دائمًا ما تبهر الشهرة والأضواء نجوم الفن والرياضة والأدب، فيقررون اعتزال القضايا المثيرة للجدل، ويتهربون من الإدلاء بأي تصريحات قد توضح ميولهم الشخصية والسياسية، خوفًا من بطش الأنظمة الحاكمة ورعبًا من فقدان فئة من الجماهير تعارضهم الرأي.
لكن التاريخ يذكر بعض الشخصيات العامة التي رفضت أن تقبع في الظل مكتفية بما حققته من نجاح وشهرة وأضواء، وقرروا أن يعلنوا رأيهم على الملأ، حتى لو كلفهم ذلك الكثير.
سقراط.. لاعب اليسار الرافض للحكم القمعي
لاعب كرة القدم البرازيلي سقراط
سقراط برازيليرو سامبايو دي سوزا فييرا دي أوليفيرا Sócrates Brasileiro Sampaio de Souza Vieira de Oliveira، أحد أشهر لاعبي كرة القدم البرازايلين، بل يعد من أعظم اللاعبين في تاريخ الكرة، حيث تمتع بقدرات فائقة في منطقة وسط الملعب، وكان لديه القدرة على اختراق دفاع الخصم بسهولة بفضل قدميه الطويلتين، إذ كانت قامته تصل إلى 1.92 متر.
ولد عام 1954 في مدينة “بيلم” الواقعة شمالي البرازيل، وكان متأثرًا إلى حد كبير بوالده، ذلك الرجل العصامي القادم من أسرة فقيرة، والذي علّم نفسه بنفسه، وكان يمتلك مكتبة ضخمة نهل منها سقراط جلّ معارفه، فكان يمارس فيها هواية الاطلاع إلى جانب والده، وفي سن العاشرة، عندما استولى العسكريون على السلطة في البرازيل، رأى والده يحرق أحد الكتب، وكان عن “البلشفيك”.
ورغم مهاراته الكروية التي تجلت في سن مبكرة، فقد قرر تنحيتها جانبًا من أجل الاهتمام بدراسته، حتى نال دبلوم طب الأطفال في عام 1979، ثم تفرغ لكرة القدم، وكان محقًا في اختياره للتعليم، فبعدما ترك الملاعب، عاد لطب الأطفال واشتغل به.
أمضى سقراط في ملاعب كرة القدم 9 أعوام، كان يفعل فيها كل شيء بصورة سحرية، حتى إن الأسطورة بيليه قال عنه: “سقراط يلعب بكعبه إلى الخلف بطريقة تفوق كثيرًا من يلعبون إلى الأمام وبمقدمة أقدامهم” .
وخلال 5 مواسم مع فريق كورينثيانز البرازيلي أحرز 168 هدفًا في 302 مباراة، وقاد ناديه للتربع على عرش أمريكا الجنوبية، وفي 1984 انضم إلى صفوف نادي “فيورنتينا” الإيطالي، إلا أنه لم يستطع تحمل ضغوطات الدوري هناك، بسبب المقاييس المادية الطاغية وتفضيل الأندية النتائج على حساب المتعة، حيث كان يميل إلى إمتاع الجماهير بقدر رغبته في تحقيق الفوز وكان شعاره: “الجمال يأتي أولاً.. النصر ثانيًا.. لكن ما يهم هو المتعة”، فقرر آنذاك العودة مجددًا إلى بلاده لينضم إلى صفوف “فلامينجو” البرازيلي.
وبدأ سقراط الذي تربى على المبادئ اليسارية، في إقحام السياسة مع الرياضة عام 1982 عندما أسس نظام “ديمقراسيا كورنثياينا” في نادي كورينثيانز، والذي كان يهدف لاختيار المسؤولين كافة بالانتخاب، حتى قاد الفريق للفوز بالبطولة عامي 1985 بجانب عدد من البطولات.
ومع الحراك المجتمعي الشامل في البرازيل، ظهر دور سقراط اللاعب الفذ، فدخل الملعب مع زملائه بقمصان مكتوب عليها “انتخبوا رئيس البرازيل”، داعيًا العسكر لإجراء انتخابات ديمقراطية والتخلي عن الحكم في البلاد.
ولم يكتفِ سقراط بهذا الأمر، بل زاد عليه أنه جمع الجماهير في ميدان مدينة كورينثاينز من أجل مطالبة العسكر بالتخلي عن الحكم عام 1983 وإجراء الانتخابات فورًا، ورغم عدم نجاحه حملته وقتها، فإنها كانت ترسًا في ماكينة وصول البرازيل للديمقراطية وتخلي العسكر عن الحكم بعدها بعامين.
اللاعب البرازيلي الفذ
وبعد اعتزاله عام 1989 وعودته لممارسة الطب، بقي في حقل السياسة كمعارض، مما دفع الرئيس الليبي المخلوع معمر القذافي عام 1996 لمطالبته بالترشح لرئاسة البرازيل، مع تكفله بمصاريف الدعايا الانتخابية كافة، إلا أن المناضل البرازيلي رفض هذا العرض.
