جلس فراس الخطيب، أحد أبرز لاعبي كرة القدم السوريين، ذات ظهيرةٍ منعشة في شهر شباط /فبراير سنة 2017، خارج مركزٍ تجاري بالخليج، وقد شغله الخوف من قرار كان يخشى تبعاته، من قرار قد يؤدي إلى قطع رقبته. كان الخطيب قد قاطع المنتخب الوطني السوري لمدة خمس سنوات اعتراضا على ممارسات الديكتاتور السوري بشار الأسد، الذي قصف بلدة الخطيب وتسبب في تجويعها.
أما في الوقت الراهن، يبدو كما لو أن فراس الخطيب قد غير رأيه فجأة، حيث بات يفكر فعليا في الانضمام مجددا إلى صفوف المنتخب السوري، وذلك في محاولة أخيرة للوصول إلى نهائيات كأس العالم لكرة القدم، المقرر عقدها في روسيا السنة المقبلة. ومن الواضح أن الأسباب التي جعلت الخطيب يتخذ مثل هذا القرار معقدة جدا، حيث لا يرغب في الحديث عنها. وفي هذا الصدد، أفاد الخطيب بلكنة إنجليزية متكلفة: “أنا خائف. نعم أنا خائف. ففي سوريا اليوم لو تكلمت، سيقوم شخص ما بقتلك، وذلك بسبب تصريحاتك وأفكارك، وليس بسبب أفعالك”.
في الحقيقة، تكسو وجه فراس الخطيب لحية في حين يتميز بحجمه الضئيل، وشعره البني المجعد، وعيون تنُم عن الطيبة. وقد كسب فراس الخطيب الملايين على خلفية احتراف كرة القدم في الكويت. وفي الأثناء، تعكس أجواء المركز التجاري الفخم لمحةً عن حياته المريحة هناك، حيث تتراءى يخوت تهتز فوق سطح المياه الزرقاء الرقيقة، ورجال ونساء يرتدون جلابيب يدخنون النرجيلة المزودة بالتبغ المنكه.
“الكثير من القتلى”: هكذا كان وصف نجم كرة القدم السورية للفصائل المتناحرة التي تمزق بلده.
من جانب آخر، تظهر على فراس الخطيب علامات الإنهاك نتيجة ثقل المأزق الذي يواجهه، والذي ناقشه في مقابلات صحفية استغرقت يومين. وفي هذا السياق، صرح الخطيب، متحدثا عن صراعه الداخلي: “كل يوم أفكر في هذا القرار ربما لساعة أو ساعتين قبل النوم”. إثر ذلك، سحب الخطيب هاتفه الخلوي ليرى معدي التقرير صفحته على فيسبوك، حيث تصله مئات الرسائل يوميا. وقد اتضح أن بعض أقرب أصدقائه مستعدون للانقلاب عليه، حيث أكد أحد اللاعبين الذين تربوا معه، وهو اللاعب نهاد سعد الدين، أنه في حال عاد الخطيب إلى سوريا فسوف “يرمى به في سلة قاذورات التاريخ رفقة كل من دعم المجرم بشار الأسد”. وقد نذر سعد الدين ألا يتكلم مع الخطيب أبدا في حال أقدم على فعل ذلك.
من هذا المنطلق، يتعين على الخطيب، خلال الأيام الستة والثلاثين التي تفصل عن موعد المباراة القادمة لسوريا، أن يختار بين شرين يعصفان بالعالم الحديث. عموما، وفي حال عاد فراس الخطيب إلى سوريا، فسيكون قائد المنتخب السوري، وأهم لاعب ضمن فريق يسعى للوصول إلى كأس العالم للمرة الأولى. علاوة على ذلك، سيمثل حكومةً استخدمت كرة القدم سلاحا، إلى جانب غاز الأعصاب والتعذيب والاغتصاب والتجويع وقصف المدنيين، للترويج لحكمها الدموي.
في المقابل، وفي حال واصل فراس الخطيب مقاطعته، فسيكون، بالتالي، منحازا إلى حركة معقدة بدأت بمظاهرات سلمية، ثم اتسعت لتشمل تنظيمي القاعدة والدولة، اللتين استخدمتا كرة القدم على اعتبارها خلفية لبعضٍ أكثر جرائمها بشاعة. فقد طالت التفجيرات أحد ملاعب كرة القدم في فرنسا سنة 2015، في حين استهدفت عملية أخرى مباراة كرة قدم للشباب في العراق سنة 2016، مما تسبب في مقتل 29 طفلا.
من جانبه، أوضح فراس الخطيب، أن “هناك الكثير من المجرمين القتلة في سوريا الآن، حيث تتعدد الأطراف المتورطة. أنا أكرههم جميعا”. وفي الأثناء، يشعر هذا اللاعب المشهور بالحيرة، حيث أورد الخطيب متحدثا عن تبعات قراره، أنه “أيا كان ما سيحدث، سيحبني 12 مليون شخص، في حين سيرغب 12 مليونا آخرين في قتلي”.
أدى حضور سوريا في مشهد كأس العالم إلى نزاعٍ أخلاقي ليس للفيفا فحسب، وإنما أيضا للاعبين والمشجعين أيضا. فقد فر مئات اللاعبين السوريين إلى الدول المجاورة وإلى أوروبا.
في صلب الحرب الأهلية السورية، توجد حرب أهلية أصغر نسبيا، وهي معركة مُروعة، ودموية في بعض الأحيان، نشبت من أجل روح كرة القدم السورية. فقد أدت المحاولة السورية، التي من المرجح أنها لن تكلل بالنجاح، للوصول إلى كأس العالم إلى تأليب اللاعبين والمدربين ضد بعضهم بعضا. والجدير بالذكر أن هذه الانقسامات تعكس الصراع الذي بصدد إعادة تشكيل معظم العالم حاليا.
خلال سنوات الحرب الأهلية الست، قتل ما لا يقل عن 470 ألف سوري، وانخفض متوسط الأعمار من 70 سنة إلى 55 سنة. وفي الأثناء، أصبح المنتخب الوطني السوري لكرة القدم، الذي يمثل بلدا أكثر من نصف مواطنيه نازحون في دولٍ أخرى، ساحة معركة بين أتباع وأعداء بشار الأسد. من جهتها، تدعي الحكومة السورية أن كرة القدم تمثل الميدان الوحيد الذي يجتمع فيه السوريون من كل الأطراف بشكلٍ سلمي. وفي هذا الصدد، أورد بشار محمد، المتحدث الرسمي باسم المنتخب الوطني السوري، أن كرة القدم “حلم يجمع مختلف الأشخاص، في حين ترسم الكرة البسمة على الشفاه، وتساعد الأفراد على نسيان رائحة الدمار والموت”.
