عند النظر في الدوافع التي تقود الفرد للانتحار فسندرك أنّ معظم الحالات كانت محكومةً بفياضانات قوية من المشاعر والعواطف السلبية، بعيدًا عن الأفكار المنطقية التي يتم تقييمها بناءً على إيجابيات الأمر أو سلبياته. إذ يكون الفرد أبعد ما يكون عن تحكيم عقله والوصول إلى منطقية أو أخلاقية الفعل الذي يقدم عليه.
لذلك تُعد الأمراض النفسية من الأسباب الرئيسة التي تودي بصاحبها إلى الانتحار أو التفكير به؛ مثل الاكتئاب أو الفصام أو إدمان الكحول والمخدرات أواضطرابات الشخصية الحدية أوالاكتئاب ثنائي القطب. لكن في كثير من الاضطرابات النفسية يفرّق المعالجون والمختصون ما بين المرض و الاضطراب، وهل هو أوليّ رئيسيّ أم ثانوي. بمعنى يعتقد علماء النفس أنّ الاضطراب العقلي لدى المنتحر أو من يحاول الانتحار ليس بالضرورة هو السبب المباشر وراء الإقدام على الانتحار نفسه. ولذلك يبقى السؤال دائمًا هل الاضطراب هو السبب أم أنه ناتج عن حالة نفسية أو طبية أو ظروف معيشة سيئة أدت إلى الأمراض النفسية وبالتالي قادت الفرد للتفكير بالانتحار؟
وقد حاول علماء النفس على مدى سنين طويلة البحث في الأسباب وراء الانتحار والأفكار التي تدور في خلد وعقل الأفراد الذين يفكرون بالأمر أو يتمنونه بصورةٍ أو بأخرى. وخلال بحثي عن الموضوع في المقالات والأوراق البحثية، عثرتُ على مقالةٍ سيكولوجية لعالم النفس في جامعة فلوريدا “روي بوميستر” التي نشرها عام 1990 بعنوان “الانتحار: كهروب من الذات“، قدّم فيها لمحة مفصلة حول الذات والأفكار التي تدور في عقل الفرد الذي يفكّر بالانتحار أو الذي انتحر بالفعل.
معظم حالات الانتحار تتواجد أوساط الأفراد أو المجتمعات التي تعيش حياةً أفضل من المتوسط
وفقًا لبوميستر، فهناك ست خطوات أساسية يحاول فيها الفرد الهروب من حياته وإنهائها بإرادته وعن عمد وتخطيطٍ مسبقٍ، سواء بوعيٍ كامل أو لاوعي. وهذه الخطوات الستّ وإنْ لم تكتمل، ربما لا تكون غريبةً علينا، فجميعنا قد نكون مررنا بواحدةٍ منها أو أكثر، معتقدين أنّ الحياة باتت عبئًا كبيرًا لا يمكن تجاوزه وأنّ الموت هو الحل الأيسر والوحيد لنتخلص ممّا نشعر به من سوء.
عدم القدرة على تحقيق المعايير والآمال الفردية
يجادل بوميستر أنّ معظم حالات الانتحار تتواجد أوساط الأفراد أو المجتمعات التي تعيش حياةً أفضل من المتوسط، فمعدلات الانتحار أعلى في الدول ذات مستويات المعيشة الأعلى مما هي عليه في الدول الأقل ازدهارًا؛ وأعلى في المجتمعات التي تدعم الحريات الفردية؛ وأعلى بين طلاب الجامعات الأفضل درجاتٍ، وأعلى بين الآباء ذوي التوقعات والآمال الأفضل.
