منذ انقلاب يوليو/ تموز 2013، صعدت سلطوية جديدة بقيادة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى حكم مصر، وعلى إثر قمع هذه السلطوية لكل من يعارضها، هاجر عشرات آلاف المصريين خارج مصر، خوفًا وهربًا من القمع بأشكاله المختلفة، وفي مركزيته السجن.
لكن لم تكتفِ السلطوية بممارسة القمع داخل مصر فحسب، بل امتدت يدها لتكبّل المصريين في الخارج من ممارسة حقهم الدستوري في المواطنة، بمنعهم من تنفيذ بعض الإجراءات الخاصة في ممارساتهم الشخصية والسياسية كعقاب سياسي يلاحقهم، فيما يدل على فلسفة السلطوية في حق امتلاك وسلب المواطنة من المصريين التي لا ترضى عنهم.
لا حقوق ولا سياسة
يتمثّل هدف آلاف المصريين من هجرتهم خارج بلادهم طوال العقد الماضي بالسيطرة على مشاعر الخوف من القمع والسجن التي تلاحق كل معارض لنظام السيسي، إلا أنها سرعان ما تعود بمجرد زيارة السفارة والقنصلية المصريتَين، فلا مفرّ من الذهاب إليهما لاستخلاص وتجديد أوراق رسمية تخصّ الدراسة والعمل والزواج، كما بهدف الممارسة السياسية التي تتمثل في التصويت والانتخاب حيال أي عملية انتخابية دستورية تتم داخل مصر.
ومن هنا تبدأ عملية الخوف من السلطة ويدها القمعية الممتدة خارج مصر عبر سفاراتها وقنصلياتها، إذ يعدّ ذهاب المواطنين إلى هناك، لتخليص أي أوراق رسمية للدراسة أو العمل، أو حتى تجديد جواز السفر، مخاطرة أمنية، بسبب شعورهم الدائم أنهم مشتبه بهم، كونهم معارضين للنظام المصري الحالي، كما أن البعض منهم لديه قضايا وملاحقات سياسية وأمنية سابقة وجارية، وهي ما اضطرّتهم للسفر خارج مصر.
لذلك يتوجّس البعض من التحقيق معهم في مكاتب الأمن داخل السفارة، أو حتى احتجازهم بشكل تعسفي، ومن ثم ترحيلهم إلى مصر، أو حتى سحب جواز السفر منهم.
وهذا ما حدث مع أحد المواطنين المصريين في تركيا في سبتمبر/ أيلول 2020، حيث كان يخلّص أوراقًا شخصية (توكيل)، وعند ميعاد استلامه تعنّتت القنصلية المصرية في إعطائه الأوراق، وزد على ذلك أن موظف الأمن سحب جواز سفره، وطلب منه الصعود إلى مكتب القنصل للحديث معه، وعندما رفض لم يعيدوا له جواز سفره مرة أخرى.
حينها خرج مسرعًا من القنصلية خوفًا من اعتقاله، مهددًا إياهم بالاتصال بالأمن التركي للتبليغ عن حالة سرقة جواز السفر، لكن بعد فترة بسيطة رمى له موظف أمن السفارة جواز سفره من فوق سور القنصلية.
وفي الوقت الحالي، يعاني كثير من المصريين المغتربين من تجديد جواز سفرهم، مئات وربما آلاف، حسب شهادات البعض، في الدوحة وبرلين ومدن أخرى عربية وغير عربية، إذ يتقدموا لتجديد جواز سفرهم ولا يُرَدّ عليهم، أو يُرفَض طلبهم بسبب أمني غير واضح.
وكل ما تقدمه السفارة في هذه الحالة ورقة تُسمّى وثيقة سفر، يستطيع من خلالها المواطن الرجوع إلى مصر، وهذا بالنسبة إلى المتقدمين أمر مرفوض، ومستحيل، إذ هم خرجوا من الأساس هاربين من السجن، فكيف يرجعون مرة أخرى، بهكذا حال، بوثيقة سفر بديلة لجواز سفرهم الممنوع تجديده بقرار أمني.
هذا فيما يخص الممارسة الشخصية، أما حول الممارسة السياسية، والتي تتمثل في التصويت أو الانتخاب في أي عملية دستورية تجرى داخل مصر، إذ يحق للمواطنين المغتربين الممارسة السياسية، فالسفارات تحجب هذا الحق عنهم.
وشوهد ذلك في مئات الحالات في شهرَي سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول 2023، حين فُتح باب تسجيل التوكيلات للمرشحين الرئاسيين في مصر، وعلى إثر ذلك توجّه الآلاف من المصريين لتنظيم التوكيلات، لكن مُنعوا من تنظيمها للمرشح أحمد الطنطاوي، وهذا من خلال إقفال السفارات أو تماطُل الموظفين، بحجج مثل “السيستم لا يعمل” أو “لا توجد أوراق أو أختام”.
