سيظهر في الشهور القليلة المقبلة مصطلح اقتصادي جديد هو البترويوان، بمعنى بيع النفط عبر اليوان الصيني، وهو الرديف لمعادلة البترودلار القائم على بيع النفط بالدولار والتي يعود تاريخها إلى السعودية 1973 التي قبلت ببيع نفطها بالدولار حصريًا مقابل الدفاع عنها وتقديم السلاح الأمريكي اللازم، وبعد تأسيس منظمة أوبك في العام 1975 قامت دول أوبك جميعها بنفس الخطوة. فصار لزامًا على من يشتري النفط أن يحصل على الدولار أولاً ليدفعه للدول المنتجة للنفط، وهذا شكل قوة للدولار الأمريكي بفضل الطلب المتزايد عليه وازدهار الاقتصاد الأمريكي وتنامي قوتها العسكرية لتتفوق على دول العالم.
حتى الدول ذات العملات القوية مثل اليابان وألمانيا، والتي لا تمتلك ثروة نفطية في أراضيها، تعمد إلى بيع سلع وخدمات لأمريكا للحصول على الدولار وشراء النفط به من السعودية والدول المنتجة الأخرى.
بالطبع هذا السيناريو لم يكن وليد الصدفة بين أمريكا والسعودية، فبعد خروج الولايات المتحدة منتصرة من الحرب العالمية الثانية وعقد اتفاقية “بريتون وودز” المشهورة، حيث وافقت 44 دولة حول العالم على جعل الدولار العملة الارتكازية في العالم كبديل عن الذهب الذي امتلكته الولايات المتحدة والتي خرجت منتصرة غير منهكة في الفترة التي أعقبت الحربين العالميتين الأولى والثانية.
يُستخدم الدولار في نحو 90% من العقود التجارية على مستوى العالم، أي ما يقدر بنحو 5 تريليونات دولار يوميًا، ويستخدم ترليونا دولار في معاملات أسواق الصرف الأجنبى يوميًا كما يدخل في تعاملات البورصات المالية العالمية بكثافة قدرها 87% من التعاملات التجارية
في العام 1971 قرر الرئيس الأمريكي نيكسون فك ارتباط الدولار بالذهب وإخضاعه لآلة العرض والطلب، بسبب كثرة النفقات الحكومية على حرب الفيتنام إضافة إلى انخفاض قيمة الدولار بسبب طباعته بشكل لا يتناسب واحتياطي الذهب لديها، ولكي تحافظ الولايات المتحدة على قيمة الدولار وإيقاف تهاويه في الأسواق، وجدت الحل بالسلعة الاستراتيجية التي تمتلكها السعودية وهي النفط، فاتفقت معها على بيع النفط بالدولار مقابل الحماية والسلاح.
البترويوان مقابل البترودولار
لا يخفى التنافس المحتدم بين أمريكا والصين على الاقتصاد العالمي، وهما أول وثاني أكبر اقتصاد في العالم بواقع 11.2 ترليون دولار في العام 2016 للصين ولأمريكا 18.57 ترليون دولار، وقد عملت الصين طول الشهور والسنوات الماضية على تقويض تسلط أمريكا على الاقتصاد العالمي عبر تأسيس نظام عالمي جديد من حيث النفوذ المالي والتجاري يحل محل النظام العالمي القائم. إذ شرعت الصين بتأسيس بنكين أشبه بمنظمة وصندوق النقد الدوليين في أمريكا.
وتعمل على مشروع ضخم هو “الحزام والطريق” بكلفة تقدر بـ4 ترليونات دولار ستشكل عبره شبكة تحالفات اقتصادية كبيرة مع الدول التي سيمر المشروع عبرها، أما جديدها فمساعيها لمنافسة عقود النفط الأمريكية وتدشين البترويوان خلال نهاية العام الحالي، ففي يونيو/حزيران الماضي، أجرت بورصة شنغهاي أربع صفقات للعقود الآجلة للنفط الخام، وذلك تحضيرًا لإطلاق بورصة العقود الآجلة في نهاية العام الحالي.
حيث تعمل الصين لإطلاق بورصة نفطية لبيع عقود النفط المستقبلية، بحيث تكون العقود مقومة بعملة الصين المحلية (اليوان) ويمكن تحويل قيمة اليوان إلى ذهب، وهذا يعد كسرًا للقاعدة المعتادة بشراء عقود النفط بالدولار حصرًا، ويسمح بإطلاق مصطلح جديد ند للبترودولار المعروف وهو البترويوان.
ومن المتوقع بحسب ما ورد في مواقع اقتصادية مختصة أن تكون عقود النفط الآجلة التي ستباع باليوان في البورصة المزمع إطلاقها، من أهم مؤشرات أسعار النفط العالمية جنبًا إلى جنب مع خام برنت وخام غرب تكساس.
يُذكر أن الصين استوردت 7.6 ملايون برميل نفط يوميًا بمعدل وسطي خلال العام 2016، عبر عقود طويلة الأجل مع شركات النفط الوطنية في الدول المنتجة للنفط، بحسب الإحصائيات الرسمية الصينية.