في المقابل، أظهر تحقيق أجرته “أوت سايد ذو لاين” “وإي إس بي إن ذي ماغازين”، الذي استغرق سبعة أشهر لتنفيذه، أن نظام الأسد، المدعوم ضمنيا من الفيفا، قد أقحم كرة القدم ضمن حملة القمع المروعة التي يشنها ضد شعبه. ووفقا لمعلومات جمعها أنس عمو، وهو أحد الكتاب الرياضيين السابقين من حلب، الذي يرصد انتهاكات حقوق الإنسان بحق الرياضيين السوريين، فقد قتلت الحكومة، أو عذبت حتى الموت، ما لا يقل عن 38 لاعبا من لاعبي الدرجة الأولى والثانية في الدوري السوري للمحترفين، علاوة على العشرات من اللاعبين من الدرجات الأقل. في الوقت ذاته، اختفى ما لا يقل عن 13 لاعبا.
وظف الجيش السوري ملاعب دمشق، وحلب، وحمص، وحماة، ومدن أخرى لتكون قواعد ومنشآت اعتقال، وذلك حسب شهادات لاعبين سابقين، ومنظمات حقوق الإنسان
على الرغم من أن قوى المعارضة بدورها قد قتلت لاعبي كرة قدم على نطاقٍ أضيق، وهي حوادث ينسبها عمو إلى تنظيم الدولة، إلا أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان قالت إن حكومة الأسد “توظف الرياضيين والأنشطة الرياضية لدعم… ممارساتها القمعية الوحشية”. فقد استخدمت الملاعب الرياضية على اعتبارها قواعد عسكرية لشن الهجمات على المدنيين.
من جانب آخر، وحسب بعض اللاعبين، فقد أُجبرت الفرق على تنظيم مسيرات دعما للأسد، وذلك منذ بداية الحرب. وفي بعض الأحيان كانوا يحملون أعلاما ويرتدون قمصانا عليها صورة الأسد. وفي هذا الإطار، بين أنس عمو، أن “الأسد كان حريصا على أن يظهر للشعب أن الرياضيين والفنانين يدعمونه بقوة، نظرا لأنهم كانوا يتسمون بتأثير قوي في الشارع السوري. حقيقة، لقد كانت تلك المسيرات إجبارية”.
إبان نشوب الحرب الأهلية، وظف الجيش السوري ملاعب دمشق، وحلب، وحمص، وحماة، ومدن أخرى لتكون قواعد ومنشآت اعتقال، وذلك حسب شهادات لاعبين سابقين، ومنظمات حقوق الإنسان، ومقاطع فيديو مصورة التقطها ناشطون. فعلى سبيل المثال، أظهر اثنان من هذه المقاطع، صواريخَ تطلَق من ملعب العباسيين في دمشق. وفي هذا الإطار، قال اللاعب السوري المنشق، فراس العلي لشبكة “إي إس بي إن” الأميركية إن لاعبي فريقه قد أُجبروا على مشاركة ملعب العباسيين مع الجيش السوري.
من جهتها، أجرت شبكة “إي إس بي إن” مقابلات مع لاعبين ومسؤولين حاليين وسابقين، في الاتحاد العربي السوري لكرة القدم، وأصدقاء وأقارب بعض الضحايا. إلى جانب ذلك، اطلعت الشبكة على مراجعات لقضايا وفيديوهات متاحة للجمهور، أكدت منظمات حقوق الإنسان صحتها. وأجريت هذه المقابلات بين شهري سبتمبر/أيلول سنة 2016 ومارس/آذار سنة 2017 في ماليزيا، وألمانيا، وتركيا، والسويد، والكويت، وكوريا الجنوبية.
أفادت الأنباء أن سوريا خرقت قواعد الفيفا التي تقضي بمنع التدخل السياسي في شؤون كرة القدم سنة 2015 خاصة وأن المنظمة الكروية العالمية قد ذُكرت 20 مرة خلال العقد الماضي عندما منعت العديد من الدول من المشاركة في المنافسات الدولية. ولكن في وثائق الادعاء السورية، المؤلفة من 20 صفحة عنوانها: “جرائم حرب في حق لاعبي كرة القدم السورية”، أجابت الفيفا أن هناك “وقائع تراجيدية تفوق بكثير مجال الرياضة”، وتتجاوز صلاحياتها ومجال سيطرتها. في هذا السياق، رفضت الفيفا إجراء حوار مع “إي إس بي إن”، ولكنها أكدت أن دورها لا يتجاوز مجال عملها وقدرتها على التثبت من الوقائع خاصة في مثل هذه الدعاوى المعقدة.
حول هذا الموضوع، أفاد أيمن كشيط، لاعب سوري سابق سلم وثيقة الادعاء يدا بيد للفيفا في مقرها في زيوريخ أن “هناك تناقض بين قرارات الفيفا وقواعدها. فهي تصدر تعليمات لتعطيل عمل المنظمة بدعوى التداخل السياسي للأزمة، بينما تخاض حرب بأكملها في بلد استخدمت فيه الملاعب لتخزين المعدات العسكرية، وقتل فيه الأطفال واللاعبون الذين لم تتجاوز أعمارهم 18 سنة، ورمي فيه لاعبو كرة القدم في السجون”.
تبنت الفيفا، بشكل أساسي، موقف نظام الأسد، الذي يقول إن المنتخب السوري محايد سياسيا.
في هذا الصدد، قال مارك أفيفا، المحامي في الشؤون الرياضية المقيم في لندن، والذي يكتب عن كيفية تطبيق الفيفا لقوانين الاستقلال الخاصة بها، إن الدليل ضد سوريا يتجاوز بمراحل قضايا أخرى أدت إلى تدخل الفيفا، بما في ذلك حالة نيجيريا. وقال أفيفا: “في أي سياق آخر، كانت الفيفا لتكون شغوفةً بالانخراط في الأمر”.
كما وصف فادي دباس، نائب رئيس اتحاد الكرة السوري، هذه المزاعم بأنها كاذبة، وأخبر الشبكة أن الملاعب “لم تستَخدَم قط لأغراضٍ عسكرية”. وقال دباس إنها من فبركة لاعبين في المهجر معارضين لنظام بشار الأسد. كما أشار دباس إلى أن “النظام حمى الشعب، إذ أن مشكلة هؤلاء تتمثل في كونهم يعيشون خارج سوريا ولا يمثلون إلا أنفسهم”.
في شأن ذي صلة، أدى حضور سوريا في مشهد كأس العالم إلى نزاعٍ أخلاقي ليس للفيفا فحسب، وإنما أيضا للاعبين والمشجعين أيضا. فقد فر مئات اللاعبين السوريين إلى الدول المجاورة وإلى أوروبا. من بين أولئك اللاعبين، المدافع فراس العلي، الذي هرب قبل الفجر من المنتخب الوطني خلال معسكر تدريبي للفريق، وفر من البلاد. وذلك بعد وقتٍ قليل من علمه بأن ابن عمه البالغ من العمر 13 سنة لقي مصرعه خلال الهجوم الذي شنّته الحكومة.
