يميل كثيرون أو يحلو لهم أن يربطوا ما بين انتشار ظاهرة الانتحار وما يعيشه الأفراد من أمراض نفسية أو فراغات روحية أو تناقضات دينيّة تعتري بالفرد، وما إن ينتشر خبر انتحار أحدهم حتى يبدأ من حوله في تقديم التفسيرات والفرضيات التي تحاول فهم وشرح أسباب فعله، والتي تتمحور معظمها حول كوْن الشخص يشعر بالوحدة، مكتئب، محبَط، أو غير سعيد، أو فاشل، أو غير قادر على التعامل مع متطلبات وتوقعات الحياة الاجتماعية المعاصرة.
معظم الكتابات والأطروحات التي تتحدث عن الانتحار تنبع من منطلق نفساني فرديّ، أيّ أنّ فعل الانتحار فعلٌ فرديّ مستقلّ تجب دراسته بشكلٍ منفصل بحسب كلّ فردٍ وطبيعة حياته بعيدًا عن دراسة العوامل الاجتماعية المحيطة التي قد تكون أثّرت على الشخص، لكنّ عالم الاجتماع إميل دوركايم خاض تحديًا كبيرًا ومغامرة علمية سعت لتفسير ظاهرة الانتحار والأسباب الداعية لها بناءً على ردها لعوامل اجتماعية بعيدًا عن العوامل السيكولوجية أو الفردية.
دور الثقافة والمجتمع
كعالم اجتماع لم يكن دوركايم مهتمًا بدراسة لماذا يميل شخصٌ ما للانتحار، فهذا يجب تركه لعلماء النفس لتفسيره وتقديم النظريات والفرضيات فيه. لكنّ دوركايم كان مهتمًا بدراسة التباين والاختلاف في معدلات الانتحار. وبكلمات أخرى، فقد حاول البحث في الأسباب التي تجعل من مجموعةٍ أو مجتمعٍ ما ذا معدّل انتحار أعلى من غيره.
يفترض دوركايم أن العوامل البيولوجية والنفسية الاجتماعية تبقى ثابتة من مجموعة لأخرى ومن وقت لآخر. وإذا كانت هنالك اختلافات في معدل الانتحار من مجموعة لأخرى أو من وقت لأخر فهذا يرجع إلى الاختلاف في العوامل الاجتماعية وتحديدًا في التيارات الاجتماعية.
الانتحار الأناني الذي يحدث عندما يفقد الفرد الأمل في الاستمرار بحياته بسبب فقدان الروابط الاجتماعية الناتجة عن التفكك الأسري أو السياسيّ أو الدينيّ مثلًا.
ركز دوركايم على مسألة وحدة المجتمع من خلال تھذیب الأخلاق والتربیة بوصفھما مدخلًا ھاًما لإعادة تنظیم المجتمع، فأخذ یدرس حالات الإنتحار على حدة، واعتمد على منھج التحلیل في قراءة الظواھر انطلاقًا من دراسة العوامل والدوافع، وألّف عام 1897 كتابًا یُعتبر إلى يومنا هذا مرجعًا مهمًّا في علم الاجتماع اسماه “الانتحار”، قدّم فيه دراسة علمیة جریئة انتقد فیھا كل المبرّرات التي كانت تسوقھا الحكومات والإعلام آنذاك بشأن الانتحار ومعدلاته وأسبابه.
اعتمد دوركايم في فلسفته الاجتماعية على قاعدتين نظريتين لتشكيل منظومته المعرفية: الأولى هي الدمج، أي السيرورة التي تتيح لمجتمع أن يوجد كوحدة واحدة متماسكة على الرغم من العوائق المتمثلة بالاختلافات بين الأفراد. والثانية هي الضبط، أي ترتيب رغبات الفرد في اتجاه الأهداف الاجتماعية التي يفرضها عليه دوره، والتي لا يوجد المجتمع إلا من خلالها. ودوركايم الذي أخذ الانتحار مادة للفحص الاجتماعي لم يقدم على هذا الحقل لو لم تكن الظاهرة بدأت بالانتشار وطرحت معضلة علاقة الفرد بالمجتمع وعدم قدرة الإنسان في أيامه على الدمج والضبط.
