شكلت ليبيا منذ انطلاق ثورة 17 فبراير في عام 2011، ساحة للصراع الإقليمي والدولي، نظرا لموقعها الاستراتيجي المؤثر في المنطقة وما تملكه من ثروات ومقدرات نفطية وغيرها.
وكانت فرنسا من بين الدول التي كان لها دورا بارزا بدعم الثورة الليبية في بداياتها، ومع تطور الأحداث وتعاقب الحكومات في البلاد، كانت أثار الدور الفرنسي واضحا على الساحة السياسية والعسكرية في ليبيا.
دعم كبير للثورة
منذ الأيام الأولى لانطلاق ثورة فبراير في المنطقة الشرقية، وما واكبها من عمليات قمع وقتل للمتظاهرين من قبل النظام القذافي، اقترحت باريس على شركائها الأوروبيين تطبيق عقوبات ضد نظام معمر القذافي.
ومنذ ذلك الحين شاركت فرنسا بشكل قوي في مفاوضات مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة في الـ 26 فبراير 2011، وذلك لتحديد العقوبات ضد نظام القذافي ودراسة إمكانية إجراء منطقة حظر جوي على ليبيا، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.
جرى في 17 مارس تبني قرار 1973 الصادر من مجلس الأمن الدولي، الذي ينص على إنشاء منطقة حظر جوي في الأجواء الليبية (باستثناء الرحلات الجوية الإنسانية)، وذلك لحماية المدنيين ضد الضربات الجوية من نظام القذافي.
وفي العاشر من شهر مارس من العام ذاته، أعلنت باريس اعترافها بالمجلس الوطني الانتقالي، لتكون أول دولة تعترف بالمجلس الانتقالي كممثل شرعي وحيد لليبيا، وطالبت بشن غارات جوية محدودة على قوات القذافي مع تواصل الأخير شن غارات جوية كثيفة على منطقة رأس لا نوف بالهلال النفطي.
وبمبادرة خاصة من فرنسا والمملكة المتحدة، جرى في 17 مارس تبني قرار 1973 الصادر من مجلس الأمن الدولي، الذي ينص على إنشاء منطقة حظر جوي في الأجواء الليبية (باستثناء الرحلات الجوية الإنسانية)، وذلك لحماية المدنيين ضد الضربات الجوية من نظام القذافي.
كما يعطي هذا القرار الإذن لجميع دول الأعضاء بمجلس الأمن لاستعمال كافة الوسائل اللازمة لحماية المدنيين واحترام منطقة الحظر الجوي المفروضة على البلاد، إضافة إلى تشديد الحظر على الأسلحة وإمكانية تفتيش القوارب والسفن القادمة من وإلى ليبيا، بحسب نص قرار 1973.
وفي يوم 19 مارس 2011، نفذت فرنسا بمشاركة المملكة المتحدة وحلفاء أخرين، أولى ضرباتها العسكرية الجوية ضد قوات معمر القذافي التي كانت متجهة نحو مدينة بنغازي شرق البلاد، وذلك بعد عقد قمة باريس، وبأمر خاص من رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك نيكولا ساركوزي.
وزار في منتصف سبتمبر من العام نفسه، الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، رفقة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في ذات الوقت، إلى ساحة التحرير في بنغازي، واستقبلتهما حشود غفيرة من أهالي المدينة، وخاطب ساركوزي الحضور قائلا: “أردتم السلام، أردتم الحرية، تريدون التقدم الاقتصادي، فرنسا وبريطانيا وأوروبا ستكون إلى جانب الشعب الليبي”.
الدعم العسكري
وفي طور الدعم الفرنسي لليبيا بعد ثورة 17 فبراير، وقعت ووزارة الداخلية الليبية في الأول من أكتوبر عام 2013، اتفاقية مع شركة “سيفيبول” الفرنسية في مجال الأمن الداخلي لتدريب ألف شرطي على معالجة احتشاد الجمهور بوسائل ديمقراطية.
أبدت باريس مخاوفها من انتقال السلاح من ليبيا إلى الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة بمالي والجزائر، بسبب ضعف تأمين الحدود بين تلك الدول المجاورة
كما تعاونت فرنسا مع القوات البحرية وسلاح الجو الليبي، ووقّعت مع الأخير اتفاقية في بداية يناير عام 2014، لبيع طائرة (ميراج إف1) المتطورة، وتدريب طيارين وفنيين ليبيين في فرنسا، وقد استقبلت مدارس عسكرية بارزة في فرنسا العديد من الضباط الليبيين.
وفي سياق متصل بالشأن الليبي، شكل سقوط مدينة غاو شمال مالي في يد الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة في 27 يونيو عام 2012، بداية لسيطرة تلك الجماعات المسلحة في كل المدن الرئيسية في المنطقة، وكانت نقطة تحول تدخلت على أثره الحكومة الفرنسية عسكريا في مالي، وساعدت بتحرير مناطق عدة من قبضة تلك الجماعات، وأطلقت في منتصف يوليو 2014، عملية عسكرية واسعة لمكافحة التنظيم بمنطقة الساحل وشمال إفريقيا، بالتعاون مع تشاد ومالي.
وأبدت باريس مخاوفها من انتقال السلاح من ليبيا إلى الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة بمالي والجزائر، بسبب ضعف تأمين الحدود بين تلك الدول المجاورة، وانتشار المهربين وتجار السلاح، بالإضافة إلى ارتباط بعض المجموعات المسلحة في ليبيا بتنظيمات مسلحة بإفريقيا، بحسب تقارير نشرتها وسائل إعلامية.