يعيش العلي الآن في خيمة مع زوجته وأطفاله الثلاثة في مخيم قرقميش للاجئين جنوبي تركيا. وقد قال العلي في مقابلة مع الشبكة إن اللعب لصالح المنتخب الوطني “أمر مشين. شعرت أنني سأخون أبناء بلدي الذين قتلهم الطغيان والقمع. فأولئك اللاعبون يحملون علم الموت”.
رجل عظيم جدا، بهذه العبارات وصف فجر إبراهيم الرئيس السوري بشار الأسد
في عشية يوم شديد الضباب، والأمطار تتوعد بالهطول، تمدد لاعبو المنتخب الوطني السوري، وهم يرتدون القمصان البيضاء القطنية، في “ذي رويال بينتانغ ريزورت آند سبا”، ينتظرون قدوم الحافلة التي ستأخذهم للتدريبات. لقد كان هذا مقرهم في الجولة الثالثة من تصفيات كأس العالم، التي بدأت في أيلول/سبتمبر سنة 2016 والتي تتواصل حتى شهر سبتمبر/أيلول الجاري.
في هذا الوضع، يبدو المنتخب السوري كالطفل المشرد، الذي ينتقل من بيت إلى آخر بحثا عن ملجأ، إذ كان من المقرر أن تخوض سوريا مبارياتها في العاصمة دمشق وفي حلب، ولكن لن تسمح الفيفا بهذا لأنها لن تتضمن أمن وسلامة اللاعبين والمشجعين.
فبعد أن قضت الجولة الثانية من تصفيات آسيا في سلطنة عمان، أصبحت سوريا عاجزة عن إيجاد مضيف لها في الجولة الثالثة بين كل دول الشرق الأوسط. وقد عرضت منطقة ماكاو الصينية استضافة المنتخب السوري في البداية ولكنها تراجعت لاحقا عن ذلك. وقبل أن ينهار الفريق، تمكن من أن يجد نفسه في مدينة سرمبن الصناعية في ماليزيا، التي تقع في المحيط الهندي وتبعد عن سوريا حوالي 4.700 ميلا.
مر يوم الاستقلال الماليزي، والردهة مغطاة بالأعلام الماليزية، والشعارات الوطنية، وهي ترفرف فوق الفريق السوري ساخرة من حاله حتى أن إحدى الشعارات كُتب عليها: “أنا ابن ماليزيا”. وكان اللاعبون منهكون ومذهولون من الحال التي وصلوا إليها.
بعد ذلك، خاض الفريق التصفيات بعد ثلاثة أيام في أوزباكستان وخسر بنتيجة هدف نظيف. وفي انتظار أن يجد الفريق مستقره الجديد، كان يسافر لمدة 20 ساعة، من طشقند إلى إسطنبول ثم إلى كوالالمبور، قبل أن يركب الحافلة مسافة 40 ميلا إلى سرمبن. وبالتالي، قال عبد الرزاق الحسين قائد الفريق: “لقد سمعنا أن مقرنا سيكون في قطر ثم قالوا سيكون في لبنان أو ماكاو، ولكن لا أدري ما حصل بالتحديد. لم يكن من المنتظر أن نتعرض إلى كل هذا الرفض وعدم القبول”.
المنتخب السوري ينجح في الجولة الثانية من تصفيات كأس العالم في المرتبة الثانية خلف اليابان. وهو ما يعدّ أول اقتراب سوري من كأس العالم منذ 31 سنة
بعد يومين، كان من المقرر أن يلعب المنتخب السوري ضد منتخب كوريا الجنوبية الذي تأهل قبل عقد من الآن أمام 35000 سوري. وخلال انتظارهم، كان اللاعبون يتحدثون فيما بينهم عن عدد المشجعين الذين سيحضرون المباراة، حيث قال أحدهم ممازحا: “نأمل في أن يتجاوز الحضور ثلاثة مشجعين”.
بالنظر إلى التحديات التي تواجه سوريا، فإن نجاحها في الوصول إلى هذه المرحلة كان أمرا صادما. فبالإضافة إلى التحديات اللوجستية وهروب اللاعبين الأساسيين، يعاني الفريق إلى حد كبير من الإفلاس. فقد أُجبرت الفيفا على تجميد أموال تطوير كرة القدم في سوريا بسبب العقوبات المفروضة على البلاد من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
كان من المفترض أن يلعب المنتخب السوري في كل من دمشق وحلب. ولكن لن تسمح الفيفا بلك باعتبار أنها لن تتمكن من ضمان أمن وسلامة اللاعبين والمشجعين. وبالتالي، يلعب الفريق في سرمبن المدينة الصناعية التي تبعد عن سوريا 4.700 ميلا وتطلّ على المحيط الهندي.
على ضوء هذه المعطيات، علّق قتيبة الرفاعي، الأمين العام المتذمر للمنتخب، قائلا إن الفريق يقوم بتدريباته في سرمبن على رقعةٍ محلية بائسة لتجنب دفع أجرة الملعب التي تقدر بحوالي 3500 دولار. كما لا بد من الإشارة إلى أن الرفاعي نفسه لا يحصل على راتب.
في الواقع، أنهت سوريا الجولة الثانية بحلولها في المركز الثاني بعد اليابان. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك يعدّ أقرب ما استطاعت سوريا الوصول إليه في تصفيات كأس العالم منذ 31 سنة. وقد احتفت الفيفا بهذا الفريق الممزق باعتباره منتخبا خارقا، فنشرت قصصا عن الصراع البطولي للفريق للوصول إلى كأس العالم في مواجهة كل الصعوبات. وفي إحدى المقالات المنشورة في شهر فبراير/شباط الماضي، ذُكر أن “ما أنجزته سوريا لا يمكن وصفه بأقل من المعجزة”. في المقابل، أهملت هذه القصص تفصيلا صغيرا يتمثل في أن المنتخب السوري يمثّل حكومةً متهمة بارتكاب جرائم حرب ضد شعبها.
قال فادي دباس، نائب رئيس جمعية كرة القدم السورية، إن المنتخب السوري يلعب من أجل الوحدة، ونحن فخورون برئيسنا بشار الأسد وبما حققه من إنجازات.
تبنت الفيفا، بشكل أساسي، موقف نظام الأسد، الذي يقول إن المنتخب السوري محايد سياسيا. وفي هذا الصدد، قال دباس، رجل الأعمال السوري الذي يشغل منصب رئيس الوفد، إن الهدف الأساسي للمنتخب، إلى جانب التأهل لنهائيات كأس العالم، هو “جمع السوريين معا” “وأن نثبت للعالم أن سوريا بخير، وأنها لا تزال حية وأن المنتخب السوري يمثل “كل سوريا”.
من جهة أخرى، أوضح دباس أن سوريا مخلصة للأسد، إذ قال إن: “كل سوري داخل سوريا يمثل الرئيس بشار الأسد. كما أن فخامة الرئيس الدكتور بشار الأسد يمثلنا ونحن فخورون برئيسنا وبما حققه. ونريد أن نرسل له تحياتنا وشكرنا لما فعله من أجل سوريا، ونحن وراءه وتحت إمرته”. وبحسب دباس، فإن الأسد يشاهد كل مباراة، “ويتابع أدق تفاصيل الفريق”.