وبعد سنوات، وعندما تولي لولا دا سيلفا حكم البرازيل عام 2003، وعرض على سقراط في أواخر عام 2009 تولي منصب وزاري إلا أن سقراط رفض هذا الأمر، لأنه يرى نفسه وسط الجماهير.
ولخص سقراط مسيرته في الحياة، بكلمات قالها في لقائه مع قناة الـBBC عام 2010: “لقد منحني الناس سلطة كلاعب كرة قدم مشهور، وإن لم يكن لدى الناس القدرة على قول ما يريدون، يمكنني الإفصاح عما يريدون نيابة عنهم، وإن لم أعبر عن آراء الناس ما استمع أحد إلى آرائي”، مؤكدًا أن بقاءه في ميدان كرة القدم كان من أجل الوزن السياسي، لمحاربة المجتمع القمعي الذي يقوده العسكر.
محمد علي.. الملاكم الذي رفض حربًا لا أخلاقية، ففقد لقبه العالمي
بطل الملاكمة الأمريكي محمد علي
ربما تكون الملاكمة هي التي صنعت من محمد علي نجمًا رياضيًا لامعًا، لكن موقفه المعارض لحرب فيتنام صنع منه بطلاً قوميًا وأيقونة شرف ألهمت ملايين الأمريكيين الرافضين خوض حربًا غير أخلاقية من وجهة نظرهم.
ففي هذه المرة، لم يقف محمد علي في الحلبة متأهبًا بقبضته الحديدية ورقصاته الإيقاعية لإسقاط خصمة بالضربة القاضية، بل تسلح بموقف أخلاقي بحت أمام المؤسسة العسكرية لأعظم قوة في العالم، رافضًا الالتحاق بصفوف الجيش للقتال في فيتنام، تلك الحرب التي تعد الحرب الأكثر بغضًا من جانب الأمريكيين.
ففي عام 1964، لم يجتاز محمد علي الاختبارات المؤهلة للالتحاق بالجيش، بسبب عدم تمكنه في مهارات الكتابة واللغة، ليعود ويُفاجأ بعد عامين – وقد كان آنذاك بطل العالم في الملاكمة – أنه تم قبوله في الجيش بناء على مراجعة للاختبارات صنفته “لائق” للالتحاق به.
لكن الملاكم العالمي لم يكن سعيدًا بهذا القرار الذي جاء بعد عام من انخراط الولايات المتحدة بقوات عسكرية صريحة على الأرض في حرب فيتنام، فأعلن رفضه الالتحاق بالجيش والمشاركة في هذه الحرب التي يرى أنها غير أخلاقية.
ليدخل محمد علي قتالاً من نوع آخر غير الذي يجيده وحصل فيه على لقب العالم، مع مؤيدي الحرب الذين هاجموا موقفه، مرتكنًا إلى رفض ملايين الأمريكيين لهذه الحرب غير الشعبية وغير المبررة من وجهة نظرهم.
وأعلن أمام وسائل الإعلام تصريحه الشهير:”ضميري لن يسمح لي أن أطلق النار على أخ لي، أو أناس أكثر سمرة، أو بعض الفقراء الجوعى في الوحل من أجل أمريكا القوية الكبرى”. وتساءل : “ثم لأي هدف سأطق النار عليهم؟ فهم لم ينعتوني أبدًا بالزنجي ولم يقوموا بسحلي أو يطلقوا كلابهم عليّ، ولم يجردونني من جنسيتي، أو يغتصبوا أو يقتلوا أمي أو أبي، فلماذا أطلق النار على هؤلاء المساكين؟ فلتأخذونني إلى السجن إذًا”.
أعلن محمد علي رأيه المعارض للدولة والنظام دون مواربة أو دبلوماسية، بل إنه قاد العديد من المظاهرات الرافضة للحرب، واستأجر ساعات من البث المباشر على التلفاز، من أجل عرض موقفه على الرأي العام، أملاً في وقف هذه الحرب.
فعل هذا وهو يعلم العواقب الوخيمة التي قد تعود عليه جراء اتخاذ هذا الموقف، لكنه لم يأبه، كما أن الحكومة الأمريكية التي تورطت في الحرب، قررت أن تعاقبه أيما عقاب.
حيث جردته من لقبه العالمي وقدمته للمحاكمة بتهمة رفض التجنيد، وصدر عليه حكم بالسجن لمدة 5 سنوات وغرامة 10 آلاف دولار، لكنه استأنف الحكم، فتم إيقافه عام 1967 عن اللعب لمدة ثلاثة سنوات، قبل أن يعود إلى الحلبة مرة أخرى في أكتوبر عام 1970، بناءً على طعن تقدم به.
الملاكم الأسطوري محمد علي
ومحمد علي هو الملاكم الوحيد الذي فاز ببطولة العالم للوزن الثقيل ثلاث مرات، واستمر متربعًا على عرش لعبة الملاكمة لما يقرب من عشرين عامًا، حقق خلالها الفوز في 56 مباراة من بينها 37 مباراة بالضربة القاضية، اسمه الحقيقي خيسوس كلاي، وفاز ببطولة العالم على حساب الملاكم سوني ليستون في فبراير 1964، ولم يكن وقتها قد خاض سوى عشرين مباراة فقط، حقق الفوز فيها جميعًا.
