صاحب برنامج رؤية السعودية 2030، الموكول والمنسوب إلى الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة العربية السعودية، بروباجندا ضخمة وتسويق إعلامي وسياسي في وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية كافة، باعتباره دستور المملكة الذي سيحدد سياساتها خلال المرحلة المقبلة وخاصة بعد التداعيات المتسارعة التي جرت بالقصر الحاكم، وأقصت الأمير محمد بن نايف عن ولاية العهد وحّل مكانه أمير شاب، خرج قليلًا في تصوراته المستقبلية عن الصورة النمطية للاقتصاد السعودي، ولكنه لم يقترب من الحالة السياسية أو حتى مشروع المملكة لتعزيز السلفية، الذي كان على مدار نصف قرن من أهم الأسباب الرئيسية لشيوع وانتشار الفكر الوهابي في العالم.
أغلب التحليلات التي تناولت هذه القضية، ترى أن ابن سلمان رغم تطلعاته الحداثية، لن يستطع الاقتراب من برنامج بلاده لنشر السلفية في العالم، رغم تكلفته الباهظة التي تتجاوز 4 مليارات دولار سنويًا بحسب تقديرات بحثية، في وقت تزداد فيه الصعوبات المالية على المملكة، فضلاً عن الحنق الدولي على البرنامج باعتباره أحد مكونات نشر الانعزالية والتطرف وحجب المسلمين عن الذوبان في العولمة والمجتمع العالمي، وترجع التحليلات ذلك إلى أطر ثابتة تضع هذا البرنامج ضمن أهم مفردات سياسات السعودية الخارجية، والتي تهدف من خلاله لضرب عصفورين بحجر واحد.
من ناحية تضع عقبة شرعية أمام دعوات التحول الديمقراطي، من ملكية مطلقة إلى دستورية مُسايرة لسنن التطور والحداثة، ومن ناحية أخرى تضمن الصمود بقوة من خلال مشروعها السلفي، أمام المشروع الإيراني الشيعي، وتيارات الإسلام السياسي وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، بما يضمن لها الحصانة الدينية في مواجهة اللاعبين الدينيين على نفس الميدان، بالإضافة إلي مساعدة السلفيين الوهابيين بالمال لخوض النزال السياسي بعد عقود من تقوقعهم بعيدًا عن أي تفاعل سياسي، وبات ذلك واضحًا بشدة بعد ثورات العربي، وخاصة في اليمن ومصر والكويت، فيما ما زال ممثلوهم في دول أخرى يقاتلون لدخول المعترك السياسي، كما هو الحال في سوريا.
صحف هندية أشارت إلى امتلاك السعودية برنامجًا ضخمًا قيمته 35 مليار دولار لبناء مساجد ومدارس دينية في جنوب آسيا
“إسرائيل” تفتح الملف مجددًا
قبل أيام عزز هذه الاستنتاجات القديمة مركز “بيجن – السادات”، ونشر دراسة بموقعه الإلكتروني خلص فيها إلى استحالة إيقاف ولي العهد السعودي برنامج بلاده لتعزيز السلفية في العالم، باعتباره الكنز والشريان الذي يمد نفوذ آل سعود بين المسلمين ويربطهم نفسيًا وعقائديًا بالمملكة، واعتبر المركز البرنامج واحدًا من أهم برامج تغيير العالم الذي شهده التاريخ، مرجعًا ذلك إلى آليات عملية تدوير الفكرة السلفية بشكل دائم من خلال أئمة المساجد الذين يسوقون النسخة السعودية ومشروعها السلفي من المنابر المدعومة سعوديًا والتي ينفق عليها بسخاء في جميع أنحاء العالم.
واستند المركز إلى نتيجة مفادها أن قوة الإسلام الراديكالي مقارنة بالإسلام المعتدل، زادت بشكل حاد في دول العالم أجمع، وأشار إلى أن الزيادة الملحوظة في استخدام الحجاب والنقاب واللحى الطويلة يعد دليلاً قطعي الثبوت والدلالة على عدم نجاح أعتى دول الحداثة في تغيير عقائد الكثير من المسلمين تجاه نظرتهم للدين والحياة، بسبب العمليات المستمرة لتدعيم الصورة الذهنية والتي يقوم بها أئمة المساجد الذين يعملون بجد وتفان لزرع السلفية السعودية في الوجدان الإسلامي وجعلها أسلوب حياة لا يمكن تجاوزه.
