يواصل الاقتصاد المصري نزيفه المستمر جراء أزمة الدولار التي يعاني منها منذ سنوات، لكنها تعمقت خلال الآونة الأخيرة بصورة أكثر ضراوة في أعقاب الضربات التي تلقاها مخزونه الدولاري، بسبب تراجع تحويلات المصريين بالخارج (قرابة 30%) وانخفاض إيرادات قناة السويس (بنحو 40%) وتأثر حركة الطيران السياحي بالحرب الإسرائيلية على غزة، والتوتر الذي يخيم على البحر الأحمر.
ومن مخرجات تلك الأزمة حالة الارتباك التي تخيم على السوق المصرفي، حيث فوضى سعر الصرف، فبينما يتجبس سعر الدولار في البنوك الرسمية عند أقل من 31 جنيهًا، تجاوز سعره في السوق السوداء حاجز الـ70 جنيهًا وأكثر من 75 جنيهًا لدى تجار الذهب والسلع الكهربائية، قبل تراجعه الساعات الماضية لـ50-55 جنيهًا، الأمر الذي ألقى بظلاله القاتمة على حركة الاستثمار التي تحتاج إلى توحيد وثبات سعر الصرف.
وأمام هذا المشهد الفوضوي لجأت الحكومة المصرية خلال الأيام الأخيرة إلى بعض الإجراءات والتحركات، تأرجحت بين الواقعي والمفتعل، في محاولة لـ”لجم” الدولار في السوق السوداء التي أزاحت السوق الرسمية، لتصبح هي المسيطرة على المعاملات المصرفية في مصر والحاضنة الأكبر لكل من يبحث عن العملات الأجنبية – دولة وتجار ومضاربين – التي خوت منها خزائن المصارف الرسمية.. فهل تنجح جلسات التنفس الصناعي تلك في إنعاش الاقتصاد المصري القابع منذ سنوات داخل غرف الإفاقة؟
بيع الأصول ومحصلات استثمارية.. رأس الحكمة أنموذجًا
لجأت الحكومة المصرية خلال الآونة الأخيرة إلى بيع بعض أصول الدولة لمستثمرين أجانب وصناديق سيادية عربية، من أجل إنعاش خزينة الدولة بالعملة الصعبة التي تساعدها في الوفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية على حد سواء، فبحسب البنك الدولي إجمالي الديون المستحقة على مصر في أول 9 أشهر من العام الحاليّ 2024 تصل نحو 42.8 مليار دولار (36.46 مليار دولار أصل قروض، 21.13 مليار دولار التزامات على البنك المركزي المصري، 6.31 مليار دولار فوائد دين).
ويبدو أن عشرات الشركات التي باعتها الحكومة لمستثمرين إماراتيين وسعوديين تحديدًا لم تكن كافية لسداد تلك الالتزامات، وعليه كان البحث عن أصول أخرى أكثر قيمة هو الحل للخروج من عنق الزجاجة، بعدما وصلت الأمور إلى طريق شبه مسدود في ظل وصول الدين الخارجي لمستويات غير مسبوقة في التاريخ المصري (165 مليار دولار) وما تعاني منه خزانة الدولة من شح دولاري بسبب عوامل خارجية وداخلية.
وفي تلك الأجواء الضبابية التي يعاني منها سوق الصرف المصري، تناقلت بعض وسائل الإعلام وعدد من الإعلاميين المحسوبين على النظام المصري أنباءً تفيد باستحواذ مستثمرين إماراتيين على مدينة رأس الحكمة على الساحل الشمالي المصري نظير مبلغ 22 مليار دولار يتم ضخهم دفعة واحدة، وهي الأنباء التي أحدثت حالة من الجدل داخل الساحة المصرية خلال الساعات الماضية.
وتعد تلك المنطقة البالغ مساحتها 180 كيلومترًا التابعة لمدينة مرسى مطروح (شمال شرق) أحد أبرز المناطق السياحية في مصر التي عكفت الدولة على تنميتها خلال السنوات الماضية، وتبعد عن مفاعل ضبعة النووي المزمع إنشاؤه بنحو 80 كيلومترًا، وذكر بعض الخبراء أن الذي أنشأها هو الملك فاروق، آخر ملوك مصر، عام 1948، لتكون منتجعًا للأسرة المالكة والوزراء.