اللعبة الجميلة في مواجهة الحقيقة المرة
كان الشعب السوري شاهدا على تعرض مدنه للتدمير، ومقتل ما لا يقل عن 470 ألف شخص. ولكن على الرغم من ذلك، لا تزال كرة القدم، الرياضة الأولى في البلاد، تحافظ على شعبيتها وسط هذه الفوضى
بالنسبة للاعبين الآخرين، فإن تمثيل منتخب بشار الأسد هو خيانة لا يمكن التفكير فيها. من بين هؤلاء اللاعبين هو فراس العلي الذي صرّح قائلا: “لقد كنت أرى سوريا جنة على وجه الأرض، ولكن ليس بعد الآن”. هذا المدافع السابق في المنتخب الوطني لم يعد يعيش في هذه الجنة التي يعشقها، ولكن حياته الآن ليست أفضل، إذ أنه يعيش في مخيم قرقميس للاجئين، الذي يشبه إلى حد كبير السجن.
في الواقع، هذا المخيم الموجود على الحدود الجنوبية لتركيا قرب سوريا، محاط بجدران رمادية وأسلاك شائكة، ويخضع لمراقبة أمنية مشددة من السلطات التركية. وعموما، يمكن لسكان المخيم البالغ عددهم 6886 المغادرة متى شاؤوا. لكن المشكلة تتمثل في أنه ليس لديهم مكان يذهبون إليه ولا إمكانيات للوصل إلى وجهتهم.
في الماضي، كان فراس العلي يمتلك ثلاثة منازل. وفي الوقت الراهن، يقبع جلّ ما تبقى من ممتلكاته مكدسا في خيمة بيضاء كبيرة، وهي واحدة من مئات الخيم المقامة في خطوط متناظرة فوق هذه الأرض تحت الشمس الحارقة.
لا تبدو خيمة العلي أكبر أو أصغر من خيام جيرانه، ولكنها كانت مرتبة ونظيفة من الداخل بشكل لافت حيث كانت جوانبها مزينة بستائر من قماش الدانتيل الأبيض، وبعض الأثاث الخشبي الشرقي، ومجلس مريح في شكل نصف دائرة. وفي الوسط، كان هناك إبريق شاي فضي فوق موقد صغير، فضلا عن تلفاز صغير وثلاجة. منذ ثلاث سنوات، يعيش العلي البالغ من العمر 31 سنة رفقة زوجته وأطفاله الثلاثة، وقد ولدت أصغر بناته، وهي عائشة، في هذا المخيم.
بالنسبة للمتابعين لعالم كرة القدم السورية، فإنه من الصعب فهم المصير الذي انتهى إليه هذا النجم، الذي يعيش في الخيام بين أنصاره ومعجبيه. وتجدر الإشارة إلى أن العلي لعب سابقا ضمن أكبر الأندية في دمشق، وكان يكسب حوالي 125 ألف دولارا في كل موسم، وهو ما يمثل مبلغا خياليا في سوريا.
يمارس الفريق السوري التمارين في ملعب خسيس لتجنب دفع تكاليف إيجار ملعب التي تقدّر بحوالي 3.500 دولار
الأهم من ذلك أن العلي كان يحمل قميص المنتخب الوطني، حيث صرّح قائلا: “من بين 23 مليون مواطن سوري، تم اختياري ضمن قائمة أفضل 20 لاعبا في بلادي، لقد كنت مشهورا ومعروفا أينما حللت. كما أن حالتي المادية كانت أكثر من ممتازة، فقد أنشأت عائلة واكتسبت سمعة جيدة، ولم أفكر يوما في مغادرة بلدي لأي سبب من الأسباب”. واليوم، يعيش فراس العلي كلاجئ، ويعاني من قلة الحيلة، حيث تتكفل السلطات التركية عبر منظمات خيرية بتوفير الاحتياجات الأساسية لهذه العائلة.
في المقابل، على الرغم هذه المعاناة، يقول العلي إنه يفضل العيش في مخيم للاجئين على اللعب مع المنتخب السوري. ففي سنة 2011 عندما هاجمت قوات الأسد مدينة حماة، مسقط رأسه، واستهدفت ابن عمه عبد الله، البالغ من العمر 19 سنة، والذي كان يدرس علوم الجغرافيا في الجامعة، ما أدى إلى مقتله في إحدى المظاهرات.
في هذا السياق، قال فراس معلقا على هذه الحادثة: “لقد اخترقت الرصاصة عينه وخرجت من رأسه”. ومن جهته، واصل الأسد إلقاء البراميل المتفجرة المعبأة بالغازات السامة على منازل المدنيين من طائرات الهليكوبتر، وقد اخترقت إحدى البراميل سقف منزل ابنة أخيه التي توفيت على الفور وهي في مطبخها.
في الحقيقة، وصل العلي إلى ذلك المكان بعد دقائق قليلة، وكان من المروع بالنسبة له مشاهدة إنسان مقطع إلى أشلاء. وإثر هذه الحادثة، التحق العلي بالمظاهرات، وكان يغطي وجهه لأنه شخص معروف جدا لدى الجميع. وبدأ العلي يشعر بأنه يعيش حياة مزدوجة، فهو يقف ضد نظام الأسد في الشوارع، وفي نفس الوقت يمثله في الملاعب.
في صباح أحد الأيام، حضر العلي لإجراء التمارين في ملعب العباسيين في دمشق، ليكتشف أن المكان تم تحويله لقاعدة عسكرية. فقال العلي: “لم يبقى لنا إلا نصف الملعب، أما النصف الآخر فقد احتلته الشعبة الرابعة من الجيش السوري. لقد شاهدت هذا الأمر بأم عيني، فقد وضعوا المدفعية في الأماكن المخصصة للرياضيين. لقد كانوا يستعدون للخروج وقمع مظاهرات الشعب انطلاقا من الملعب الذي كنت أمارس فيه كرة القدم. وكنت أسمع الطلق الناري من داخل الملعب، بينما كان المتظاهرون عزّلا ويعبرون عن مواقفهم بشكل سلمي. في ذلك الوقت، كان الطرف الوحيد الذي يحمل السلاح هو النظام”.
كان فراس العلي يمتلك ثلاثة منازل في سوريا، إلا أنه يعيش حاليا في خيمة داخل مخيم قرقميش للاجئين في تركيا مع زوجته وأطفاله الثلاثة.
