مع اقتراب موعد نهاية ولايته الدستورية في منصب رئاسة الجمهورية التونسية، بدأ الرئيس الباجي قائد السبسي، في تعزيز صلاحياته ونفوذه وهيمنته على السلطة التنفيذية في البلاد، في إطار سعيه المتواصل إلى تغيير النظام السياسي لتونس إلى نظام رئاسي يُعيد كل السلطات إلى يد الرئيس الذي لا يقبل معارضة أحد في بلد عانى لعقود من حكم رئاسي استبدادي
وما الحكومة الجديدة لرئيس الوزراء يوسف الشاهد إلا خطوة جديدة نحو ذلك، فقد استعاد من خلالها الباجي قائد السبسي سطوته على حكومة القصبة “المتمرّدة” بحكم الدستور والنظام السياسي لتونس بعد الـ 14 من يناير 2011، الذي قطع مع نظام رئاسي أثبت فشله، حسب عديد المراقبين.
السبسي يمسك بزمام الحكم
عزّز الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي هيمنته على حكومة يوسف الشاهد الجديدة التي نالت ثقة مجلس نواب الشعب، أمس الثلاثاء، ما يعزّز من السلطات التنفيذية له قبل أشهر من أول انتخابات بلدية بعد الثورة التونسية وقبل نحو سنتين من الانتخابات التشريعية والرئاسية. فبعد أن كان التحكّم في الحكومة يمارس في الخفاء، بات الأمر الأن علنيا، فالفريق الحكومي الجديد ليوسف الشاهد يضمّ عديد الشخصيات التي تحظى بثقة الرئيس الباجي قائد السبسي والتي عملت معه في قصر قرطاج كمستشارين له.
وفي قراءة للأسماء التي تولّت حقائب وزارية أو كتابة دولة في حكومة الشاهد الجديدة، يتضح أن أغلبها مسنود من رئيس الجمهورية، خاصة فيما يتعلق بالوزارات السيادية، ومن هذه الشخصيات، محمد رضا شلغوم الذي عين وزيرا للمالية وهو منصب تولاه في أثناء حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وبالإضافة إلى توليه منصب مدير مكتب الشاهد كان شلغوم المستشار الاقتصادي السابق للرئيس. وكان وزير الصحة الجديد سليم شاكر مستشارا للسبسي أيضا، ونفس الأمر بالنسبة لحاتم بن سالم وزير التربية، أما وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي فعمل مستشارا للسبسي عندما كان الاخير رئيسا للحكومة في سنة 2011.
تؤكّد التشكيلة الحكومية الجديدة ليوسف الشاهد، تمكّن السبسي من اضعاف مؤسسات الحكم في تونس
كما ساهم الباجي قائد السبسي في تثبيت بعض الوزراء المغضوب عليهم على غرار وزيرة الشباب والرياضة مجدولين الشارني التي كانت على مشارف المغادرة، نتيجة فشلها الذريع في تسيير الوزارة، قبل أن يتم تثبيتها في كرسيّها من قبل السبسي. ونتيجة ذلك، يؤكّد عديد المراقبين أن الرئيس الباجي قائد السبسي هو في الحقيقة من يقف خلف التعديل الوزاري الأخير وإن بدا ظاهرا أن رئيس الحكومة يوسف الشاهد هو من قام به.
وتؤكّد التشكيلة الحكومية الجديدة ليوسف الشاهد، تمكّن السبسي من اضعاف مؤسسات الحكم في تونس، ونقل موازين القوى من “القصبة” (مقر الحكومة) إلى “قرطاج” (مقر الرئاسة) الذي ظلّ لعقود مصدر السلطة الوحيد في تونس والمتحكم في كلّ صغيرة وكبيرة في البلاد.
تغير نظام الحكم
تعزيز سلطات السبسي ونقل مركز القرار إلى “قرطاج” عوض “القصبة”، تزامن مع تصريحات للسبسي اعتبر فيها أن النظام السياسي المنبثق عن الدستور الحالي يشكو هنات عدة تستدعي إعادة النظر فيه، وهو نظام شل العمل الحكومي أو يكاد، وطابعه الهجين لا يساعد الحكومة ـ أي حكومة ـ والسلطة التنفيذية عمومًا على القيام بواجباتها في تسيير الدولة وتحقيق التنمية في إطار مجتمع ديمقراطي تتحقق فيه قيم الحرية والكرامة.
رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد
وخلص الباجي قايد السبسي في تصريحاته المثيرة للجدل إلى القول: “في تونس نعيش في ضوء نظام سياسي شاذ فيه من الحرص على استقلالية عمل المؤسسات حد التعطيل والشلل، وفيه كذلك من إفراد بعض الهيئات المستقلة بصلاحيات استثنائية حد التغول على الدولة وعلى المؤسسات الدستورية ذاتها، بما فيها مجلس نواب الشعب صاحب السلطة الأصلية والأم في النظام السياسي الحالي، وكل ذلك كان يتم تحت شعار الاستقلالية”، حسب قوله.
