يعاني سوق الصرف المصري من حالة ارتباك شديدة التطرف خلال الساعات القليلة الماضية، ففي أيام قليلة قفز سعر الدولار أمام العملة المحلية (الجنيه) ليصل إلى أكثر من 70 جنيهًا للدولار الواحد، في السوق السوداء، بفجوة سعرية عن سعر صرفه بالبنوك الرسمية (30.9 جنيه) وصلت إلى 130%، ثم عاود بعد 48 ساعة فقط الهبوط المفاجئ فاقدًا أكثر من 15 جنيهًا ليصل إلى 55 جنيهًا مقابل الدولار، فيما تراجع سعر الذهب في الفترة ذاتها قرابة 17%.
يتزامن هذا الهبوط مع تداول أنباء تشير إلى ضخ عشرات الملايين من الدولارات في البنوك والسوق المصري قادمة من محصلات استثمارية لبيع أو تأجير أصول وقرى سياحية وقروض ومنح، فضلًا عن تشديد القبضة الأمنية على السوق السوداء، الأمر الذي لجمها بشكل أو بآخر.
ويرى خبراء الاقتصاد أن هذا الصعود المفاجئ الذي استتبعه هذا الهبوط السريع لا يعطي بأي حال من الأحوال أي مؤشرات بشأن وضعية الاقتصاد المصري الغارق في أزمات خانقة، في ظل موجات جنونية من ارتفاع أسعار السلع والخدمات أحدثت حالة من الشلل في الأسواق وصعّدت من وتيرة الاحتقان والغضب لدى الشارع المصري.. فهل تُسعف محاولات إنقاذ الاقتصاد قبل فوات الأوان؟
حالة ارتباك
في علوم الاقتصاد تُحدث مثل تلك التحركات السريعة في سعر الصرف حالة من الارتباك الشديد داخل الأسواق، فالارتفاع المفاجئ دون مبرر ثم الانخفاض الشديد دون سبب مقنع يجعل المشهد رخوً،ا ويفضي إلى حالة شلل عامة في حركة البيع والشراء بكل المجالات المرتبطة بالعملات الأجنبية.
ومن أكثر القطاعات ذات الصلة بسعر الدولار تجارة الذهب، التي تأثرت بشكل كبير جراء حالة الفوضى التي يحياها سوق الصرف، وهو ما دفع كثير من التجار إلى وقف حركة البيع والشراء، بعد انخفاض سعره بنسبة 17% في يومين فقط، وكان قبلها قد ارتفع بنسب أعلى من ذلك بشكل مفاجئ أيضًا.
( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) pic.twitter.com/d0Zb8KDtc1
— نشأت الديهي (@eldeeehy) February 1, 2024
ويرى أشرف الصايغ أحد تجار الذهب بوسط القاهرة، أن الحل الأفضل الآن هو وقف حركة البيع أو الشراء لحين انجلاء الموقف واستقرار سوق الصرف، لافتًا في تصريحات لـ”نون بوست” إلى أن سعر الغرام (21) الأكثر شعبية بين المصريين انخفض من 4050 جنيهًا السبت 3 فبراير/شباط 2024 إلى 3500 بنهاية تعاملات الاثنين 5 فبراير/شباط 2024، معتبرًا أن في ذلك خسارة كبيرة على التاجر الذي كان يتعامل قبل يومين على أساس تسعير غرام الذهب بسعر الدولار 70 جنيهًا وفجأة يجده 50 جنيهًا.
الموقف ذاته شهده قطاع مواد البناء خاصة حديد التسليح الذي تراجع سعره بمقدار يتراوح بين 1000 إلى 5 آلاف في الطن الواحد، ما دفع بعض تجار التجزئة للاحتفاظ بما لديهم من مخزون تم شراؤه بالسعر القديم الذي وصل إلى 60 ألف في بعض الأصناف، انتظارًا لما ستؤول إليه الأوضاع وتجنبًا لتكبد خسائر كبيرة إذا ما تم البيع على أساس السعر الجديد.
#عاجل| 6 فبراير 2024.. تراجع أسعار الذهب 50 جنيها خلال منتصف اليوم.. وعيار 21 يسجل 3450 جنيها
https://t.co/jVTeGU3bgS pic.twitter.com/8ZPGae5pjv
— Shorouk News (@Shorouk_News) February 6, 2024
صعود مفتعل.. كذلك الهبوط
يميل البعض إلى سردية أن ما يحدث في سوق الصرف خلال الآونة الأخيرة أمر مفتعل لتحقيق أهداف ما لا علاقة لها بسعر الصرف الحقيقي، الأمر أشبه بسوق المضاربات بين التجار والدولة والمواطنين، فالدولة تدخل أحيانًا لرفع سعر الصرف بنسب ما ثم تخفيضه بهذا الشكل لتبرير خطوة التعويم المحتمل للجنيه، حتى يستقر عند سعر وسطي مقبول بين ما هو في البنك وما عليه في السوق الموازي، هذا بخلاف تدخلها بين الحين والآخر ومزاحمة التجار من أجل جمع كميات كبيرة من الدولارات من السوق السوداء لسداد ما عليها من التزامات خدمة الدين في ظل العجز الكبير في المداخيل الدولارية للدولة، وهو ما كشفه الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه قبل ذلك في تصريح متلفز له.