كان فجر إبراهيم مدرب المنتخب الوطني آنذاك. ويعد إبراهيم من الموالين للأسد، حيث ارتدى قميصا يحمل صورة الرئيس السوري قبيل مباراة تندرج ضمن تصفيات كأس العالم. ووفقا لما أفاد به فراس العلي، تحدث إبراهيم علنا عن الحاجة إلى سحق المظاهرات، كما أخبر اللاعبين أن فوزهم في المباريات، سيجعل سوريا تُظهر للعالم أن الانتفاضة ليس لها تأثير يُذكر. في المقابل، كانت مواقف اللاعبين منقسمة. وفي هذا الصدد، قال العلي “كنا ندمر أنفسنا”. كان فراس العلي يشعر بالإحباط المتزايد وكان أداءه على أرضية الملعب في تراجع. وأضاف العلي “كنت مشتت التفكير للغاية. لقد كان الموت يتخطّف الأصدقاء والأقرباء”.
في بعض الأحيان، كان فراس العلي يقيم في فندق “بلو تاور”، من صنف أربع نجوم والواقع في شارع الحمرا في دمشق. وخلال إحدى الليالي التي عجز فيها عن النوم، شاهد العلي بأم عينيه الرعب من نافذة غرفته في الطابق الثامن، حيث قامت الحكومة بقصف الأحياء المدنية في جميع أنحاء المدينة. وفي هذا الصدد، أفاد العلي أن “الأمر كان كما لو كنت أشاهد أحد أفلام الحركة على شاشة التلفزيون، كان الرعب يتملكني”.
أخذت الحكومة تجبر اللاعبين على المشاركة في المظاهرات الداعمة للأسد
في ليلة أخرى، وبينما كان المنتخب الوطني يتدرب استعدادا لبطولة في الهند، تلقى فراس العلي خبر مقتل ابنه عمه، علاء، البالغ من العمر 13 سنة، أثناء هجوم شنته الحكومة على قريته خارج حماة. وبعد ثلاثين دقيقة، انضم العلي إلى أعضاء المنتخب الوطني لتناول العشاء. وعلى خلفية سخرية أحد زملائه من المتظاهرين، ألقى العلي ملعقة عليه قبل أن يتدخل بقية اللاعبين في الفريق للتفرقة بينهما. ومن ثم، عاد العلي إلى غرفته واتصل بعائلته، حيث قال لأخته “لقد انتهى الأمر”، وحينها أجابته أخته “ماذا تعني بذلك؟”، ليردّ عليها العلي، قائلا: “لا أريد أن ألعب لصالحهم، مطلقا”.
في الأثناء، قام العلي بترتيبات حتى يُقله اثنان من إخوته على الساعة الخامسة والنصف من صباح اليوم التالي. ومن هناك انطلق إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة المتمردين، حيث كان الجنود الذين يتعرفون عليه على نقاط التفتيش يلوحون له، نظرا لأنه لاعب مشهور إلا أنهم لم يكونوا على علم بأنه بصدد الفرار من النظام.
خلال الجولة الثالثة من تصفيات كأس العالم، عجز المنتخب السوري عن إيجاد مضيف له في الشرق الأوسط
إثر ذلك، عبر اللاعب الحدود إلى تركيا برفقة عائلته الصغيرة. وعلى الرغم من شعوره بالحرية، إلا أن تحديات جديدة ظهرت أمامه فجأة. في هذا الإطار، صرّح فراس العلي، قائلا: “كنت أمتلك بعض الأموال في البنك، وقد استولى عليها النظام بعد انشقاقي عنه. كنت أحظى بثلاثة منازل تم تدميرها، في حين تم الاستيلاء على قطعة أرض كانت ملكي. لقد ذهبت جميع أموالي أدراج الرياح”.
أثناء وصفه للتحول الذي طرأ على حياته، كان فراس العلي يجلس داخل المكان الذي تحول إلى مركز تجاري في مخيم قرقميش، والذي يتمثل في صف من الأكشاك الخشبية التي تبيع كل شيء؛ انطلاقا من الطعام إلى السلع المعلبة وصولا إلى أدوات الطهي والمولدات الكهربائية. وفي الأثناء، جلب أحد الباعة أطباقا من اللحم المشوي التي سارع العلي بإدخالها إلى أحد الأكشاك، وهو عبارة عن متجر أجهزة ضيق، تجنبا لسقوط الذباب فيها.
عموما، تتمحور أيام فراس العلي حول تعليمه كرة القدم للأطفال، الذين غالبا ما يندفعون للقائه باعتباره شخصية مشهورة في المخيم. وخلال الساعات المتأخرة من الصباح، وفي الوقت الذي تخترق فيه الشمس كثبان الضباب الصحراوي، يتجمع العلي برفقة أكثر من 30 طفلا على لوح صلب يتناثر فوقه الزجاج المكسور من أجل التمدد والجري والتشاجر فيما بينهم. وفي بعض الأحيان، تجد الكرة طريقها إلى العلي الذي يتلاعب بها بالبراعة ذاتها التي كان يتسم بها في حياته السابقة.
من جانبه، قال العلي إن “الأمر صعب، بيد أنني لست نادما على أي شيء على الإطلاق. كيف سيكون شعور من يلعب باسم هذا العلم ويحمل صورة الشخص الذي يمثل السبب الوحيد وراء قتل وموت وطرد أكثر من سبعة ملايين سوري؟”.
“العار على الفيفا”: واجه لاعب سابق الفيفا بشأن الفظائع السورية إلا أن الفيفا أعلنت أنها لن تتورط في ذلك.
يبقى السؤال المركزي بالنسبة للخطيب وللعلي والملايين من المشجعين بشأن ما تمثله كرة القدم داخل سوريا في الوقت الذي يستمر البلاد في التمزق والتلاشي. هل بإمكان المنتخب الوطني أن يكون بمثابة واحة يعمها السلام ومكان حيث يتحد السوريون؟ أو أنه ليس سوى سلاح آخر بيد الأسد ليظهر معالم الحياة الطبيعية ويضفي الشرعية على سلطته؟
بالنسبة لأنس عمو، فقد ظل يفكر في هذا السؤال مطولا وكانت إجابته عليه، الركيزة الأساسية لتكوين قضية رياضية لحقوق الإنسان ضد الحكومة السورية. وقد رأى عمو في هذا المشروع طريقة لخدمة المعارضة الذي انضم إلى صفوفها منذ خمس سنوات، حين أدرك أن الرياضيين كانوا من بين أبرز ضحايا وحشية الأسد وأن الحكومة كانت تستخدم كرة القدم، التي مثلت شغف عمو، أداة للدعاية. ومع سقوط عشرات الرياضيين قتلى ونزوح آلاف آخرين إلى المخيمات، يؤمن أنس عمو أن “جيلا كاملا من لاعبي كرة القدم قد اختفى في سوريا”.
في مدينة مرسين التركية، يعمل أنس عمو في مكتب مؤثث بشكل بسيط ويتكون من غرفتين، وذو إطلالة بعيدة عن البحر الأبيض المتوسط. في الواقع، لاذ عمو بالفرار من حلب حيث عمل كاتبا رياضيا لصحيفة الوطن السورية ومتطوعا مسؤولا عن العلاقات العامة مع نادي الاتحاد، وهو نادي كرة القدم الأول في المدينة.