ولد محمد علي في مدينة لويزفيل بولاية كنتاكي الأمريكية لوالد يعمل خطاطًا، بدأ ممارسة الملاكمة وهو في الثانية عشرة من عمره في صالة للألعاب الرياضية يديرها شرطي، وتألق كهاوٍ ووصل إلى قمة أدائه عام 1960 عندما فاز بميدالية ذهبية أولمبية، وفي نفس العام، أصبح لاعبًا محترفًا وفاز بمباراته الأولى أمام توني هانساكر بالنقاط.
الشيخ إمام.. صوت الناس سجين الأغنية
الشيخ إمام
ولد إمام محمد أحمد عيسى في 2 من يوليو 1918 في قرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة، لأسرة فقيرة، وأصيب في السنة الأولى من عمره بالرمد الحبيبي، وسرعان ما فقد بصره بسبب الجهل واستعمال الوصفات البلدية في علاج عينه. فقضى طفولته في حفظ القرآن الكريم، وفي منتصف الثلاثينيات تعرف على الشيخ زكريا أحمد عن طريق الشيخ درويش الحريري، فلزمه واستعان به الشيخ زكريا في حفظ الألحان الجديدة واكتشاف نقاط الضعف بها.
وفي عام 1962، حدث اللقاء التاريخي بين الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم رفيق دربه، وتم التعارف بين نجم والشيخ إمام عن طريق زميل لابن عم نجم كان جارًا للشيخ إمام، فعرض على نجم الذهاب للشيخ إمام والتعرف عليه، وبالفعل ذهب نجم للقاء الشيخ إمام وأعجب كلاهما بالآخر، وعندما سأل نجم إمام لماذا لم يلحن أجابه الشيخ إمام أنه لا يجد كلامًا يشجعه، وبدأت الثنائية بين الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وتأسست شركة دامت سنوات طويلة.
ذاع صيت الثنائي والتف حولهما المثقفون والصحفيون خاصة بعد أغنية: “أنا أتوب عن حبك أنا” ثم “عشق الصبايا” و”ساعة العصاري”، واتسعت الشركة فضمت عازف الإيقاع محمد علي، فكان ثالث ثلاثة، كونوا فرقة للتأليف والتلحين والغناء، ولم تقتصر على أشعار نجم فغنت لمجموعة من شعراء عصرها أمثال فؤاد قاعود ونجيب سرور وتوفيق زياد وزين العابدين فؤاد وآدم فتحي وفرغلى العربي.
انتشرت قصائد نجم التي لحنها وغناها الشيخ إمام كالنار في الهشيم داخل وخارج مصر، وشكلا معًا، عصبًا محوريًا في الأغنية الملتزمة والتي ما زالت عناوينها تقود أهم نضالات الشعوب، وكثر عليها الكلام واختلف حولها الناس بين مؤيدين ومعارضين.
الشيخ إمام ورفيقه الشاعر أحمد فؤاد نجم
في البداية استوعبت الدولة الشيخ وفرقته وسمحت بتنظيم حفل في نقابة الصحفيين وفتحت لهم أبواب الإذاعة والتليفزيون، لكن سرعان ما انقلب الحال بعد هجوم الشيخ إمام في أغانيه على الأحكام التي برأت المسؤولين عن هزيمة 1967، ولم تكُن الأصوات المصرية آنذاك قد صُدِمت لهذه الفكرة بقدر صدمة الشيخ إمام بخسارة 67 والتي حولتهُ مع شريكه نجم إلى ما نعرفه من سخرية وانتقاد لكل شيء في الساسة والسياسة، فخرجت من صدمتهم “البقرة النطاحة” و”يعيش أهل بلدى وبينهم مفيش – تعارف يخلى التحالف يعيش” وغيرها من الكلمات التي تحولت إلى صحوة بعد فترة وشحذٍ للهمم ودعم لمعنويات الشعب.
فتم القبض عليه هو ونجم ليحاكما بتهمة تعاطي الحشيش سنة 1969 ولكن القاضي أطلق سراحهما.
وظل الأمن يلاحقهما ويسجل أغانيهما حتى حكم عليهما بالسجن المؤبد ليكون الشيخ أول من حوكم بسبب الغناء في تاريخ الثقافة العربية.
حيث اعتقل أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لمواقفهما السياسية، كما اعتقلا في عهد الرئيس الراحل أنور السادات أكثر من مرة بعدما أطلقا عليه أكبر حملة سخرية ضد حاكم مصري على الرغم من استقبالهما حرب أكتوبر بأغنية “دولا مين ودولا مين”، ومن سجنٍ إلى آخر، ظل الثنائي يتنقلان دون أمل في الخروج.
لكن السجن لم يمنع عجلة الإبداع من الدوران، فخرجت من ظلمات زنزانتهم “شيد قصورك”، ولم يبصرا النور حتى اغتيال الرئيس أنور السادات.
وانطلق بعدها إمام إلى فرنسا والعالم العربي ليقدم حفلات لاقت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا جعلته أيقونة في عالم النضال والحرية.