ويرجع السبب إلى أن مثل هذه الظروف المثالية تزيد من خطر الانتحار إذ أنّها غالبًا ما تخلق معايير غير معقولة للسعادة الشخصية، ما يجعل الأفراد أكثر هشاشة عاطفيًا استجابة للنكسات والتغيرات الحياتية السلبية غير المتوقعة. وبكلمات أخرى، فهذا النوع من الأفراد غير معتادين على التعامل مع الفشل وتقلبات الحياة المفاجئة، وبالتالي يكون الانتحار وليدًا للأحداث التي لا ترقى لمستويات توقعاتهم وآمالهم. فعلى سبيل المثال، لا يشكّل الفقر عامل خطرٍ للحياة وإنما الانتقال من حالة الازدهار المعيشي للفقر قد تزيد النسبة. وبالمثل فإنّ الوحدة ليست عامل خطر، وإنما الانتقال فجأة إليها كأن يكون الفرد مرتبطًا فينفصل، تزيد من نسبة تفكيره بالانتحار. أي أنّ حجم التناقض بين معايير الفرد والواقع الذي يعيش فيه كفيلٌ بزراعة الأفكار المرتبطة بالانتحار في عقله، وتشجيعه على القيام به.
لوم الذات وإدانتها
تلعب الطريقة التي ينظر بها الفرد لذاته ودورها فيما يحدث في حياته اليومية دورًا كبيرًا في نظرته للحياة والموت، فالكثير ممن يسهل دخولهم في دوّامة لوم ذواتهم وإدانتها على كلّ الأخطاء والأحداث السلبية الحاصلة يقعون في شراك الاكتئاب الذي يقودهم للسؤال عن جدوى الحياة ودورهم فيها، خاصةً في حال قارنوا أنفسهم بالآخرين من حولهم.
فالأشخاص الذين ينخرطون في تقييمات سلبية للذات يمتلكون انطباعًا خاطئًا بأنّ الآخرين في الغالب جيّدون وناجحون ويستحقون الحياة على عكسهم تمامًا، فيدخلون في وهم مشاعر العدمية والعار أو الشعور بالذنب والرفض والإحساس بأنهم غير مرغوب فيهم ممن يحيط بهم، ويبلغ الأمر ذورة سوئه حينما يبدأ الفرد بالتفكير أن لا ثمة أمل في التغيير وإصلاح الذات، فتبدأ الأفكار الانتحارية بالنشوء والتكوّر في عقله.
الوعي العالي بالذات
يتمحور وعي الفرد بذاته بناءً على مقارنتها بالمعايير، سواء كانت فردية أم مجتمعية، والتي قد تكون من السوء بمكان بحيث لا ترحم الفرد ولا ترضيه عن ذاته، إذ تبقى تدور بين ماضٍ لا يمكن استعادته أو تغييره وبين هدفٍ يستحيل تحقيقه والوصول إليه، ما يغذّي العقل بكلّ تلكّ الأفكار اليائسة حول عدمية الحياة والرغبة في إنهائها.
يغلب الوعي بالذات عن الفرد الذي يفكر بالانتحار على وعيه الجمعي سواء بمن يحيط به في عائلته أو مجتمعه، فيركّز على التفكير بـ”أناه” وذاته مقارنة بتفكيره بمن حوله، وحتى في حالات تفكيره بهم فسيشعر بأنهم بعيدون عنه وغير مهتمين بما يحدث له من صراعات وصعوبات في الحياة.
المشاعر السلبية
لا يُعدّ الاكتئاب سببًا كافيًا للانتحار أو التفكير فيه في كثير من الأحيان، والكثير من الاشخاص الذين يعانون من الاكتئاب لا يحاولون الانتحار كما أنّ جميع محاولات الانتحار لم تسجّل حالات الاكتئاب السريريّ. إذن فهناك ما هو أكثر من الاكتئاب.
فالقلق والأحباط والشعور بالذنب ولوم الذات والشعور بالوحدة والإقصاء أو النبذ الاجتماعي والشعور بالعار جميعها تشكّل عوامل مشتركة في حالات الانتحار. فطبيعتنا كبشر تؤثر فينا الآثار السلبية التي نحملها عن أنفسنا أو يحملها المجتمع عنا، تمامًا كما تنصّ عليه “نظرية العقل” التي تؤكّد على أنّ الإنسان بطبعه يعمل على وضع الفرضيات والتوقعات حول الطريقة التي يفكّر بها الآخرين عنه، والتي قد تكون إيجابية فتشعرنا بالفخر، أو سلبية فتشعرنا بالعار والخزي.