بيع رأس الحكمة.. هل ينقذ مصر؟!! #مزيد pic.twitter.com/cOYNVqOue2
— مزيد – Mazid (@MazidNews) February 6, 2024
ويغلف هذا الخبر الكثير من الضبابية، بين النفي رسميًا بوجود تلك الصفقة وأن المنطقة لا زالت قيد التطوير، والتأكيد على أن الأمر قد انتهى بين وزارة الإسكان المصرية من جانب، ووزارة المالية الإماراتية وشركة “إعمار مصر للتنمية” المملوكة لرجل أعمال إماراتي من جانب آخر، وتتبقى الرتوش الأخيرة للإعلان عن تلك الصفقة بشكل رسمي.
البعض يرى أن مبدأ البيع موجود بالفعل لكن ليس بالصورة التي صدرها الإعلام، فتارة يتحدثون عن بيع نهائي وتارة عن حق انتفاع، فيما قال آخرون أن ما يحدث لا يعدو كونه حربًا نفسية تشنها الدولة لإيهام الشارع المصري بقدوم حزم دولارية تنعش خزائن البنوك، ما قد يساعد على القضاء على السوق السوداء التي تغولت بشكل مبالغ فيه خلال السنوات الماضية.
كما أثار الرقم المطروح بشأن تلك الصفقة (22 مليار دولار) شكوك البعض في صدق تلك الأنباء، وهو ما أشار إليه المرشح الرئاسي السابق، حازم عمر، رئيس حزب الشعب الجمهوري، حين علق قائلًا: “عندما يكون إجمالي حجم أصول الشركة الإماراتية حول العالم أجمع مقدرًا بـ38 مليار دولار، فمن المستحيل أن تستطيع ضخ سيولة نقدية فورية قدرها 22 مليار دولار”.
حالة الضبابية التي تخيم على الأجواء إزاء ملف “رأس الحكمة”، والتزام الحكومة بالصمت يعكس – بحسب محللين – غياب الثقة بين الدولة والرأي العام والخبراء بشأن سبل مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر والمصريين معًا، فيما حذر آخرون من خطورة إدارة الدولة للأسواق عبر شائعات أو معلومات غير مؤكدة، الأمر الذي إن حقق نتيجة إيجابية مؤقتًا، لكنه سرعان ما سيتحول إلى كارثة في القريب العاجل في ظل عدم وجود رؤية حقيقية لحل الأزمة.
رفع سعر الفائدة.. محاولة لجمع السيولة النقدية
في محاولة لجمع السيولة النقدية لدى المواطنين وتشجيعهم على الاحتفاظ بها في البنوك الرسمية، وتقليل الهرولة نحو السوق السوداء لشراء الدولار بصفته الملاذ الآمن في ظل تراجع قيمة العملة المحلية، رفع البنك المركزي المصري، الخميس الأول من فبراير/شباط الحاليّ، وفي ختام أول اجتماعاته خلال عام 2024، أسعار العائد على الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي بواقع 200 نقطة أساس ليصل إلى 21.25%، 22.25% و21.75% على التوالي.
ويهدف هذا الإجراء إلى تعويض المواطنين عن فارق السعر في العملة الذي توفره السوق السوداء من خلال رفع سعر الفائدة أو تقديم شهادات ادخارية بعائدات مرتفعة، تصل في بعض الأحيان إلى 27% وهو أمر غير مسبوق في تاريخ سوق الصرف المصري، غير أن هذا التوجه في كثير من الأحيان لا يأتي بثماره بسبب أن العملاء يحولون مدخراتهم من شهادات ادخار قليلة العائد إلى أخرى مرتفعة العائد، وكأنها عملية تدوير للأموال وليست ضخًا جديدًا يزيد من أرصدة البنوك، حيث لجأ كثير من المواطنين إلى إلغاء شهادات ادخار قديمة كانت بفائدة 18% وتحويلها إلى شهادات الـ27%.
