بعد 3 أشهر من القتال الشرس على جبهة الرقة بين تنظيم الدولة الإسلامية والميليشيات الكرديّة، بثّ التنظيم إصدارا مرئيا يوثّق سير المعارك في أحياء متفرّقة من المدينة المنكوبة، كما كشف عن مفاجئات جديدة بخصوص بعض الأسلحة المعدّلة التي دخلت ساحة المعركة.
الجهاز الإعلامي لتنظيم الدولة نشر إصدارا مرئيا جديدا بلغت مدّته 37 دقيقة، كان مختلفا شكلا ومضمونا عن الإصدارات الأخيرة لولاياته المختلفة، لخّص في بدايته مسيرة 3 سنوات من القتال والحكم والإعداد لمواجهة “أعداء دولة الخلافة” زاعما أن “الدولة الإسلامية ربحت المعركة وخسر أعداؤها ما لأجله يحاربون ونزل الصليبيون على الأرض وإنهم لمغرقون”
هذا منهجنا العام
كان لافتا في بداية الإصدار الأخير حديث تنظيم الدولة عن منهجه العام وقراءته لسير المعارك في سوريا والعراق ورؤيته المستقبليّة لمسار الأحداث، فأشار إلى أنه “أعد جيلا لا يعرف الخنوع” و”بعث السرايا تصول في ديار الطواغيت وهاهم أعداؤها مجتمعين يتجرعون العلقم والحنظل” و”مزق النصيرين بحرب طويلة أهلكتهم والآن الحرب في الصحراء تبتلع جيوشهم”.
بعد ذلك انتقل الإصدار للحديث عن المعارك مع قوات سوريا الديمقراطية وكيف أن “الدولة” “أفنت جيلا كاملا من “ملاحدة الأكراد فراحوا يجنّدون العرب عنوة يأخذونهم من الأزقة والطرقات ولازالت الحرب متّقدة تفنيهم ألسنة نيرانها” مذكّرا بأن من أسماهم بـ”الصحوات” في سوريا “اندثر ذكرهم وصار داعمهم بالأمس يهددهم بالسحق والإبادة”.
ادّعى التنظيم أنه “كشف للعالم عجز أمريكا وضعفها وفضح حقدها على أهل الإسلام”
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هو الآخر كان له نصيبا من هجوم تنظيم الدولة، وذلك بنشر صورة من اجتماعه الأخير مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر والتعليق عليها بالقول إن “الدولة” “أظهرت ما خفي من عمالة الطواغيت”.
التنظيم يتوعّد الولايات المتحدة
النصيب الأكبر من الوعيد في مقدّمة الفيديو التي لا تتجاوز دقيقتين، كان للولايات المتحدة الأمريكية التي تقود التحالف الدولي، حيث ادّعى التنظيم أنه “كشف للعالم عجز أمريكا وضعفها وفضح حقدها على أهل الإسلام” متوعّدا إياها بالقول “ستغرقين أمريكا فالموصل لم يذهب منها جزء إلا وسحقنا من الرافضة الآلاف ولم تنته المعركة بعد وغيرها كثير وأما الرقة ستكون مقبرة جيشكم الجبان ولن تنتهي المعركة حتى يأكل لهيبها جنودكم وليصبحنّ الفرار حينها أسمى أمانيكم ولن تقدروا ولتغرقن في بحار الدماء ولتعلم أمريكا وليعلم وكلاؤها وأعداء الله أجمعون أن سفينة الخلافة ستنجو ومن ركب فيها وإنكم مغرقون”.
وأضاف المعلّق على الإصدار متحدّيا “نعم ستغرقين أمريكا كما أغرقت الأمم الكافرة قبلك ولن تضيع دماء المسلمين التي أرقتها في العراق وخراسان والشام وليبيا وغيرها إن شاء الله وسيفنيك الله كما أفنى دولا كانت أقوى وأعتى”.
بعد هذا التمهيد، بدأ التنظيم بإظهار بعض جرائم التحالف الدولي ضد المدنيين في الرقة، فنشر مقاطع توثّق تسوية عشرات المباني السكانية بالأرض ومقتل عشرات المدنيين تحت الأنقاض أمام عجز فرق الإنقاذ وعائلات الضحايا عن إنقاذهم لضراوة القصف وحجم الدمار المهول، والهدف من ذلك، إبراز أن المدنيين دون غيرهم كانوا ضحايا الغارات الجوية والقصف المدفعي على المدينة.