وآخرون يرون أن هذا الانخفاض الكبير في قيمة الدولار أمام الجنيه مسؤولية كبار التجار والمضاربين ممن يخططون لجمع أكبر قدر ممكن من الدولارات من السوق بهذا السعر المنخفض، تحسبًا لخطوة التعويم التي يصاحبها ارتفاع متوقع في سعر العملات الأجنبية، وعليه يكون البيع بسعر عالي يحقق لهم مكاسب كبيرة، وهو الأمر الذي حدث بشكل مشابه قبيل تعويم عام 2016.
ما هذا البلد العجيب الذي يستطيع خفض سعر صرف الدولار ولا يقوى على تخفيض سعر فرخة؟
يا لها من معجزة اقتصادية خارقة
— wael kandil (@waiel65) February 6, 2024
التساؤل الأهم الذي يطرحه التجار هنا: هل يمكن الحصول على الدولار بهذا السعر المنخفض سواء من البنوك أم السوق السوداء؟ الإجابة بطبيعة الحال بالنفي، فقد يبيع البعض الدولار بسعر 50 جنيهًا لكن إذا ما أراد شراءه مستحيل أن يكون بهذا السعر، إذ من المؤكد أنه سيكون بسعر أعلى من ذلك بكثير، وهو ما يرجح حديث البعض بأن ما يحدث مجرد فقاعة مفتعلة.
مؤشر آخر يستند إليه المشككون في تفسير حالة الارتباك والفوضى التي تخيم على سوق الصرف في مصر، وأنها بفعل فاعل، يتعلق بانعكاس ذلك على سعر السلع والخدمات المقدمة للمواطنين، التي لم تتأثر بهذا الانخفاض في سعر الدولار، رغم أن ارتفاعها في الأساس نتيجة ارتفاع سعره، كون أن غالبية السلع المصرية ومستلزمات الصناعة مستوردة من الخارج بالعملات الأجنبية، وطالما أنه لم تشهد سلعة واحدة أي تراجع، وعلى العكس من ذلك تزيد بمعدلات كبيرة، فإن ما يحدث في السوق السوداء معركة مضاربات أخرى بعيدة تمامًا عن الوضعية الاقتصادية والحياة المعيشية.
وهذا ما أكده عضو مجلس إدارة شعبة المستوردين في مصر، متى بشاي، بقوله إن 90% من المستوردين لم يحصلوا على دولار واحد من البنك منذ سنة وشهرين، لذا اتجهوا إلى السوق السوداء لتوفير احتياجاتهم الدولارية، لافتًا إلى أن أسعار السلع لن تنخفض إلا بتوفر الدولار في البنوك، وإذا كانت الدولة تريد فعلًا القضاء على السوق الموازي فعليها توفير الدولار للمستوردين في المصارف الرسمية، وطالما لم يحدث ذلك فلا قيمة للمضاربات الدولارية في السوق حتى لو انخفضت العملة الأمريكية أكثر من ذلك.
🔴 انخفض سعر الدولار في السوق الموازية، من 70 جنيهًا بداية الأسبوع الماضي إلى أسعار متفاوتة ما بين 50 و55 جنيهًا، ولكن يواجه المستوردون واقعًا مختلفًا عند محاولة شرائه، وسط ثبات للأسعار، مما يشي بأن هذا الانخفاض لم يؤتِ ثماره حتى الآن.
◾ ويرفض عدد من تجار العملة بيع الدولار… pic.twitter.com/LMHXRkZXm9
— صحيح مصر (@SaheehMasr) February 6, 2024
الحصاد المر للسياسات الخاطئة
ما يشهده سوق الصرف، وفي المجمل الاقتصاد المصري، هو نتاج منطقي وطبيعي للسياسات الاقتصادية والمالية التي اتبعتها الدولة على مدار عقد كامل وثبت فشلها بشكل كبير، في ظل الصلف السلطوي والإصرار على المضي قدمًا فيها رغم التحذيرات بشأن التمادي في هذا المسار.
يرى أستاذ الاقتصاد الدولي والمالي بمعهد نيويورك للعلوم المالية، نبيل زكي، أن حالة السعار التي شهدها السوق الموازي، ترجع في المقام الأول إلى الإجراءات والسياسات التي اتخذتها الدولة، مستشهدًا على ذلك ببعض تلك القرارات التي دفعت المستثمرين إلى السوق السوداء على حساب البنوك.
