تمثل الفصائل المسلحة الموالية لإيران في العراق، التمظهر الأكثر بروزًا على صعيد خيار المواجهة مع القوات الأمريكية في المنطقة، وهي هوية “مقاوماتية وشعاراتية” بدأت تتضح يومًا بعد آخر منذ نهاية الحرب على تنظيم “داعش” في ديسمبر/كانون الأول 2017.
فقد كان واضحًا أن هذه الفصائل في إطار سعي متواصل لصياغة صورة عدو جديد، يوفر لها ذريعة مقنعة لمقاومة مطالبات ترك السلاح أو التخلي عن الامتيازات التي حصلوا عليها بعد الحرب، ووفرت عملية الوجود الأمريكي في العراق عبر مظلة التحالف الدولي فرصة مناسبة لهذه الفصائل.
ومن أجل منح خيار “المقاومة” بعدًا أكثر تنظيمًا، أعلنت الفصائل المسلحة رفضها المطلق لوجود القوات الأمريكية في العراق، ونجحت بدعم وتنسيق إيراني، وتحديدًا من قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني، في تشكيل هيكل عسكري جديد، تنضوي ضمنه أغلب هذه الفصائل، وهو “فصائل المقاومة الإسلامية في العراق”، لتتحول في مرحلة ما بعد اغتيال سليماني إلى “تنسيقية المقاومة الإسلامية”.
أدت عملية اغتيال سليماني إلى ارتباك كبير في سياق عمل هذه الفصائل، إلى جانب تعثر قائد قوة القدس الجديد إسماعيل قآني في ملء فراغ سليماني، وضبط إيقاع الفصائل المسلحة في العراق، التي أخذت هي الأخرى تبتعد وتقترب عن إستراتيجية قوة القدس في العراق.
وفي هذا الإطار، شكلت العلاقة مع إيران، وتحديدًا قوة القدس، متغيرًا رئيسًا في قياس درجة الدعم والتمويل الذي تتلقاه الفصائل من إيران، وهي علاقة لم تكن مستقرة بطبيعتها، ففي كل مرحلة كان هناك صعود وهبوط في مستوى العلاقة مع إيران، وحاولت الفصائل المسلحة جاهدة انتزاع صفة الحليف الموثوق، مقابل تنفيذ الأهداف المتعلقة بالإستراتيجية الإيرانية في العراق.
ففي الوقت الذي كانت فيه “حركة النجباء” الحليف الإيراني الأبرز في مرحلة ما قبل “داعش”، فإن بروز “داعش” والظروف التي رافقت الحرب عليه، ساهمت في ظهور فصائل أخرى تنافس “حركة النجباء”، وأهمها “كتائب حزب الله العراقي”، بحكم ارتباطها غير المباشر بقائد قوات الحشد الشعبي السابق أبو مهدي المهندس.
لعبت إيران دورًا في إدارة صراعات القيادة بين الفصائل المسلحة، ففي الوقت الذي فضل فيه هادي العامري قيادة “تحالف البناء” في البرلمان العراقي، تمكن “أبو فدك” عبد العزيز المحمدواي من تولي رئاسة أركان الحشد الشعبي، في حين تم تعيين أكرم الكعبي بصفته ممثل قوة القدس في العراق، ما جعل قيادات ولائية أخرى تتمايز عن المواقف الإيرانية في العراق، ومن أبرزهم قيس الخزعلي، الذي وجد نفسه خارج المعادلة الإيرانية في العراق.
خلافات متجددة
شكلت عملية الصعود السياسي للفصائل المسلحة المنضوية ضمن الإطار التنسيقي في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2021، ومن ثم انسحاب التيار الصدري من العملية السياسية، تحولًا مهمًا في إعادة صياغة خطاب “المقاومة” في العراق.
ففي الوقت الذي فضل فيه العامري والخزعلي خيار “المقاومة السياسية” على خيار “المقاومة العسكرية” الذي فضل الكعبي الاحتفاظ به، اتسعت فجوة الخلاف شيئًا فشيئًا بين هذه الأسماء الثلاث، مع ضرورة الإشارة إلى أن هناك فصائل أخرى وجدت نفسها ضمن دائرة هذا الخلاف، والحديث هنا عن “كتائب سيد الشهداء” التي يقودها أبو آلاء الولائي و”كتائب حزب الله العراقي” بقيادة أبو حسين المحمداوي.
وصلت حدة هذا الخلاف مع اندلاع الحرب في غزة، إذ أظهرت الفصائل المسلحة في العراق ردود فعل متباينة من الحرب الإسرائيلية على غزة، ففي الوقت الذي دعمت فيه جميع بيانات الفصائل المسلحة العملية العسكرية التي شنتها “حركة حماس”، فإنها أبدت من جهة أخرى تفاوتًا واضحًا في طبيعة موقفها من هذه الحرب، بين مترقب وداعم للانخراط فيها، سواء عبر توسيع ميدان المواجهة مع “إسرائيل”، أم ربط المشاركة بدخول الولايات المتحدة فيها.
أظهرت هذه المواقف بمجملها، تحولًا مهمًا في سلوك قادة الفصائل المسلحة العراقية، خصوصًا بعد حالة من الهدوء المنضبط في موقفها من الوجود الأمريكي في العراق، وتحديدًا بعد نجاحها عبر تحالف الإطار التنسيقي بتشكيل حكومة محمد شياع السوداني، إذ حملت تصريحات كل من الولائي والكعبي تهديدًا واضحًا للولايات المتحدة، في حين عكست تصريحات العامري والخزعلي حالة من الانضباط التكتيكي حيال ما يجري في غزة، خصوصًا مع عدم وجود موقف إيراني واضح منها.