وفقا لما أفاد به أنس عمو، كان يعمل مع الاتحاد خلال سنة 2011، عندما أخذت الحكومة تجبر اللاعبين على المشاركة في المظاهرات الداعمة للأسد. فضلا عن ذلك، صرّح لاعبون سابقون لشبكة “إي إس بي إن” أن مثل هذه الأوامر كانت أمرا شائعا، حيث قال عمو، إن “اللاعبين كانوا غاضبين للغاية لإجبارهم على الخروج إلى الشارع. شعرت بالحزن حقا حين رأيت الرياضة تُستغل بهذه الطريقة”.
مع تصاعد وتيرة الحرب الأهلية، بدأ الجيش في استخدام الملاعب في دمشق، وحلب، وحماة، وحمص، ومدن أخرى كقواعد ومراكز للاحتجاز وفقا لما أفاد به لاعبون سابقون ومراقبون لحقوق الإنسان فضلا عن مقاطع الفيديو التي التقطها مجموعة من الناشطين. وعلى سبيل المثال، يظهر اثنان من مقاطع الفيديو ما يبدو أنه إطلاق للصواريخ من الميدان في ملعب العباسيين في دمشق، المرفق ذاته الذي قال فراس العلي أن اللاعبين اضطروا لمشاركته مع الجيش السوري.
الفيفا “متواطئة في كافة الجرائم التي تم ارتكابها ضد لاعبي كرة القدم والضرر الذي لحق بالملاعب والمرافق الرياضية”.
أما فادي دباس، نائب رئيس الاتحاد السوري لكرة القدم ورئيس وفد المنتخب الوطني، فقد وصف هذه المزاعم بالكاذبة حيث أخبر شبكة “إي إس بي إن” أن الملاعب “لم تُستخدم قط لأغراض عسكرية”. علاوة على ذلك، ألقى دباس باللوم على وسائل الإعلام الغربية التي اتهمها بالانحياز. والجدير بالذكر أن قوانين الفيفا، التي تُطبّق على منظمات من قبيل الاتحاد السوري لكرة القدم، تنص على أن “كل عضو يجب أن يدير شؤونه بشكل مستقل ودون تأثير من أطراف ثالثة”.
في شأن ذي صلة، استحضرت الفيفا بند الاستقلالية على الأقل 24 مرة خلال العقد الماضي، ما أدى إلى 20 تعليقا عن اللعب الدولي ردا على النشاط الذي اعتبره المنظمة تدخلا من طرف الحكومة. خلال سنة 2009 على سبيل المثال، علّقت الفيفا نشاط المنتخب العراقي بعد أن علمت أن الحكومة حلّت الاتحاد العراقي لكرة القدم وأرسلت عناصر الأمن للسيطرة على مقراته. كما أوقفت الفيفا نشاط المنتخب النيجيري سنة 2014 بعد أن حلّت الحكومة قيادة الاتحاد النيجيري لكرة القدم على إثر النهاية المخيبة للآمال لمشوار الفريق خلال نهائيات كأس العالم في البرازيل.
في هذا السياق، آمن أنس عمو أن ممارسة العنف ضد اللاعبين واستغلال النوادي لأغراض دعائية، فضلا عن توظيف الملاعب لأغراض عسكرية مثّل خرقا لقوانين الفيفا. ومن خلال عدم اتخاذها أي تدابير ضد سوريا، اعتبر عمو الفيفا “متواطئة في كافة الجرائم التي تم ارتكابها ضد لاعبي كرة القدم والضرر الذي لحق بالملاعب والمرافق الرياضية”.
كان عمو قد أرسل رسالة عبر البريد الإلكتروني تضم كافة المعلومات التي جمعها إلى أيمن كشيط، أحد قدماء اللاعبين في الدوري الأول السوري الذي أصبح يعيش في السويد حيث تم منحه الإقامة، والذي كان يقطن بالقرب من مقر الفيفا في زيورخ.
أعدّ لاعب كرة القدم السابق، أيمن كشيط، قضية في حقوق الإنسان وقدّمها للفيفا
سافر كشيط إلى زيورخ ليواجه الفيفا خلال شهر آب/أغسطس سنة 2014، وحين تم إبعاده من على بوابة مقر المنظمة، قرر أنه بحاجة إلى تجميع تقرير كامل إذا ما أراد أن يكون له أي تأثير. ومن هذا المنطلق، تلقى كشيط دورة تدريبية تقدمها منظمة العفو الدولية حول كيفية توثيق انتهاكات حقوق الإنسان. وتمثلت النتيجة في “شكوى” مكونة من 20 صفحة تم إعدادها بناء على عمل أنس عمو، وتم تقديمها بالنيابة عن “أكثر من 2000 رياضي منشق عن الاتحاد العربي السوري لكرة القدم”.
كتب كشيط الشكوى باللغة الإنجليزية، وهي واحدة من اللغات الرسمية الأربع للفيفا، حيث كانت الوثيقة محررة على شكل غير نحوي وتدور حول الوقائع. فضلا عن ذلك، نوّه كشيط في شكواه “بجرائم حرب ارتكبتها قوات الحكومة في سوريا ضد لاعبي كرة قدم وملاعب كرة قدم وصمت الاتحاد السوري لكرة القدم عن هذه الجرائم”.
من جهة أخرى، ضمّت الشكوى قائمة بأسماء 10 لاعبين يُعتقد أنهم معتقلون لدى الحكومة، بالإضافة إلى صور تسعة منهم. كما تشمل قوائم أخرى أسماء 11 لاعبا تحت سن الثامنة عشر و20 آخرين فوق سن الثامنة عشر الذين قيل إنهم قُتلوا على أيدي قوات الحكومة. كما يُظهر قسم آخر صورا ومقاطع فيديو لملاعب استولت عليها قوات الجيش السوري. وقال كشيط إنه حاول إرسال المعلومات عبر البريد الإلكتروني إلى الفيفا لكنه لم يتلق أي رد. ومن ثم عاد إلى زيورخ وسلم الوثيقة إلى مكتب الاستقبال إلا أن محاولته لم تفض هي الأخرى إلى شيء.
خلال شهر آب/أغسطس سنة 2015، عاد كشيط إلى مقر الفيفا وبرفقته هذه المرة مترجم ساعده على تصوير لقائه. وبعد تجادله مع موظف الاستقبال، تمكّن كشيط في نهاية المطاف من التحدث إلى مدير اتصالات المؤسسات بالفيفا، ألكساندر كوخ. وتكفل المترجم بنقل طلب كشيط إلى كوخ، حيث تحدث في الفيديو عن أن “كشيط يقول إنه في حال قررت الفيفا متابعة الوثيقة، فسيكون ذلك موضع تقدير كبير حيث أن الطريقة الوحيدة لممارسة الضغط هي عن طريق الفيفا نظرا لأن الفيفا تعد بمثابة المظلة لهذا الاتحاد”.
