تستغل جماعات يهودية متطرفة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، وغياب الخطط الرسمية للمرحلة التالية، لتطالب بالاستيلاء على قطاع غزة واستيطانه، وبرزت تلك الأصوات خلال مؤتمر الترويج لإعادة الاستيطان في غزة وشمال الضفة الغربية، الذي نظمه حزب القوة اليهودية اليميني المتطرف في 28 يناير/ كانون الثاني الماضي، بمشاركة ما يقرب من ثلث وزراء الحكومة الإسرائيلية، وسط انقسامات بشأن جدوى توقيته.
قوبل المؤتمر بتنديد من واشنطن ولندن وباريس وغيرها، فوصفت الإدارة الأمريكية تصريحات المشاركين بالمؤتمر بأنها متهورة وغير مسؤولة، وهو الموقف ذاته الذي أعلنته المعارضة الإسرائيلية على لسان زعيمها يائير لبيد، بقوله إن “الحكومة الأسوأ في تاريخ إسرائيل تبلغ مستوى أكثر انحطاطا، مع عقد مؤتمر من هذا القبيل، الذي يضرّ بإسرائيل على الساحة الدولية”.
لحظة انفجار أخرى
يجري الحديث عن توجُّهات اليمين الإسرائيلي في حكومة نتنياهو، وتحديدًا شخصيات متطرفة فيه تدعم تعزيز الاستيطان وإعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة، بحسب الكاتب السياسي شرحبيل الغريب.
وفي حديثه مع “نون بوست”، يحذّر الغريب من أن هذا المؤتمر قد يكون محاولة لتوفير الغطاء والدعم لاستكمال العدوان، بإعادة الاستيطان ونقل غزة إلى سيطرة أمنية إسرائيلية رغم المعارضة الدولية لمثل هذا الأمر، ويؤكد الغريب أن مثل هذا التوجه سيكون مكلفًا لـ”إسرائيل”، وسترفضه أطراف إسرائيلية أيضًا لإدراكها خطورة هذا المخطط وتكلفته.
ويشدد على ضرورة التصدي لهذه الخطط عبر تحشيد المواقف الدولية المضادة أولًا، وقطع أي جهود تبذَل لتطوير مخرجات هذا المؤتمر، فالموقف الأمريكي ورؤيته تجاه المنطقة هامّان جدًّا، خاصة في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ويتابع القول: “كذلك يجب تفعيل الموقف العربي الرسمي تجاه القضية الفلسطينية ودوره تجاه أطماع “إسرائيل” في المنطقة، واتخاذ مواقف متقدمة تضمن لجم تل أبيب عن مخططاتها الرامية إلى إعادة الاستيطان”.
ويحذّر الكاتب السياسي من أن أي تنفيذ عملي بشأن إعادة الاستيطان سيشكّل شرارة جديدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسيُبقي المنطقة مشتعلة وفي حالة مواجهة مباشرة مع “إسرائيل”، وسينعكس هذا الصراع على المنطقة برمّتها، فهدوء غزة فيه ارتباط وثيق بالأمن القومي العربي والإقليمي.
كما يدعو الغريب السلطة الفلسطينية إلى بذل جهود رسمية مكثّفة على صعيد ممارسة الضغوط عبر الدول الصديقة، وتحشيد موقف عربي موحّد من جهة، وإثارة القضية من خلال السفارات ومخاطبة كل دول العالم عن خطورة توجهات حكومة نتنياهو، وتفعيل القضية في كل المحافل الدولية والحقوقية بهدف استصدار قرارات تمنع “إسرائيل” من الإقدام على هذا المشروع الخطير من جهة أخرى.
من جانبها، أدانت السلطة الفلسطينية مؤتمر الاستيطان، واعتبرت أن الحدث “يؤيد صراحة وعلنًا الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والترحيل القسري للشعب الفلسطيني”، فيما قالت حركة حماس إن تنظيم مؤتمر في “إسرائيل” يدعو إلى ضمّ الضفة وغزة والاستيطان فيهما، يكشف نوايا “جريمة التهجير والتطهير العرقي”.
مصير سكّان غزة
فيما يعاني سكان قطاع غزة من واقع إنساني مرير نتيجة الحرب، ويواجهون مجاعة حتمية وكارثة غير مسبوقة، تنشغل الدوائر الإسرائيلية في شأن كيفية استغلال الأوضاع، وفرض سياسة الأمر الواقع في ربوع القطاع.