طبيعة الخلاف الحاصل بشأن هوية “المقاومة” ورغم أنه ما زال في إطار هامشي، حول تسابق الفصائل الموالية لإيراني لتبني سردية “مقاوماتية” تميزها عن الآخر، فإن عدم ضبطه قد يتحول إلى حالة إستراتيجية، فقد أدت عملية انخراط “عصائب أهل الحق” التي يتزعمها الخزعلي في الشأن السياسي، ومن ثم إعلان “كتائب حزب الله العراقي” الهدنة مع القوات الأمريكية في العراق، إلى انفراد “حركة النجباء” بخيار استمرار المواجهة مع القوات الأمريكية،
وبنفس الوقت حملت الفصائل الأخرى مسؤولية تخليها عن خيار “المقاومة”، وهو ما أكدته تصريحات سابقة للخزعلي عن جدوى استمرار الهجمات على المواقع الأمريكية، إذا كانت لا تؤدي إلى نتائج حاسمة على المستوى العسكري والميداني.
تشير السلوكيات الإيرانية الأخيرة في العراق، عن تحول مهم في قراءتها لخيار المقاومة، وتمثلت أبرز هذه السلوكيات في دعمها للهجمات التي تقوم بها “حركة النجباء” من جهة، وإجبار “كتائب حزب الله العراقي” على الالتزام بخيار التهدئة مع القوات الأمريكية من جهة أخرى، رغم استمرار الهجمات الأمريكية على مواقعها وقادتها، والتي كان آخرها اغتيال قياديين بارزين في الكتائب وسط بغداد ليلة الأربعاء الماضي، وهم أبو باقر الساعدي قائد “كتائب حزب الله العراقي” في سوريا، وأركان العلياوي مسؤول الاستخبارات في الكتائب.
فشل الحكومات العراقية المتعاقبة، ومنها حكومة السوداني، في ضبط حركة الفصائل المسلحة، أسهم في غياب خطوط واضحة لأدوار هذه الفصائل
إن إعلان “كتائب حزب الله العراقي” عن تهدئة مع القوات الأمريكية في العراق، دفع “حركة النجباء” في مطلع فبراير/شباط الحاليّ إلى إصدار بيان على منصاتها في تليغرام تعبر فيه عن استمرار “عمليات المقاومة، وستبقى تطال المحتلين الأمريكي والصهيوني”، كما أصدر الكعبي بيانًا أكد فيه تصميم “حركة النجباء” على عدم الانضمام لقرار “كتائب حزب الله العراقي” بتعليق الهجمات ضد القوات الأمريكية.
وبعملية الاستحواذ على الفعل “المقاوم”، لا يطرح الكعبي نفسه كجزء من خلاف بين الفصائل المسلحة في العراق فحسب، بل أيضًا في سياق إقليمي عابر للحدود، فمحاولة الكعبي الالتزام بخيار “المقاومة” تمثل خطوة للارتقاء بـ”حركة النجباء” من كونها فاعلًا محليًا عراقيًا إلى فاعل إقليمي لا يقل تأثيرًا وأهمية عن “حزب الله اللبناني والحوثيين”، خصوصًا بعد ارتباط “كتائب حزب الله العراقي” بهدنة مع القوات الأمريكية، وانشغال “عصائب أهل الحق” وغيرها من الفصائل بالشأن السياسي، وهو ما يترك الباب مفتوحًا أمام “حركة النجباء” للمضي بهذا الخيار دون منافسة.
فالميزة الإستراتيجية التي يوليها الكعبي إلى جانب ما تقدم، تتمثل بعملية الانفراد بالدعم الإيراني في الداخل العراقي، عبر إظهار “حركة النجباء” كركن رئيسي في “محور المقاومة” الذي تقوده إيران في المنطقة، ومنها العراق، ويبدو أن إيران داعمة لهذا الخيار، خصوصًا أنها قيدت تحركات باقي الفصائل، في مقابل دعم الهجمات التي تشنها “حركة النجباء” على المواقع والمقرات الأمريكية في العراق، وتحديدًا في إقليم كردستان.
التحولات الجديدة التي تشهدها البيئة العراقية، وتحديدًا على مستوى الموقف من الحرب في غزة والوجود الأمريكي، فضلًا عن صراعات القيادة بين قادة الفصائل المسلحة، أدخلت العلاقات بين الفصائل التي تتبنى خيار “المقاومة” في مسار معقد للغاية، إذ تمارس إيران اليوم جهودًا لتأجيل أي خلافات قد تحصل بين الفصائل الموالية لها في العراق، لأسباب متعلقة بالداخل الإيراني، وأخرى تتعلق بالوضع العراقي، وثالثة متعلقة بمسارات العلاقة مع الولايات المتحدة.
فشل الحكومات العراقية المتعاقبة، ومنها حكومة السوداني، في ضبط حركة الفصائل المسلحة، أسهم في غياب خطوط واضحة لأدوار هذه الفصائل، داخل وخارج العراق، وهو ما قد ينبئ بتداعيات خطيرة قد يشهدها الواقع العراقي، فيما لو تحولت الخلافات الفصائلية من السياسية والاقتصادية، إلى أمنية، واستخدام الصراع المسلح وتحشيد الشارع، كمدخل للاستحواذ والسيطرة في العراق.