جرت العادة ألا يفوت القادة العسكريين فرصة لتوصية جنودهم بتوجيه ضربات موجعة للعدو بقوة وتصميم على إيقاع أقصى تأثير فيه، إذ أن العدو في ميادين القتال معلوم الهيئة، محدد الاتجاه، مشخَّص الكيان.
لا يدرك البعض أن معرفة العدو نعمة حقيقية قد تساوي الحياة ذاتها، فكم من الشقاء يلاقيه من يقذف إلى مواجهة لا يعرف عدوه فيها لينال منه، والبريء فيتجنب إيذاءه، والصديق فيمد له يده لحمايته، فالحيرة والتردد ونخزة الضمير تصيب كيانه وتربك حساباته وتحول بينه وبين الفعل فيتردى في قعر الهزيمة على الرغم مما يملك من أوراق قوة ووسائل قتال مؤثرة.
وقد لا تكون المعضلة في عدم تحديد العدو ومعرفة عينه وكينونته فقط، بل وفي كيفية التعامل مع هذا العدو ودرجة عداوته، كما هو الحال في الواقع الفلسطيني الراهن، حيث لا ضبابية في أن العدو التاريخي للفلسطينيين هي “دولة إسرائيل” التي أقيمت على أنقاض ودماء وأشلاء فلسطين وشعبها الأعزل، لكن مع مرور الزمن تغيرت وللأسف وجهات النظر حول هذا العدو وتعددت الرؤى والأهداف وتشعبت الاتجاهات واختلفت آليات التعامل معه، وانتقل بالتدريج من عدو قاتم السواد إلى صديق بات مأمون الجانب هادئ الميدان بل وحليف لبعض الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية، التي كانت في حقبة زمنية ليست ببعيدة تسعى لشطب وجوده وإنهاء كيانه في فلسطين ..!
“إسرائيل” العدو الحقيقي الذي لأجل صد عدوانه عن أبناء شعبنا ودحره عن بلادنا نشأت كل هذه الأحزاب وتعالت صروحها
وانزلقت الأحزاب الفلسطينية إلى مهاترات ومخاصمات فئوية وانشغلت في معاداة بعضها البعض واشتعل بين المنتمين إليها التحريض والكيد وارتفعت نبرة التخوين وتراشق الاتهامات بينهم، فتشتت قلوبهم وتنابذت أرواحهم واختل مفهوم العدو عند كثير منهم حتى صار مرادفًا لأعضاء الحزب الآخر أو لتيار معين في الحزب ذاته..!
ولم يعد من السهل لدى أبناء الأحزاب الفلسطينية تحديد من هو عدو الحزب ومن هو صديقه وصار ذلك أمرًا يحتاج إلي جهد كبير وتحليل وفير فعدوّ الصباح قد ينقلب حليفًا أو صديقًا أو شريكًا للحزب في الظهيرة، وصار هز الرأس بالموافقة على قرارات زعامة الحزب والتصفيق بحرارة لأي قرار صادر عنها هو الطريق الأسلم والأيسر للبقاء في كنف الحزب ودلاله، وأي رأي مخالف لرؤية الحزب وإن كان صوابًا يعتبر في نظر المتحزبين خيانة وتمردًا على الحزب.
الواقع الفلسطيني اليوم ليس بحاجة إلي شيء أكثر من حاجته إلى انصهار كل الأحزاب السياسية الفلسطينية بأذرعها المختلفة في بوتقة وطنية واحدة
هذا الاختلاف والتشظي الملعون يلقي بظلاله على القضية الفلسطينية كلها فيحيلها إلى خرق بالية وخرائط ودكاكين ومنصات متفرقة تُشتت وحدة الشعب الفلسطيني وتقزم عطاءه وتضحياته، ويتلهي الجميع به عن “إسرائيل” العدو الحقيقي الذي لأجل صد عدوانه عن أبناء شعبنا ودحره عن بلادنا نشأت كل هذه الأحزاب وتعالت صروحها.
الواقع الفلسطيني اليوم ليس بحاجة إلي شيء أكثر من حاجته إلى انصهار كل الأحزاب السياسية الفلسطينية بأذرعها المختلفة في بوتقة وطنية واحدة تقرأ الواقع العالمي والعربي بروية وهدوء وتعمل بخطوات مدروسة ومتعقلة للوصول إلى تصور واضح لمستقبل الصراع الفلسطيني – الصهيوني تجري صياغته ومتابعه تقويمه بالإجماع الوطني دون تفرد من أحد، ذلك حتى قيام دولتنا الفلسطينية المستقلة وإنهاء شتاتنا ومعاناتنا وضياعنا المستمر منذ فجر القرن المنصرم.