تناقض فرنسي
وبعد أن كانت فرنسا أول دولة تعلن اعترافها بالمجلس الانتقالي الليبي، كذلك أعلنت باريس دعمها في مرات عدة للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني المنبثق عن الاتفاق السياسي الموقع في مدينة الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر 2015، وذلك بعد عقد العديد من جلسات الحوار بين الفرقاء الليبيين برعاية الأمم المتحدة.
ورغم اعترف فرنسا بالاتفاق السياسي ودعمها لحكومة الوفاق الوطني، إلا أنها لم توقف دعمها العسكري لقائد عملية الكرامة خليفة حفتر الذي يسيطر على معظم مدن في شرق البلاد، والذي يعد من أهم العقبات التي تقف أمام تنفيذ اتفاق الصخيرات المدعوم دوليا، باتهاماته المتكررة للمجلس الرئاسي “على أنه يضم شخصيات إسلامية تدعم مجلس شورى ثوار بنغازي”، ورفضه الانصياع للإرادة السياسية، ومطالبته بتعديل مسودة الاتفاق لاعتماده من المجلس النواب.
فرنسا كانت تقرّ فقط بأن طائراتها تحلق في سماء ليبيا لجمع معلومات ضمن مجهودها لمكافحة تنظيم الدولة في المنطقة
ونشر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، في التاسع من يوليو 2016، تسجيلات صوتية مُسربة لمحادثات جوية عسكرية في مدينة بنغازي، كشفت عن دعم عسكري فرنسي وغربي للواء المتقاعد خليفة حفتر شرقي البلاد، ووجود غرفة عسكرية غربية بقيادة فرنسية هناك.
وكانت باريس قد أعلنت على لسان الرئيس السابق فرانسوا أولاند في 20 يوليو من العام الماضي، عن مقتل ثلاثة من جنودها، بعد أن أسقطت قوات “سرايا الدفاع عن بنغازي” مروحية في منطقة المقرون التي تبعد عن بنغازي بنحو 65 كيلومتر غربا، أثناء تقدمها نحو المدينة.
في حين قال قادة عسكريين من عملية الكرامة شرق البلاد، إن الفرنسيين الذين لقو حتفهم غرب بنغازي هم “مستشارين عسكريين” لقيادتها، فيما أعلنت مسبقا “سرايا الدفاع عن بنغازي” أنها تتعرض لقصف من طائرات رجحت أنها فرنسية، مما أسفر عن مقتل 13 من عناصرها.
وذكرت صحيفة “لبيراسيون” الفرنسية، أن فرنسا كانت تقرّ فقط بأن طائراتها تحلق في سماء ليبيا لجمع معلومات ضمن مجهودها لمكافحة تنظيم الدولة في المنطقة، وفق قولها.
مبادرات باريس
وفي خطوة غير متوقعة لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين، احتضنت العاصمة الفرنسية باريس في أواخر يوليو الماضي لقاء جمع بين رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السراج المدعوم دوليا، وقائد قوات الجيش التابع لمجلس النواب بطبرق اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وأعلن الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون، أن الطرفين، اتفقا على إجراء انتخابات في مارس القادم، مشيداً بـ”شجاعتهما التاريخية”، على حد قوله.
وبجهود فرنسية، تبنى السراج وحفتر للمرة الأولى، بيانا مشتركا للخروج من الأزمة الليبية، ودعا فيه إلى وقف إطلاق النار، وإجراء انتخابات في أسرع ما يمكن.
ويرى مراقبون، أن اتفاق باريس يعد نجاحا كبيرا يحسب للحكومة الفرنسية، بعد فشل المبادرات الدولية والإقليمية السابقة للجمع بين الشخصيتين، من بينهما اجتماع القاهرة وأبوظبي.
دعت الخارجية الفرنسية، جميع الأطراف الليبية إلى المحافظة على التزامها التام بالحوار السياسي، من أجل إجراء التعديلات اللازمة على اتفاق الصخيرات قبل تاريخ انتهاء مدة الاتفاق المحدد في 17 ديسمبر المقبل
وأكدت وزارة الخارجية الفرنسية، أن كل الأطراف الليبية التي التقى بها الوزير جان إيف لودريان خلال زيارته إلى ليبيا في الرابع من سبتمبر الجاري، أثنت على اتفاق باريس بين فائز السراج وخليفة حفتر، اللذين أكدا التزامهما بالتقيد بتنفيذ كافة بنود الاتفاق، وأشارت الوزارة إلى أن لودريان أكد للأطراف الليبية مواصلة تعاون فرنسا في المجال الأمني والإنساني لتحقيق الاستقرار في البلاد.
وذكر بيان الخارجية الفرنسية، أن لودريان أكد خلال زيارته أيضا، أن تعزيز قدرات الدولة الليبية والمصالحة الوطنية هما أولوياتهم لمحاربة الجماعات “الإرهابية” على نحو فاعل، ومن أجل تفكيك شبكات المهربين وتحسين ظروف المهاجرين مع الحرص على مراعاة حقوق الإنسان، حسب قوله.
كما دعت الخارجية الفرنسية، جميع الأطراف الليبية إلى المحافظة على التزامها التام بالحوار السياسي، من أجل إجراء التعديلات اللازمة على اتفاق الصخيرات قبل تاريخ انتهاء مدة الاتفاق المحدد في 17 ديسمبر المقبل، وفق ما ذكر البيان.
وستوضح الأيام القادمة مدى نجاح السياسة الفرنسية في ليبيا، أم سيؤول مصير اتفاق باريس لاتفاق الصخيرات، ويبقى صريع تجاذبات وتناقضات الأطراف الليبية، مع تعّنت البعض ورفضها التنازل، في ظل معاناة يعيشها المواطن جراء الانقسام السياسي الذي أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي والذي أثر سلبا على جوانب الحياة الأساسية.
المصدر: ليبيا الخبر