طيران التحالف الدولي والطيران الروسي كان له الدور الأبرز في انحساره وحصاره في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان وسيناء
في ذات السياق، نشر التنظيم في إصداره المرئي، فيديوهات من داخل إحدى المستشفيات لتوثيق جانب من الإصابات البليغة في صفوف المدنيين كبارا وصغارا مبرزا الزحام الشديد داخله وعجز الإطار الطبي عن إنقاذ الجرحى، وأخرى توثّق استخدام الطائرات الأمريكية في وضح النهار لقنابل الفسفور الأبيض المحرّمة دوليّا مع إظهار احتراق المنازل بمن فيها جراء هذا القصف نتيجة فشل فرق الإطفاء في إخماد الحرائق المشتعلة.
“فرسان المضادّات”
يعلم جميع المتابعين لتطورات الأحداث وسير المعارك بين تنظيم الدولة الإسلامية وخصومه أن طيران التحالف الدولي والطيران الروسي كان له الدور الأبرز في انحساره وحصاره في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان وسيناء، وإلى الآن، عجزت لجان التطوير العسكري التي يشرف عليها مجلسه العسكري، عن صنع أو شراء مضادّات طيران قادرة على إسقاط الطائرات المتطورّة من طراز “الأف” بأنواعها و”السوخوي” و”الميراج” و”الرافال” و”التورنادو” و”الأباتشي” و”القاذفات” الاستراتيجية الأمريكية بأنواعها.
التنظيم أظهر في إصداره الأخير بعضا من عناصره المتخصّصين في استخدام المضادّات الأرضية لإشغال الطائرات الأمريكية عن رصد وقصف أهدافها، وإن كانت الطريقة غير ناجعة تماما، إلا أنها حققت بعض أهدافها لأن الطائرات تبقى محلّقة على ارتفاع عال خشية إصابتها، وهو ما يمنعها من تحديد المواقع التي تنوي استهدافها بدقّة، وفي هذا الصّدد، توعّد خطاب الرقاوي أحد مقاتلي تنظيم الدولة من المتخصّصين في التصدّي للطائرات، توعّد الطيران الأمريكي بمفاجئات ستسقط طائراتهم، وحذّر الطيارين من مصير مشابه للطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي تم إعدامه حرقا في 3 يناير 2015، بعد أن أُسقطت طائرته ووقع أسيرا بيد التنظيم في 24 ديسمبر 2014.
الإصدار لم يتوقّف عند هذا الحدّ بل واصل الحديث عن “فرسان المضادّات” المتخصّصين في استهداف مدرّعات وتحصينات قوات سوريا الديمقراطية على أسوار مدينة الرقة وداخلها، وهنا يُظهر تنظيم الدولة إحدى مفاجئاته من خلال التحّكم بهذه المضادّات والرشّاشات عن بعد، إثر تعديلها وتركيب كاميرات لتحديد الأهداف وقصفها بدقّة مثلما أظهرت ذلك بعض اللقطات.
تُعتبر العمليات الانتحارية مِلح إصدارات تنظيم الدولة، فلا يكاد يخلو إصدار من الحديث عن هذا النوع من العمليات ودورها في صدّ الأعداء وإلحاق الأذى بالخصم
صحيح أن هذه التقنية لا تعتبر جديدة داخل تنظيم الدولة، حيث سبق وأن أظهرها في إصدارات سابقة، إلا أنها تبدو أكثر دقّة وفاعليّة بعد تطويرها، شأنها في ذلك شأن الطائرات الراصدة والقاصفة والتي دخلت ميدان المعركة منذ أشهر في محافظة الموصل ثم باقي المحافظات الأخرى.
الأسلحة الفتّاكة
الطائرات القاصفة كانت سلاحا فتّاكا لتنظيم الدولة الإسلامية، فرغم أن تأثيرها المادي ليس كبيرا مقارنة بالمضادّات الأرضيّة والقذائف والصواريخ الموجّهة، إلا أن تأثيرها المعنوي فتّاك، حتى أن القوات العراقيّة والسورية والكرديّة ترتعب وتكاد تفقد أعصابها خلال سماع صوت “الدرون” المعدّلة لحمل المتفجّرات، وهنا يُظهر الإصدار مقاطع فيديو مصوّرة بهواتف مقاتلي “قسد” تظهر حجم الرعب الذي انتابهم خلال استهدافهم بهذا النوع من الطائرات الخفيفة.