من جانبه، بدا كوخ متوترا قليلا، ومن ثم قال إن “المشكلة التي أراها أمامي لا تمت بصلة لكرة القدم”. كما أخبر كوخ كشيط بضرورة تقديم هذه الشكوى إلى الاتحاد العربي السوري لكرة القدم، الذي بإمكانه فيما بعد تقديمها إلى الفيفا. في المقابل، حاول كشيط جعل كوخ يُدرك أن الشكوى مُقدّمة ضد الاتحاد العربي السوري لكرة القدم، المدعوم من قبل حكومة الأسد.
الفيفا “رأت بوضوح أن من مصلحتها عدم التورط” في أزمة سياسية تشمل القوى العظمى في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، التي تستضيف تصفيات كأس العالم خلال السنة المقبلة
لاحقا، صرّح كشيط لشبكة “إي إس بي إن” قائلا: “كيف بإمكانك أن تطلب من اتحاد كرة القدم تقديم شكوى رسمية في الوقت الذي تكون فيه هذه الشكوى مُقدّمة ضد الاتحاد السوري لكرة القدم في الأساس؟ من الواضح والجلي أن هذا الاتحاد يمثل جزءا لا يتجزأ من الحكومة. بالتالي، لن يصدق أحد العكس”. وبعد مرور شهر، تلقى كشيط رسالة من نائب الأمين العام للفيفا، ماركوس كاتنر، مؤكدا من خلالها على أن المسألة تتجاوز سيطرة الفيفا.
جاء في رسالة كاتنر، الذي انتهى به المطاف مفصولا من وظيفته بسبب سوء التصرف المالي أثناء عمله مديرا ماليا للفيفا أن “الفيفا تدعم تماما أية مساعي لضمان تمتع جميع الرياضيين بممارسة رياضة كرة القدم في بيئة خالية من العنف، كما نشكركم على مبادرتكم”. وأضاف كاتنر أن الملابسات التي تم وصفها في التقرير “تتجاوز بكثير” مجال الرياضة.
كان وقع هذه الإجابة محطما بالنسبة لكشيط الذي قال: “العار على الفيفا”، خلال مقابلة لم تخلُ من الدموع في مدينة هلسينغبورغ. وأورد كشيط “لم أطلب من الفيفا أن تتخذ قرارا على الفور، بل طلبت منها أن تقوم بالتحقيق. وفي حال خلا التحقيق من الدقة، فسيكون حينها بإمكانهم تجاهل المعلومات والرفض”.
سعت شبكة “إي إس بي إن” لمقابلة مسؤولين في الفيفا بشأن سوريا ومنتخبها الوطني، إلا أن الفيفا رفضت هذا الطلب. وفي هذا السياق، أرسل متحدث باسم المنظمة بيانا مشابها للبيان الذي أُرسل إلى كشيط حيث جاء فيه أن “الفيفا تم إعلامها، على مدى السنوات الأخيرة، بمزاعم من قبل عدة أطراف، التي غالبا ما تكون معلومات متضاربة وفقا لمصادر مختلفة، التي تتمحور حول العنف الذي أثر على ممارسة كرة القدم في البلاد”.
وأضاف المتحدث أنه “في الوقت الذي نتفهم فيه تماما الظروف المأساوية التي تحيط بهذه الأحداث، وباعتبارنا هيئة تشرف على الرياضة ندرك أيضا أن هذه الأعمال المزعومة تتجاوز نطاق المسائل الرياضية في حالة البلد الغارق كليا في حرب أهلية”. في الواقع، يُمنع على الفيفا الإتيان بأي إجراء بسبب “حدود اختصاصنا القضائي وقدرتنا على التحقق من أي ادعاءات مثلما ما هو الحال في هذا الوضع المعقد”، وذلك وفقا لما أفاد به البيان.
من جانبه، أشار مارك أفيفا، المحامي المختص في الشؤون الرياضية المقيم في لندن، الذي كتب عن طريقة تطبيق الفيفا لقوانين الاستقلال الخاصة بها، إلى أن الدليل المُقدّم ضد سوريا يتجاوز بكثير قضايا أخرى، بما في ذلك قضية نيجيريا، وهو ما يدفع الفيفا إلى التدخل. وأوضح أفيفا أن “الفيفا كانت لتحرص على الانخراط في المسألة في أي سياق آخر”.
فضلا عن ذلك، أوضح أفيفا أن الفيفا “رأت بوضوح أن من مصلحتها عدم التورط” في أزمة سياسية تشمل القوى العظمى في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، التي تستضيف تصفيات كأس العالم خلال السنة المقبلة. وقال أفيفا إن التحرك ضد سوريا سيتطلب المزيد من الشجاعة.
“لا للسياسة”: عاد فراس الخطيب إلى فريق كرة القدم السوري بعد تعهدّه بعدم القيام بذلك ما دام القصف مستمرا على المدنيين.
خلال ليلة باردة من ليالي شهر آذار/مارس سنة 2017، دخل لاعبو كوريا الجنوبية وسوريا الواحد تلو الآخر إلى ملعب كأس العالم في سيول، الذي تم تشييده قبل استضافة كوريا الجنوبية لنهائيات كأس العالم سنة 2002. وتجدر الإشارة إلى أن الملعب الذي يضم 66.704 مقعدا يسلط الضوء على تواضع نظيره في ماليزيا الذي لعب فيه المنتخب السوري من قبل.
فضلا عن ذلك، يمتاز الملعب، من بين وسائل الراحة الأخرى، بسقف متوهج يشبه طائرة ورقية كورية. وفي سبيل دعم الفريق المضيف، الملقب بالشياطين الحمر، ارتدى العديد من المشجعين قرونا حمراء وامضة، فيما ارتدى اللاعبون السوريون أزيائهم الحمراء المعتادة. ولكن شهد ذلك اليوم تغييرا كبيرا تمثل في انتهاء مقاطعة فراس الخطيب. في الحقيقة، عاد الخطيب قبل أسبوع للعب ضد أوزبكستان، وأصبح مؤهلا مرة أخرى ليشارك في المباراة الحاسمة ضد كوريا الجنوبية.
في المقابل، قلل الخطيب والمسؤولون السوريون من أهمية هذا التغيير حيث أشار الخطيب إلى أن العودة لم تكن قراره الخاص مصرّحا أنه “لم تتم دعوتي إلى اللعب في المرة الأخيرة”. أما رئيس الوفد، فادي دباس، فقال إن الخطيب “مُرحّب به في الفريق في أي وقت بيد أن وضعه لم يسمح له بالمشاركة”.
بغض النظر عما ذُكر آنفا، يبدو من الواضح أن المهاجم أصبح تحت إمرة سيد جديد. وخلال اليوم الذي سبق المباراة، وبعد موافقة الخطيب على إجراء لقاء مع “إي إس بي إن”، دفع به مسؤولون سوريون إلى أحد المصاعد وتطلب الأمر مفاوضات محتدمة بين الشبكة والمسؤولين السوريين في ردهة الفندق ليسمحوا أخيرا بإجراء اللقاء مع اللاعب. وفي الأثناء، طلب المتحدث باسم الفريق، بشار محمد، عدم التحدث في السياسة بيد أنه لم يتلق أي ضمانات على ذلك.