ورغم اعتراف الدراسة الإسرائيلية، أن البرنامج السعودي لا يعطي خلفيات للإرهاب ولا يروج للمنظمات الإرهابية بل يحاربها وعلى نطاق واسع، فإنها اعتبرت أن المشروع السلفي السعودي، يوفر دعمًا وتعاطفًا شعبيًا مع الجماعات الإسلامية التي ترى في محاربة الغرب وتفجيره واقتلاع عقائده العلمانية من جذورها مهمة موكولة إلى الدين الإسلامي.
كانت الثورة الإسلامية في إيران ساعة الصفر التي جعلت السعوديين يستشعرون الخطر، فتولدت الحاجة إلى مشروع سني يقف سدًا منيعًا أم الطموح الجامح للفرس
كما خلصت الدراسة إلى الاستفادة الكبرى الذي حققها برنامج نشر الوهابية للأسرة الحاكمة في السعودية طيلة عقود من الزمن، وساعدها على مواصلة وحدتها طويلة الأمد بشكلٍ ملحوظٍ إلى ما بعد جيل أبناء الملك المؤسس، ويمكن استنتاج ذلك ببساطة من عملية تصعيد ابن سلمان وليًا للعهد دون أدني مشكلة أو انقسام رغم تجاوز الأمير الشاب لجيل بأكمله كان يرى في تصعيده إلى سدة الحكم عملية طبيعية وتسلسل منطقي في نقل القيادة.
كيف نشأ برنامج السلفية السعودي؟
في عام 1979 جاءت الثورة الإسلامية في إيران بالخميني وكانت ساعة الصفر التي جعلت السعوديين يستشعرون الخطر، فتولدت الحاجة إلى مشروع سني يقف سدًا منيعًا أم الطموح الجامح لإيران، وبشكل متسارع تم تدشين البرنامج السعودي لتصدير السلفية وانطلق يجوب بلدان العالم، ولم ينتبه لأخطاره الكثير من القوى الدولية والإقليمية، إلا بعد ظهور الجماعات الدموية التي استحلت دماء الشرق والغرب.
نشأت الوهابية على نزعات احتجاجية ذات طابع طائفي، وحاولت فرض استقلالية تامة عن العلاقات الاجتماعية السائدة في أي بلد تتسلل إليه عبر تدين طائفي راديكالي، يرفض مفاهيم الحريات إلى أقصى حد، ويشكل جهازًا عقائديًا يشجب كل محاولة تجنح للحداثة، ويشد الوثاق للحفاظ على العادات والسلوكيات الدينية المتشددة، كما يرفض أي مذهبية دينية، وخاصة لو كانت أفكارًا مستوردة من دولة تميل إلى الاعتدال والاندماج في مفاهيم المجتمع الحر.
وتعتبر الوهابية من أهم ثوابت الشرعية السياسية والدينية للنظام السعودي، وتوفر المؤسسة الدينية الرسمية التي تدين بالوهابية في المملكة، الإطار الشرعي والإيديولوجي لآل سعود في السلطة، وفي سبيل ذلك لا تنفي السعودية عن نفسها الصفة الدينية للدولة، ولا تنكر غياب معالم الدولة المدنية الحديثة عن آليات الحكم فيها. فطوال العقود الماضية كانت جهات صنع القرار السعودي، ترى أن التحالف مع المؤسسة الدينية هو الصيغة التاريخية الوحيدة المضمونة لحفظ الاستقرار السياسي وحماية الملكية المطلقة في البلاد، لذا يتمتع رجال الدين بقوة وهيبة داخل الدولة، وغالبية أفراد الأسرة الحاكمة يتجنبون مواجهتهم أو الدخول في صراعات معهم.
أئمة المساجد يسوقون للوهابية من المنابر المدعومة سعوديًا والتي ينفق عليها بسخاء في جميع أنحاء العالم
ومشروع نشر السلفية الوهابية فلسفة تخوض فيها الرياض بشكل معلن ولا تخفيه، وتقدم الدعم السخي للمؤسسات الدعوية في الخارج وتبني المعاهد والجمعيات العلمية التي تروج للفكر السلفي الوهابي دون أدنى مقاومة من الأنظمة العربية التي تبارك المشروع السعودي بل وتسعى لتوظيف هذا الفكر والتيارات التي تمثله ضد التيارات العلمانية والدينية المعارضة لها.
