المعقدة، وفي نفس الوقت، تنتمي إلى مشروع حضاري عمره قرون، وأمة كبيرة ذات رسالة تبحث عن دورها كفاعل تاريخي، ومجتمع مصري يكافح للتحرر من الفساد والاستبداد والتبعية.
كان لقائي بـ”خالد” نقطة تحول في مسار حياتي؛ ليس تحولاً بسيطاً أو عادياً أن تعرف ماذا تريد، أو للدقة: ما الذي يجب أن تريد، وكيف تصل إليه. كي تدركوا تأثير “خالد حمزة” يكفي أن تعرفوا أني اعتبر سنوات شبابي التي سبقت لقائنا تافهة وهامشية في مسار حياتي، وأنّ ثلاثة أعوام تقريباً مضت منذ عرفته كانت هي ما أنا عليه الآن. ليس من السهل أن تقابل مثل هذا الرجل، وليس من الوارد أن تتحمل فكرة أنه لم يعد هنا، إلى جوارك، يوجهك ويحاورك ويشاطرك كثيرمن الهموم والأفكار والأحلام. ليس من السهل أن تتقبل أنه صار خلف القضبان لأنّ حفنة من المهوسين الباقين من مخلفات الأنظمة العسكرية قرروا أن يقفزوا إلى السلطة وأن يغتصبوا الحكم ليستمروا في اغتصاب مقدرات مصر ومواردها.
من الاستثناء، في وقت التضيق والملاحقة الأمنية قبل ثورة يناير، أن تجد من يؤمن أن “صناعة الأفكار” هي (الصناعة الثقيلة) التي شُغِلَ الإسلاميون عنها منذ سنوات طويلة، وأنهم سيشعرون بهذا الخلل حين يصلون إلى الحكم خلال سنوات (كان على يقين من ذلك!).
وعلى الرغم من الآراء النقدية العميقة التي يحملها “خالد”، إلا أنه لم يتعرض يوماً لأحد في غيبته، يجادل الفكرة ولا يجرح الشخص، وينتقد الفعل دون أن يشوه الفاعل، ولا يتردد في اسداء النصيحة بذكاء وحكمة حافظت على شعرة معاوية مع كثير من مخالفيه.
يعاني “خالد” من مشكلات صحية تنهك جسده، وتتطلب رعاية متواصله، ونظام غذائي محدد، وقائمة ليست قليله من الأدوية يتناولها كل يوم. لكنّ روحه الصافية ونفسه السمحة وعزيمته المستمدة من إيمانه ورسالته، كل ذلك يمده بالكثير، بل ويفيض على من حوله من الشباب… “خالد” – لمن لا يعرفه – دائماً حوله شباب، ليسوا من الإخوان وفقط، وليسوا من الإسلاميين وفقط. ما زلت اذكر صوته الملتاع وهو يحدثني في الهاتف عقب مذبحة رابعة، عن الشباب الذي يتم الاجهاز عليه … عن جيل الثورة الذي يتم التخلص منه … عن مصر التي لن يراها كما حلم بها منذ سنوات وتجدد الحلم مع ثورة يناير. كان “خالد” أول من لفت نظري إلى “البسمة” التي تعلو وجوه الشهداء.
وددت لو كتبت عنه دون قيود، لكن ليس كل ما يُعرف يقال! يكفي أن أقرر أنه كان أزهد من عرفتهم في الشهرة والمناصب والمنفعة الخاصة، وأكثرهم بذلاً وتفانياً في أداء رسالته ومهمته التي يتقرب بها إلى الله. رأيت في وقت السراء تكالب من البعض، ورأيته يتراجع للوراء ويتوارى خلف الأنظار، دون أن يتخلف للحظة واحدة عن أي موضع يخدم دينه ووطنه.
يعرف “خالد” كثيرون غيري؛ لست أقدمهم عهداً به، ولست أكثرهم مخالطة له، لكنّي لا أبالغ بقولي أني أكثرهم معرفة به، وفهماً له. على الأقل هو سمح لي بهذا، وهو ربما من أراد هذا!
رغم كل جرائم الإنقلاب العسكري، إلا أنني لأول مرة أشعر أنه أوجعني!
حسبنا الله، سيؤتينا الله من فضله.