لماذا لا تفعل الصين هذا! وهي التي تنافس أمريكا على مكانتها الاقتصادية العالمية عبر ما تمكله من مؤهلات تمكنها من بلوغ ذلك. إذ تعد ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم، فتستهلك أمريكا نسبة 19.7% من إجمالي الاستهلاك العالمي للنفط، بواقع 19.40 مليون برميل بحسب بيانات العام 2015 ومن ثم تأتي الصين بـ12.9% بواقع 11.97 مليون برميل نفط، وجاءت بعدها الهند واليابان والسعودية في ترتيب أكثر الدول استهلاكًا للنفط في العالم.
ومنذ عام 2010 الصين أكبر مصدر للسلع التجارية وثاني أكبر مستورد لها، كما أنها خامس أكبر مصدر وثالث أكبر مستورد للخدمات التجارية، وتحتل الصين المرتبة الأولى عالميًا من حيث الاستثمارات الأجنبية المباشرة الداخلة إلى البلاد والتي بلغت 129 مليار دولار عام 2014، ليس ذلك فحسب وإنما لدى الصين أكبر احتياطيات بالعملة الأجنبية بلغت 3.2 تريليونات دولار.
هل سيؤثر هذا على الدولار؟
بلا أدنى شك ستلحق بورصة النفط الصينية أثرًا على البورصات الأمريكية التي يتم من خلالها شراء وبيع عقود النفط المقومة بالدولار، وهو مسعى الصين وهدفها من هذه الخطوة بالأساس، فمن شأن انتقال حركة رأس المال من البورصات الأمريكية على البورصة الصينية إلى تحول في التجارة العالمية وتأثير كبير على قيمة الدولار، وبالتالي كسر الهيمنة الأمريكية على أسواق المال العالمية.
ولكن تحقق هذا السيناريو، لن يكون بالمهمة السهلة، فأمريكا تربط الدول المنتجة للنفط في العالم باتفاقيات قديمة كالسعودية والكويت ودول عدة أخرى، سيؤدي تعديل تلك الاتفاقات أو إلغائها إلى تهديد حكومات تلك الدول في حال قررت التخلي عن معادلة البترودولار لصالح الترويوان، كما أنه تهديد قد يرتقي للتهديد القومي بالنسبة لأمريكا لأنه سيلحق أضرارًا كبيرة على الدولار واقتصادها بالمحصلة، ومن جانب آخر، لا يزال اليوان غير قادر على المنافسة أمام الدولار بوضعه الحالي، فالدولار متفوق على اليوان في وظائف المال الأساسية.
سيكون تأسيس بورصة نفطية لتداول العقود النفطية الآجلة في الصين باليوان، إحدى الخطوات المهمة للتأثير على الاقتصاد الأمريكي والدولار ومكانته في العالم
ولتقويض النفوذ الأمريكي على الاقتصاد العالمي تسعى الصين مع حلفائها في المنطقة إلى زيادة النفوذ التجاري لليوان وعقد اتفاقيات تجارية ثنائية تتيح استخدام اليوان وعملة البلد المحلية بدلاً عن الدولار وقد عقدت مثل هذا مع تركيا وروسيا والسعودية ودول أخرى.
فاللدولار أهمية كبيرة فى التجارة العالمية، إذ يمثل عملة أكبر اقتصادات العالم، كما تربط العديد من الدول عملاتها بالدولار أو بسلة عملات يمثل الدولار فيها وزنًا نسبيًا كبيرًا، فالدولار يقوم بدور عملة الاحتياطى العالمى حيث يستحوذ على ثلثى احتياطيات النقد الأجنبى فى العالم، ويتميز بكثافة التداول، إذ يعد على رأس العملات المستخدمة في التجارة العالمية، ويتم سداد قيمة أكثر من نصف قيمة صادرات العالم بالدولار الأمريكي.
ويُستخدم الدولار في نحو 90% من العقود التجارية على مستوى العالم، أي ما يقدر بنحو 5 تريليونات دولار يوميًا، ويستخدم ترليونا دولار في معاملات أسواق الصرف الأجنبى يوميًا كما يدخل في تعاملات البورصات المالية العالمية بكثافة قدرها 87% من التعاملات، لذا تتميز التعاملات الدولارية بسهولة التحويل من وإلى العملات الأخرى أو الذهب، وتقدر نسبة الاحتياطي النقدي بالدولار في البنوك المركزية العالمية بما يزيد على 62%، ويعد الدولار العملة الأكثر قبولاً في التعاملات التجارية والمالية العالمية، مقارنةً بأي عملة أخرى أو حتى الذهب والمعادن الثمينة.
أخيرًا سيكون تأسيس بورصة نفطية لتداول العقود النفطية الآجلة في الصين باليوان، إحدى الخطوات المهمة للتأثير على الاقتصاد الأمريكي والدولار ومكانته في العالم، ولن تكون هذه الخطوة التي ستكسر الاقتصاد الأمريكي بل تشكل جزءًا في هذا السياق، إذ من المفترض أن يؤدي تكامل الجهود الصينية الاقتصادية والسياسية مع حلفائها في المنطقة وثباتها خلال فترة زمنية ليست قصيرة إلى التأثير على الدولار والاقتصاد الأمريكي.