أصدقاء الوهابية ينقلبون عليها
تخلصت بعض الدول مؤخرًا من قيود الدبلوماسية ولغة المصالح النفطية، وبدأت تشير علانية إلى خطورة نشر الوهابية المتشددة، وسعت واشنطن على وجه التحديد لتحجيم الفكرة عبر الضغط على قيادات المملكة لتقليل النفقات ببعض البلدان، ومنعها في بلدان أخرى مثل إندونيسيا والهند باعتبارهما يضمان ربع المسلمين في العالم أجمع، نحو 400 مليون مسلم.
وتتخوف الولايات المتحدة من عواقب البرنامج السعودي على تطرف المجتمعات الإسلامية بإندونيسيا والهند في ظل الصراع الدائر هناك بين الإسلام المعتدل والإسلام الراديكالي، وتغليب الكفة لصالح الأول حتى الآن، ويربط معظم الخبراء الغربيين عدم شيوع التطرف في إندونيسيا والأقلية المسلمة في الهند، بشرط تحييد استخدام المبالغ السعودية التي تعمل على إحداث الفارق لصالح المنهج المتشدد، وهو الأمر نفسه الذي أثارته بعض الصحف الهندية وأشارت إلى امتلاك السعودية برنامجًا ضخمًا قيمته 35 مليار دولار لبناء مساجد ومدارس دينية في جنوب آسيا، لخدمة الجاليات المسلمة الرئيسية في الهند وباكستان وبنجلاديش.
تخلصت بعض الدول مؤخرًا من قيود الدبلوماسية ولغة المصالح النفطية، وبدأت تشير علانية إلى خطورة نشر الوهابية المتشددة
كما تحدث مانويل فالس رئيس وزراء فرنسا السابق دون مواربة، وإن لم يختص البرنامج السعودي وحده بالأزمة، فقبل أشهر قليلة من مغادرة منصبه هذا العام، هاجم انتشار الأفكار المتطرفة للسلفية في أوروبا، واعتبر أن عملية بروكسل الإرهابية التي هزت العاصمة البلجيكية قبل عام، وخلفت عشرات القتلى بجانب تدمير نفسي مستمر حتى الآن لعائلات الضحايا، من شأنها فتح مسألة بناء المساجد وتمويلها الخليجي في الدول الأوروبية خصوصًا فرنسا وبلجيكا، والأخيرة احتوت الوهابية منذ سبعينيات القرن الماضي، عندما اضطرت الدولة التي تستضيف مقر الاتحاد الأوروبي وعدد من المنظمات الدولية الأخري، إلى شراء نفط رخيص من السعودية مقابل الموافقة على إقامة مساجد للأئمة والدعاة، حتى تتمكن من تنفيذ برنامجها الطموح في الصناعة.
في تحقيق نشره موقع “أوراسيا ريفيو” الآسيوي قبل عام، كشف ملامح تقرير للجنة من مجلس الشيوخ الأمريكي رصدت إنفاق السعودية خلال السنوات الـ20 السابقة وتحديدًا منذ عام 1980 إلى عام 2000، نحو 87 مليار دولار على تعزيز الفكر الوهابي في جميع أنحاء العالم، وشمل ذلك تمويل 210 مركز إسلامي و1500 مسجد، و202 معهدًا دينيًا.
وقال الموقع إن المبالغ التي تنفقها الحكومة السعودية عبر عدة جبهات على هذه المؤسسات الموجهة، تصل إلى 3 مليارات دولار سنويًا، واعتبر “أوراسيا ريفيو” أن الوهابية التي ترعاها السعودية، مدرسة فكرية مسيسة وخطيرة للغاية هدفها الرئيسي مواجهة النفوذ المتزايد للقيم الليبرالية الحديثة، وقبل كل شيء مواجهة فكرة الديمقراطية نفسها، فتنزيل المسألة في إطار ديني ربما يكون أفضل طريق للهروب من محاججة مدنية، تعتبرها أنظمة الحكم الدينية “بدعة” تكشف عن سوء طوية الإنسان المعاصر والحداثي.