ما بُثَّ على وسائل التواصل الاجتماعي في تلك الفترة كان شاهدًا على هذا الانتهاك، إذ اشتكى المواطنون من تعنُّت السفارات لتنظيم التوكيلات للمرشح أحمد الطنطاوي، وكانت السفارة المصرية في بيروت مثالًا على هذا التعنُّت والمماطلة، إذ توجّه مجموعة من الأصدقاء إلى هناك لتنظيم توكيلات أحمد الطنطاوي، لكنهم قوبلوا بداية بالرفض من موظفي السفارة، لكنهم أصرّوا على حقهم الدستوري، وبعد مناقشات وجدالات على حق اختيار المواطنين مرشحهم دون وصاية من أحد، سمح مكتب الأمن في السفارة للموظف بتنظيم التوكيلات للمواطنين.
السلطوية واستثناء المواطنة
هكذا هي النظم السلطوية، تمارس حالة استثناء بحق معارضيها سواء كانوا فرادى أو حتى جماعات، وهنا الاستثناء كما عرّفه المفكر الألماني كارل شميث (1888-1985)، هو حالة يعطَّل فيها القانون من صاحب السيادة، أي السلطة، في حالات بعينها تمرّ بها البلاد.
هذا ما انطبق تحديدًا على مصر منذ يوليو/ تموز 2013، حيث أدخلت السلطوية المجتمع المصري في حالة استثناء، تقمع من خلالها الفئة المعارضة لسياساتها، وبقائها في الحكم، وكان وما زال على رأسهم الإسلاميون الحركيون، خاصة منهم جماعة الإخوان المسلمين والجماعات والأحزاب المقرّبة منها، وبدرجة أقل في الاستثناء جماعات وحركات وأفراد ذو طابع سياسي وفكري آخر.
مورس هذا الاستثناء، والذي كان تمثيله داخل مصر، في القتل والسجن والإخفاء والتعذيب والمراقبة، على الكثير من المواطنين والمعارضين المصريين من مختلف التوجهات التنظيمية والفكرية والمهنية، ولذلك كان هروبهم من مصر هو خلاص من هذا الاستثناء، بهدف تكملة حياتهم كمواطنين مصريين مغتربين، أو بمعنى أدق منفيين من بلدهم رغمًا عنهم، لكنهم محتفظون بحقوقهم في المواطنة المصرية.
لكن الدولة، بعقليتها الأمنية التي تدير هذا الاستثناء، لاحقتهم بقيود قمعية أخرى، تتمثل في حقوقهم الشخصية والسياسية في المواطنة، فمنعوهم بقرارات أمنية غير واضحة من ممارسة هذا الحق.
تتجلى في هذه العقلية وممارساتها فلسفة حق امتلاك الدولة، ليس فقط لأجساد المصريين الذين يقتلون ويسجنون ويختفون، بلا أي محاسبة ودون أي سياق قانوني، بل حتى في أسمائهم، والتي تعبّر ورقيًّا عن مواطنتهم وهويتهم المصرية، إذ تستثني السلطوية أسماءهم من كونهم مصريين، وكأنها تقول لهم انتهت صلاحية مصريتكم أيها المواطنون بسبب معارضتكم، كما بسبب هروبكم من القمع.
كما تتجلى هذه الفلسفة بشكل واضح في التفاوض على خروج السجناء السياسيين في مصر، فمن لديه جنسية أخرى غير المصرية ربما يخرج من السجن بشرط التنازل عن الجنسية المصرية، كما حدث مع الناشط المصري/ فلسطيني رامي شعث، والذي خرج من السجن بعد تنازله عن جنسيته المصرية.
أيضًا ظهر هذا مع الناشط والسجين السياسي علاء عبد الفتاح، إذ كانت تؤكد السلطات المصرية أن علاء مصري فقط، وليس مصريًّا بريطانيًّا، ولذلك لا يحق له التنازل عن الجنسية المصرية وطلب الخروج من السجن، وكأن الجنسية المصرية تؤهّل المواطنين للسجن فقط، وعندما يخرجون يجب أن يتنازلوا عنها، وحتى لو خرجوا دون تنازل وهربوا خارج مصر، يتم سحبها منهم بعدم تجديد أوراقهم الشخصية.
ترى السلطوية أن من يؤيدها ورئيسها وسياساتها له الحق أن يكون مصريًّا، ومن لا يؤيد أو حتى من كان من قبل معارضًا، حتى لو انتهت معارضته الآن، فهو أيضًا محل نبذ واستثناء، ولا يوجد أمامه سوى طريقَين: الأول أن يرضى باستلام وثيقة السفر، والتي تؤهّله للرجوع مرة أخرى حتى يتم معاقبته، بإخفائه أو سجنه أو تعذيبه، على محاولة هروبه من مصر، ومن حالة القمع التي تمارَس عليه.
أما الطريق الثاني أن يظل هاربًا، فاقدًا مصريته وهويته، فيضطر حتى يستطيع تلبية احتياجات المعيشة الأساسية، من تعليم وصحة وعمل، تقديم اللجوء إلى البلد الذي يعيش فيه إن كانت قوانينه تسمح بذلك، وإن لم تكن، فسيظلّ مصريًّا، ربما في وجدانه، لكنه على الأوراق مصريًّا سابقًا.