يستبعد أستاذ القانون الدولي في الجامعة العربية الأمريكية، الدكتور رائد أبو بدوية، إمكانية تطبيق فكرة الاستيطان حاليًّا في قطاع غزة رغم إقامة المؤتمر، ويعتبرها خطوة غير واردة ولا يمكن تحقيقها لأسباب عديدة.
ويوضّح أبو بدوية في حديثه لـ”نون بوست”، أن خروج شارون من مستوطنات غزة عام 2005، كان وفق تفاهم وأوراق وضمانات بينه وبين الإدارة الأمريكية، ومن غير المرجّح خرقها في الوقت الراهن.
ويضيف أستاذ القانون الدولي أن غزة تشكّل مخاطر وأعباء ديموغرافية مع وجود 2 مليون فلسطيني، وبالتالي لا توجد مطامع في الأرض، وهذا ما دفع شارون إلى الانسحاب أحادي الجانب آنذاك.
ويشير أبو بدوية إلى أن التصريحات التي أُثيرت مؤخرًا عن الحكم العسكري في غزة، قد تفتح الباب أمام عودة الاستيطان إلى القطاع، لكنها تصريحات مرفوضة وغير واقعية، وليس لها عوامل شعبية أو سياسية أو أمنية، وحتى وزير الحرب غالانت أعرب عن رفضه لهذه الفكرة.
وينوّه إلى أن التصريحات الأمريكية والأوروبية بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، تؤكد عدم منطقية دعوات الاستيطان كونها تغريدًا خارج السرب، وتواجهها معارضة داخلية إسرائيلية وإقليمية ودولية.
ويرجّح أبو بدوية أنه في حال عودة الاستيطان، فهذا يعني تصاعد التوتر في قطاع غزة بشكل أكبر، والذهاب إلى تصعيد خطير في المنطقة، وهذا ما لا ترغب به حكومة الاحتلال.
استهداف الضفة الغربية
يقول القيادي في حركة حماس محمود مرداوي، إن نتنياهو بحاجة إلى استمرار الحرب على غزة لاعتبارات تتعلق بحماية أمنه الشخصي ومكانته السياسية، ورغم أن التيار الديني اليهودي لا يرغب باستمرار الحرب على غزة، فإنه يعتبرها ممرًّا لمعركة الضفة الغربية.
ويبيّن مرداوي في حديثه لـ”نون بوست”، أن الهدف الحقيقي للاستيطان هو الضفة الغربية، كونه قابلًا للتطبيق على أرض الواقع بخلاف قطاع غزة، ويلفت إلى أن التحدي الحقيقي اليوم هو مشروع الاستيطان في الضفة، فهناك تجري اليوم مشاريع الضمّ والترحيل والتهجير، إذ وجد الاحتلال فرصة سانحة وأراد ترجمة أقواله إلى أفعال، في ظل قبول للضمير العربي وإذعان للمنظومة الدولية والأممية.
ويرجّح مرداوي وقوف المنظومة الدولية والإقليمية في وجه هذا المشروع، ليس حبًّا لفلسطين ولا دفاعًا عن السلطة الفلسطينية، إنما لحماية مصالحها من أتون حرب دينية قد تتفجر في المنطقة.
أما فيما يخص البُعد السياسي، يعتقد مرداوي أن كل الدول المجاورة لا تريد أن تصبح هذه الحرب مفتوحة، وبالتالي تضغط على الولايات المتحدة التي ترى أن مصالحها ستتعرّض للخطر، ما يدفعها للمسارعة إلى منع هذا الأمر.
وينوّه مرداوي إلى أن واشنطن تحاول إطفاء النار تحت الرماد، فأي عملية تهجير قد تحوّل المنطقة إلى بركان سيُغرق المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط على حساب الاهتمام الأمريكي، لمواجهة بكين في بحر الصين ونفوذها بالمنطقة.
رغم المعارضة الدولية الحاليّة لعودة الاستيطان، كونها تخالف القانون الدولي وتهدد السلام الإقليمي، إلا أن الأصوات اليمينية في الداخل الإسرائيلي ما زالت تصر في الدعوة إلى قبولها وتحقيقها، كجزء من محاولاتها في رسم صورة نصر وهمية على طوفان الأقصى، وإنشاء ما يوصف بـ “إسرائيل الكبرى”، دون أن تراعي تداعيات هذا القرار على خزينتها أو سمعتها الدولية أمام الرأي العام.