وفي السياق ذاته طرح البنك المركزي أذون خزانة (وثيقة دين حكومية من الأوراق المالية قصيرة الأجل، يطرحها البنك المركزي نيابة عن وزارة المالية، بمدد تتراوح بين 3 أشهر وسنة، بهدف جمع الأموال لدعم الإنفاق الحكومي وسداد الالتزامات) بقيمة مليار دولار لأجل سنة، بمتوسط عائد 5.149%، كخطوة تهدف إلى تمويل عجز الموازنة، حيث أشار البنك في بيان له إنه تلقى 28 عرضًا من مستثمرين محليين وأجانب، بقيمة 1.196 مليار دولار، قُبِل منها 18 عرضًا بقيمة 1.061 مليار دولار، بفائدة تراوحت ما بين 5.148% و5.149%، ورفض عروضًا أخرى وصل العائد فيها إلى 6.25%.
قروض ومنح خارجية.. الحل السهل
ظلت القروض والمنح على مدار السنوات الـ10 الأخيرة هي الحل الأسهل والأكثر استخدامًا بالنسبة للحكومة المصرية في تعاطيها مع كل الأزمات التي تواجهها، وهي السبب الرئيسي وراء ارتفاع الدين المصري إلى هذا المنسوب، الذي اضطرت معه الدولة لتخصيص النسبة العظمى من ميزانيتها لسداد خدمته، فوائد وأقساط، وذلك على حساب احتياجات ومتطلبات الشعب.
وفي نهاية 2022 أبرمت السلطات المصرية اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار، لكنه الاتفاق المشروط بحزم إصلاحية على الحكومة إجرائها، وعلى رأسها تحريك سعر الصرف (التعويم) بجانب إجراءات أخرى قاسية يتحمل تبعتها متوسطو ومحدودي الدخل ولها تبعات كارثية على معدلات التضخم والبطالة وتفاقم العجز المالي.
ومع منتصف العام الماضي ضغطت القاهرة لمضاعفة القرض المنتظر من صندوق النقد، ليصل إلى 7 مليارات دولار وليس 3 فقط، هذا بخلاف 5 مليارات دولار أخرى تحاول مصر الحصول عليها من شركائها الإقليميين كما ذكر بنك الاستثمار اﻷمريكي جولدن مان ساكس، في محاولة لضخ أكبر قدر ممكن من الدولارات في السوق المصرفي بما يلبي احتياجات المستثمرين، ومن ثم تخفيف الضغط على السوق السوداء وتراجع المضاربات على الدولار بما يسهم في تراجع سعره.
على مدار 10 سنوات كاملة تعاملت الحكومة المصرية مع السوق المصرفي وتجارة الذهب بآليات سلطوية عنيفة، حملات أمنية وتضييقات وتدخلات في عمل السوق، وهي الإستراتيجية التي ثبت فشلها، بخلاف قصر عمر سياسات الحرب النفسية وتوظيف الشائعات لتقديم صورة مغايرة عن الوضع بما يرهب المضاربين على أمل القضاء على السوق السوداء، حيث يدفع هذا الأمر المواطنين إلى التحايل عليها من خلال بعض الأساليب، منها إدخال مكاتب وسيطة في عملية البيع والشراء، بحيث تتسلم الدولارات من المواطنين في أماكن وجودهم أيًا كانت ثم تُسلم مقابلها لذويهم في منازلهم، وهي المكاتب التي انتشرت في كل ربوع مصر مؤخرًا.
وبعيدًا عن مدى صحة الأنباء التي تتناثر هنا وهناك عن صفقة رأس الحكمة وغيرها، ومحاولات الحفاظ على السيولة النقدية من خلال شهادات الادخار مرتفعة العائد، وزيادة وتيرة القروض وبيع أذون الخزانة، تبقى الأمور في دائرتها الخطرة طالما ظلت السياسات الاقتصادية والمالية ذاتها دون تغيير، ويبقى الاقتصاد المصري أسير الصلف في استمرارية تلك السياسات.. فمتى يتخلى صناع القرار في مصر عن عنادهم الذي أودى بالبلاد إلى هذا المنزلق الذي يضعها فوق فوهة بركان من الجوع والغضب؟