من أبرز تلك القرارات طلب بعض البنوك من عملائها تسليم 15% إلى 20% من مبالغ خطابات الاعتماد التي يقدمها المستثمرون لإنهاء عمليات الاستيراد من الخارج، بل التنازل عن تلك النسبة للبنك، وعليه يتجه المستثمر إلى السوق السوداء لجمع قيمة مبلغ خطاب الاعتماد إضافة إلى النسبة التي يتحصل عليها البنك، أي مطلوب منه جمع 120% من المبلغ المطلوب، ويشتريه من السوق الموازي بسعر مرتفع (70جنيهًا)، فيما يسدد تلك القيمة للبنك بالسعر الرسمي (30 جنيهًا للدولار)، وهنا ليس أمام المستثمر سوى تحميل هذا الفرق على المستهلك، مما يزيد من حدة التضخم ويرهق كاهل المواطنين.
كذلك ظاهرة “الدولرة” التي فرضتها الحكومة المصرية على بعض القطاعات، عن طريق إجبار الشركات العقارية ووكلاء شركات السيارات على التعامل بالدولار عند إنهاء عملياتهم الشرائية والاستيرادية، وعليه يتم تحصيل تلك القيم من المواطنين بالدولار كذلك، وهو ما يزيد من معدل الإقبال على السوق السوداء في ظل عدم وجود العملة الأمريكية في البنوك الرسمية، رغم أن ذلك يخالف المادة (126) من قانون البنوك رقم (88) لسنة 2003 التي تحظر التعامل بغير العملة المحلية داخل البلاد، ويضع المتعاملين تحت طائلة المساءلة.
سياسة الرقص على السلم التي يتبعها #البنك_المركزى ستقود #مصر إلى كوارث..
رفع #معدل_الفائدة 2٪ لن يؤدي إلا لمزيد من الأعباء على الموازنة ولن يثمر أبداً في زيادة جاذبية #الجنيه_المصري.
إما أن يرفعوا الفائدة بمعدلات كبيرة لوقف الدولرة ويجذبوا الأموال الساخنة، وإما أن يخفضوها ليشجعوا… pic.twitter.com/koqluj2n44
— Mourad Aly د. مراد علي (@mouradaly) February 1, 2024
كما أن التعامل بالسطوة الأمنية مع تجار الذهب، عبر إلقاء القبض على كبارهم أملًا في أن يسفر ذلك عن توقف انفلات ونزيف الدولار، أسلوب خاطئ يهدد قطاع الذهب الذي يشكل ضلعًا أساسيًا في الاقتصاد الوطني المصري بحسب أستاذ التمويل، إذ إن 90% من صناعة الذهب محلية، فضلًا عن الدور المحوري الذي تلعبه مصر في سوق الذهب الإقليمية والدولية، وكانت صادرات مصر من الذهب قد سجلت في عام 2023 قرابة 1.5 مليار دولار إلى 41 دولة حول العالم، منها 43% إلى الإمارات، و 40% الى كندا، فيما ارتفعت الصادرات لأمريكا بنسبة 1528%، ومن ثم فإن الاقتراب من هذا القطاع بتلك الطريقة سيصيبه بالشلل ويُفقد الدولة حصيلتها الدولارية منه.
وصاحب استعادة الجنيه بعض من عافيته أمام الدولار حفاوة بالغة من الإعلام المناصر للنظام المصري، حيث وصف الإعلامي المقرب من السلطات، نشأت الديهي، ما حدث بأن “الدولار أصيب بسكتة حادة” داعيًا الشعب المصري خلال تقديمه برنامج “بالورقة والقلم”، المذاع على فضائية “ten”، مساء الأحد، لحضور ما سماه “جنازة السوق السوداء للدولار”، لافتًا إلى أن الدولة المصرية تعمل على تحرير “شهادة وفاة السوق السوداء”، مثلما نجحت في تحرير “شهادة وفاة تنظيم جماعة الإخوان” على حد قوله.
أما الإعلامي المصري السعودي عمرو أديب فتساءل “إذا كانت هناك انفراجة في الدولار فهناك بضائع مكدسة في الموانئ بحاجة إلى 7 أو 8 مليارات دولار، غير الأقساط، غير أشياء كثيرة، هل لدى الحكومة القدرة على تبريد السوق؟” محذرًا من فقدان الحكومة زمام الأمور ووجود لاعبين كبار يتحكمون في اقتصاد البلاد.
وتحاول الدولة المصرية على مدار الأيام الماضية توظيف هذا المشهد المرتبك في سوق الصرف، وفرض معادلة جديدة تجعل هذا التراجع في قيمة العملات الأجنبية تراجعًا واقعيًا وليس مفتعلًا، قبل أن تعاود العملة الخضراء الصعود مرة أخرى وهو المتوقع، عن طريق توفير تدابير دولارية من خلال بعض المسارات الاقتصادية المعتادة مثل بيع أصول وأذون صرافة فضلًا عن سلسلة القروض والمنح التي لا تتوقف، ليبقى السؤال: هل تنجح وسائل الإفاقة تلك في إنقاذ الاقتصاد المصري؟