وشهدت تونس خلال صياغة الدستور الجديد، نقاشات معمقة واستشارات داخل لجنة النظام السياسي في المجلس الوطني التأسيسي حول طبيعي النظام السياسي، انتهت باعتماد النظام البرلماني المعدل الذي منح البرلمان صلاحيات التشريع والرقابة ومنح الثقة للحكومة وسحبها منها والرقابة على عملها، وأسند لرئاسة الحكومة أغلب الصلاحيات التنفيذية، في حين بقي رئيس الجمهورية ذو صلاحيات محدودة في مجالي الدفاع والسياسة الخارجية.
حلم السبسي
الحديث عن ضرورة إعادة النظر في طبيعة نظام الحكم في تونس الذي أقره دستور البلاد لسنة 2014، أعاد إلى الواجهة رغبة السبسي في العودة إلى نظام حكم الشخص الواحد الذي وضعه الحبيب بورقيبة ورسّخه زين العابدين بن علي، نظام يكون فيه رئيس الجمهورية المتحكم الأول والوحيد بزمام الأمور في البلاد.
وسبق أن أعلن السبسي نيته إجراء تعديلات دستورية، قائلاً إنه لا يرى مانعًا من تعديل الدستور بهدف اعتماد شكل جديد لنظام الحكم وإنه لن يكون ضد أي مبادرة في هذا الاتجاه، وأرجع السبسي تأييده للتعديل إلى أن النظام السياسي الحالي “شبه البرلماني” غير مثالي وقابل للتحسين والتطوير، واعتبر أن أغلبية الشعب التونسي مع النظام الرئاسي، وأن الوضع العام في البلاد يمكن أن يتحسن مع تنقيح الدستور واعتماد نظام سياسي جديد، يمنح صلاحيات أوسع لرئيس الجمهورية.
يسعى السبسي إلى تغيير النظام السياسي في تونس بما يسمح له بالحكم بمفرده أسوة بالحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي
وتتكوّن السلطة التنفيذية في تونس من رأسين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، الأول منتخب مباشرة من الشعب، لكنه لا يتمتع بصلاحيات واسعة، وتقتصر على تعيين مفتي الجمهورية وإعفائه، والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها، وتعيين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة، وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب، والثاني منتخب من الأغلبية داخل البرلمان وله كلّ الصلاحيات.
ويمثّل حديث السبسي عن ضرورة إعادة النظر في النظام السياسي للبلاد، حملة تمهيدية لخلق رأي عام مناصر لهذه الفكرة، وهو ما قد يتحول قريبًا إلى جوهر العملية السياسية في تونس، في انتظار إعلان مواقف باقي الفاعلين في تونس عن مواقفهم من هذه المسألة. ويسعى السبسي إلى تعديل دستور 2014، وتغيير النظام السياسي في تونس بما يسمح له بالحكم بمفرده أسوة بالحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فقد تربى في ظل حكمهما ويسعى لإعادة طريق الحكم الفردي في البلاد.
ويرى مقربون من السبسي، والمناصرون لتوجهه أن نظام الحكم الحالي “برلماني معدل”، قد قاد إلى إضعاف أداء مؤسسات الدولة وسلطة القرار نتيجة اختلال التوازن بين صلاحيات رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان في وقت تحتاج فيه تونس إلى دولة قوية تنأى بنفسها عن سياسات الأيادي المرتعشة، في معالجة الأوضاع العامة، كما ساهم في بطء تركيز مؤسسات الدولة والهيئات الدستورية التي نص عليها الدستور.
خشية على الديمقراطية “الهشة”
اصرار السبسي على تعديل نظام الحكم، يقابله معارضة كبيرة من قبل عدد من الأطراف الذين يؤكّدون أن الضعف الحاصل في مؤسسات الدولة لا يرجع سببه إلى طبيعة النظام السياسي الذي جاء به الدستور، بل لأن رئيس الجمهورية قد خسر الأغلبية في البرلمان، بعد تفكك نداء تونس، وفقدانه الأغلبية البرلمانية لفائدة حركة النهضة.
مخاوف من تداعيات توسيع صلاحيات الرئيس
ويشدّد سياسيون وحقوقيون تونسيون، على أنه ليس من السليم في تونس توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، لأن تونس عانت كثيرًا من استبداد الفرد وهو ما يستوجب تقييد صلاحياته، خوفا على التجربة الديمقراطية الهشة بعد سنوات من الثورة، وتخشى هذه الأطراف من أنّ تعديل النظام السياسي، سيؤدّي إلى انزلاق البلاد نحو الاستبداد مجدّدًا بتجميع السلطة التنفيذية بيد رجل واحد خاصة وأن البلاد مازالت تخطو خطواتها الأولى في تركيز مؤسساتها الديمقراطية.
فيما يؤكّد خبراء في القانون الدستوري أنّه لا يمكن تقنيًا تعديل الدستور التونسي في الوقت الحالي، على اعتبار أن المحكمة الدستورية طرف أساسي في المسار وهي لم تتركز بعد، إلى جانب ذلك يتضمّن دستور تونس الجديد فصولاً تم التنصيص على أنه “لا يجوز تعديلها”، تمثل أساسًا في الفصول التي تحدد دين الدولة ونظامها وباب الحقوق والحريات والفصل المتعلق بتحديد عدد الدورات الرئاسية.