تفكيك الإدراك
ربما تكون هذه الميزة أهم ما يفرّق بين العقل الصحيّ وعقل الفرد الذي يفكّر بالانتحار، وهو مفهوم اقترحه عالما النفس الاجتماعي روبن فالاشر ودانيال فيجنر، ويعني أنّ إدراكنا للعالم الخارجي يصبح أبسط بكثير في عقولنا، ولكن بطريقة ليست جيدة أبدًا.
الشخص الذي يفكر بالانتحار يجد صعوبة في تصور المستقبل البعيد، وربما لهذا السبب لا يردعه الخوف مما سيواجهه بعد الموت
فعلى سبيل المثال، يختلف المنظور الزمني عند الأشخاص الذين يفكرون بالانتحار ويتمنّونه بطريقةٍ تجعل اللحظة الراهنة وكأنها طويلة الأمد غير منتهية إلى جانب أنها مليئة بالملل والسأم الذي لا يُحتمل، وذلك بسبب تفكيرهم المسرِف بالماضي وقلقهم المبالغ فيه بالمستقبل، وبالتالي يسعون للهروب منهما عن طريق التركيز على العواطف السلبية والضيق العاطفي المتعلّق باللحظة الراهنة.
ووفقًا لبوميستر فإنّ ذهن المنتحر يشبه إلى حد كبير ذهن الشخص الذي يشعر بالملل، فالحاضر يبدو له غير منتهٍ وغير ممتع، وكلما نظر إلى الساعة تفاجأ بأنّ العقارب لا تتحرك أبدًا. كما أنّ الشخص الذي يفكر بالانتحار يجد صعوبة في تصور المستقبل البعيد، وربما لهذا السبب لا يردعه الخوف مما سيواجهه بعد الموت بأي شكل من الأشكال.
فقدان السيطرة على الذات
تعمل كلّ تلك الخطوات السابقة على تهيئة الجسد لفقدان سيطرته على الذات، بما يتضمن أيّ خوفٍ أو جزعٍ من ألمٍ محتمل قد يحدث أثناء الانتحار، أو التفكير بمشاعر عائلته وأصدقائه الذين سيتأثرون بخبر انتحاره. ولعلّ صعوبة الوصول لهذه الخطوة هي ما تجعل الكثير من محاولات الانتحار فاشلة، فالكثير ممن يفكرون أو يحاولون قتل أنفسهم، يصلون إلى نقطة الضعف العارمة التي لا يستطيعون فيها التغلب على خوفهم من الألم أو من أيّ نتائج سلبية محتملة ولا يمتلكون أي تصوّر عنها.
في المحصلة، وكما رأينا جميعًا فربما لا تكون تلك الخطوات الست غريبةً علينا، بل إنه من المؤكد أننا دخلنا في واحدة منها سواء على المدى القصير أو الطويل، فجميعنا نتعرّض لخيبات الآمال وعدم القدرة على تحقيق المعايير والأحلام، وجميعنا نلوم أنفسنا وذواتنا وندينها بشكلٍ أو بآخر، كما أننا لا نسلم أبدًا من سيل المشاعر السلبية المريرة التي قد نواجهها بشكلٍ يوميّ. لكنّ المهمّ هو أنْ نعلم أنّ كل تلك الأمور عابرة لا تستمرّ للأبد، وأنْ لا نهمل أنفسنا أو نتوانى في الحصول على المساعدة والعلاج النفسيّ، خشية أن نصل للمرحلة الأخيرة ونفقد السيطرة على ذواتنا فلا نعود نبالي لا لألمٍ ولا لخوفٍ من الموت ويصبح الانتحار سهلًا بالنسبة لنا لا وربما قد يصبح الخيار الوحيد المتبقي لدينا.