أفاد الخطيب أنه عاد للمنتخب لمحاولة إخراج سوريا، وإن كان ذلك للحظة واحدة، من جحيمها الذي لا ينتهي
من جهته، أعطى الخطيب انطباعا بتخلّيه عن السياسة، حيث قال: “لن نتحدث عن السياسة، وإنما سنتحدث فقط عن الرياضة وعن كرة القدم. لقد عدت نتيجة قرار رياضي وليس سياسي”. وأضاف الخطيب أن المنتخب الوطني “هو لكل الناس، ولسوريا بأكملها” وليس للحكومة فقط. علاوة على ذلك، لم يعد الاستمرار في المقاطعة خيارا قائما، حيث “ليس بإمكاننا البقاء وانتظار الطريقة التي سنموت عليها. لا، لا يمكننا البقاء في المنزل ومشاهدة التلفزيون وانتظار ما سيحدث في هذه الحرب. ينبغي علينا أن نقوم بأمر ما لصالح عائلتنا، وبلدنا، وأصدقائنا، ولأنفسنا”.
من جانب آخر، لم يقتنع الجميع بهذا الكلام، حيث تباينت ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي. أما الخطيب، فأشار إلى أن 80 إلى 90 بالمائة من المشجعين السوريين يؤيدون عودته، إلا أن الرسائل على صفحته على فيسبوك تكشف عن حجم هائل من الغضب إزاء ما اعتبره البعض بمثابة الخيانة من قبل الخطيب. ومن بين ردود الفعل التي وردت، تساءل أحدهم “كيف هو الشعور حين تخون بلدك وشعبك؟ كيف تشعر وأنت تخون حمص، التي يفر سكانها من ظروف مروعة في الوقت الذي قررت فيه أن تقف إلى جانب النظام؟ إن أقل ما يمكن وصفك به هو أنك خائن”.
وصل الأمر بالبعض إلى توجيه الشتائم، حيث قال أحدهم “لعنة الله عليك، فقيمتك لا تعادل قيمة حذاء قديم. لا أعلم السبب الذي يجعل أولئك الذين يدّعون أنهم من المشاهير والممثلين في سوريا من أقذر الناس على وجه الأرض. ستدفع الثمن في الحياة الدنيا قبل الآخرة”. وأضاف آخر: “يا للعار يا فراس، إن عهدك شبيه بعهد طفل صغير، أيها الكاذب”.
يتنافس فراس الخطيب على افتكاك الكرة خلال مباراة التصفيات المؤهلة لكأس العالم في سيول بعد انتهاء فترة مقاطعته للمنتخب الوطني التي دامت خمس سنوات.
خلافا لذلك، دلّت بعض ردود الأفعال الأخرى على تسامح أكبر، حيث قال أحد الناشطين الإعلاميين في حي الوعر المحاصر داخل حمص، ويدعى محمد الحمصي، إنه لا زال يتابع نشاط المنتخب، ذلك أن “الرياضة عموما تظل الشيء الوحيد الذي يربطنا بالماضي. لن أقول إن المنتخب السوري يمثل الطيف السوري بأكمله، غير أنه يمثل الماضي الجميل. بالتالي، ينبغي أن تبقى الرياضة منفصلة عن الصراع القائم”.
تجدر الإشارة إلى أن فراس الخطيب، الذي لا زال في طور التأقلم مع الفريق الذي لم يقده منذ خمس سنوات، قد بدأ المباراة على مقاعد البدلاء. في الأثناء، أحرزت كوريا الجنوبية الهدف الأول خلال الدقيقة الرابعة، ليُمضي السوريون بقية المباراة في محاولة تذليل الفارق. ومن ثم، دخل الخطيب بداية الشوط الثاني لتتغير الأوضاع على الفور ويتحول الفريق السوري إلى الهجوم.كان الملعب نصف ممتلئ تقريبا، أما الجماهير التي كانت مبتهجة في وقت سابق، فقد بدأ التوتر يظهر عليها خاصة مع استمرار تهديدات المنتخب السوري. ومع اقتراب انتهاء الوقت، وصلت الكرة إلى الخطيب الذي كان بمفرده على يسار شبكة المرمى. وعلى بعد 10 أقدام، سدد الخطيب الكرة بقدمه اليسرى مباشرة نحو رأس حارس المرمى. ونجح الحارس، سون تاي كوون، في وضع يديه أمام رأسه في اللحظة الأخيرة ليصدّ الكرة بعيدا.
خلال الوقت الإضافي، ومع عودة الجمهور إلى الصراخ، حظي الخطيب بفرصة أخرى، حيث انفرد مجددا في المكان نفسه تقريبا، وصوب الكرة بطريقة صاروخية كانت أعلى من سابقتها هذه المرة. ولكن، ارتطمت الكرة بالعارضة ارتطاما قويا حتى أن صوتها سُمع من نصف الملعب لترتد بعد ذلك بعيدا.
في شأن ذي صلة، أفاد الخطيب أنه عاد للمنتخب لمحاولة إخراج سوريا، وإن كان ذلك للحظة واحدة، من جحيمها الذي لا ينتهي، كما قال “اتخذت القرار الصائب أخيرا، وآمل منح الشعب السوري الفرصة للشعور بالسعادة”. في المقابل، لم تتحقق أماني الخطيب تلك الليلة، ذلك أن الهزيمة بهدف دون مقابل وضع منتخب سوريا بعيدا عن المركز الثالث بأربع نقاط، ولم يتبق أمامه سوى ثلاث مباريات أخرى لتشارف آماله المتعلقة بكأس العالم على نهايتها.
بعد مرور أسبوع، وردت أخبار أخرى من سوريا ارتبطت بشكل غير مباشر بالوعد الذي قطعه الخطيب على نفسه منذ وقت طويل بعدم اللعب طالما يواصل الأسد قتل المدنيين. وقد قصفت الحكومة هذه المرة قرية خان شيخون الخاضعة لسيطرة المعارضة بسلاح كيميائي، وهو غاز السارين. في الواقع، كانت الصور مروعة حيث أصيب ضحايا الهجوم بالشلل فيما كان الزبد يخرج من أفواههم. بالإضافة إلى ذلك، تقلصت أعينهم لتصبح أقرب منها إلى ثقب الدبوس. وكان الأطفال نصف عراة يجلسون بلا حول ولا قوة داخل البرك، ويتنفسون بشق الأنفس.
في أعقاب الهجوم الكيميائي الذي وقع خلال شهر أبريل/نيسان على قرية خان شيخون الخاضعة لسيطرة المتمردين في سوريا
يتبع في الجزء القادم ..
المصدر: شبكة إي إس بي إن