هل الانتحار فعل أناني؟
وبحسب الأطروحة، فثمة أنواع عديدة للانتحار؛ الانتحار الأناني الذي يحدث عندما يفقد الفرد الأمل في الاستمرار بحياته بسبب فقدان الروابط الاجتماعية الناتجة عن التفكك الأسري أو السياسيّ أو الدينيّ مثلًا. وغالبًا ما يوجد هذا النوع من الانتحار في المجتمعات التي يكون فيها الفرد غير مندمج تمامًا في الوحدة الاجتماعية الكبرى، فالمجتمعات ذات الضمير الجمعي القويّ تمنع أفرادها من تجاوز الأهداف الاجتماعية والركض وراء مصالحهم الشخصية وأنانيّتهم غير المكبوحة والتي قد تؤدي بهم إلى الانتحار. والعائلات أو الجماعات السياسية أو المجموعات الدينية المندمجة بقوّة وبطريقة صحية، تشكّل ضميرًا جمعيًّا موحّدًا يحمي أفرادها ويردعهم من الانتحار. فالأفراد ليسوا أحرارًا أبدًا من قوة الجماعة، والسوداوية أو الكآبة والرغبة بالانتحار كلها تنتج عن المبالغة بالفرديّة والتملّص من المجتمع.
وقد أظهر دوركايم على سبيل المثال أنّ معدلات الانتحار تظهر بنسبةٍ أعلى بين الأفراد الذي ليس لديهم أطفال من أولئلك الذين لديهم أطفال، وبين العازبين أكثر من المتزوجين. كما أنّ معدل الانتحار كان أعلى بين البروتستانت من الكاثوليك، إذ يُعتقد أنّ الكاثوليك كمجموعة يُظهرون اندماجًا واتحادًا اجتماعيًّا أكثر من البروتستانت التي تميّزت بتفضيلها للنزعة الفردية على الجماعية.
الانتحار الإيثاري: التضحية القصوى
النوع الثاني من الانتحار عند دوركايم هو الانتحار الإيثاري، الذي ينتج عندما يكون اندماج الفرد مع مجتمعه قويٌّ جدًا لدرجةٍ تجبره على فعل الانتحار، أي أنه يشعر أنّ من واجبه الإقدام على الانتحار لصالح المجتمع الذي يعيش فيه. ووفقًا لدوركايم فلا يوجد في مجتمع الإيثار أيّة أسباب وجيهة تدفع الأفراد للانتحار سوى توقهم لقتل أنفسهم نيابةً عن المجتمع بأكمله. وعلى عكس الانتحار الأناني فالمصلحة الفردية هنا لا تُعتبر هامة أبدًا.
التغيرات الكبرى التي حدثت خلال الأعوام الستة الماضية، لوجدنا أنّها شكّلت اضطرابات مجتمعية كبيرة كان لها الأثر القويّ والصريح والدور الهامّ في تصاعد حالات الانتحار
التغيرات المفاجئة والمأساوية في المجتمع
أما النوع الأساسيّ الذي قام دوركايم بمناقشته فهو الانتحار اللامعياري، والذي يحدث عندما تضطرب ضوابط المجتمع، إيجابًا أو سلبًا، ما يؤدي إلى تعطيلٍ مؤقت للمجتمع عن أداء دوره السلطوي على الأفراد. إذ تعمل فترات الاضطرابات على زعزعة المعايير وتغيير الضوابط التي يقوم عليها المجتمع في تسيير حياة الأفراد اليومية، وبالتالي تتفكك الروابط الاجتماعية التي تحفظ للفرد شعوره بالأمن وارتباطه بمجتمعه، ولعلّ فترات الكساد الاقتصادي هي مثالٌ واضح وقويّ على تلك الاضطرابات التي قد تؤدي لمثل هذا النوع من الانتحار، فالكثير من حالات الانتحار تمّ تسجيلها إزاء أزمات اقتصادية مفاجئة.
ولو نظرنا لعالمنا العربيّ، وتتبّعنا التغيرات الكبرى التي حدثت خلال الأعوام الستة الماضية، لوجدنا أنّها شكّلت اضطرابات مجتمعية كبيرة كان لها الأثر القويّ والصريح والدور الهامّ في تصاعد حالات الانتحار أو الحديث عنه سواء على أرض الواقع أو في مواقع التواصل الاجتماعي التي تصبح مسرحًا ضاجًّا بمثل هذا النوع من الأحاديث بين الفينة والأخرى.
ولو جئنا إلى نظرية دوركايم في الانتحار بشكلٍ عام، نجد أنه ركّز على الجوانب الاجتماعية وأعطى أهمية كبيرة لها على أنها المسيطر على نمط الحياة، وأهمل دور الفرد في المجتمع نفسه متجاهلًا بأنّه كما يتأثر في المجتمع فإنه يؤثر فيه أيضًا. بالإضافة إلى أنه لم يلق بالًا للعوامل النفسية والبيولوجية التي قد تلعب دورًا كبيرًا في الإقدام على الانتحار، إلا أنّ رؤيته ما تزال تسهم إسهامًا مهمًّا في محاولة فهم التباين في معدلات الانتحار بين المجتمعات المختلفة والأوقات المختلفة.