على صعيد منفصل، تُعتبر العمليات الانتحارية مِلح إصدارات تنظيم الدولة، فلا يكاد يخلو إصدار من الحديث عن هذا النوع من العمليات ودورها في صدّ الأعداء وإلحاق الأذى بالخصم، ولم يكن هذا الإصدار شاذّا عن سابقيه، حيث ركّز التنظيم في معاركه مع قوات سوريا الديمقراطية على تصوير عمليّات الانتحاريين متعدّدي الجنسيات على غرار أبو إيثار الرقاوي، أبو معاذ التونسي، أبو إبراهيم الحلبي وغيرهم، والتي أدّت إلى تدمير عدد من مقرّات الميليشيات الكرديّة وآلياتها.
استخدام المضادّات الأرضية والعمليات الانتحارية والقصف بالطائرات المسيّرة في معارك الرقة لم يكن كافيا لكي يتمكّن تنظيم الدولة من الصمود لأربعة أشهر داخل مدينة صغيرة محاصرة من كل جهاتها، لذلك كشف التنظيم عن استخدم القنّاصة لاستهداف مقاتلي الأكراد وإعاقة تقدّمهم داخل أحياء الرقة وقتل وجرح الكثير منهم.
تخسر الطائرات الأمريكية ملايين الدولارات مع كل يوم جديد تُغير فيه طائراتها على الرقّة، فكلفة الصواريخ والطلعات الجوية باهظة جدّا تُدفع أساسا من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين وحلفائهم الخليجيين
ورغم الحصار الخانق من كل الجهات منذ أشهر طويلة، لم ينس الإصدار إظهار جانب من أعمال “ديوان الزكاة” الذي يقوم بتوزيع المواد التموينية على المدنيين من الفقراء والمحتاجين، وفي ذلك رسالة يهدف من خلالها تنظيم الدولة إلى كسب قلوب أنصاره داخل الرقّة وخارجها من خلال التركيز على مخاطبة العاطفة قبل العقل.
الخسائر مكلفة جدا
مقال واحد لا يكفي لتحليل مضمون الإصدار المرئي الطويل لتنظيم الدولة والذي كان مشابها لإصداري “موكب النور” الذي وثّق فيه المكتب الإعلامي لـ”ولاية نينوى” جانبا من المعارك التي دارت في مدينة الموصل قبل أشهر، لكن مرورنا السريع على أبرز ما جاء فيه، يؤكد أن معركة الرقّة ليست سهلة على الميليشيات الكردية وعلى طائرات التحالف الدولي التي دمّرت كلّ جامد ومتحرّك داخل المدينة المنكوبة، فخسائر الطرفين مكلفة جدّا ماديّا وبشريا.
على المستوى المادي، تخسر الطائرات الأمريكية ملايين الدولارات مع كل يوم جديد تُغير فيه طائراتها على الرقّة، فكلفة الصواريخ والطلعات الجوية باهظة جدّا تُدفع أساسا من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين وحلفائهم الخليجيين، إضافة إلى أن الخسائر البشريّة الضخمة في صفوف قوات سوريا الديمقراطية وفق ما أظهر الإصدار، تكشف عن تعرّضهم لاستنزاف كبير سيؤثر على بقائهم وتواجدهم مستقبلا، وهو ما دفعهم إلى تجنيد المقاتلين العرب إجباريا لجبر الضرر.
تقنيّا، استطاع تنظيم الدولة الإسلامية ترميم جراح “إمبراطوريته الإعلامية” التي قلنا في مقال سابق إنها تضرّرت بمقتل عدد كبير من كوادرها، فالإصدار الأخير كان احترافيّا على المستوى التقني وذلك من خلال الجرافيك والإلقاء الصوتي وتقنيات المونتاج وزوايا التصوير المستخدمة أرضا وجوّا، إضافة إلى المؤثرات الصوتية والاقتباسات المنتقاة بدقّة من كلمات متحدّثيْه الرسميين أبي محمد العدناني وأبي حسن المهاجر.