ترجمة وتحرير نون بوست
في البداية جاءت الرمشة، ثم تلتها الخطوة الكبيرة إلى الوراء حينما أعلن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في السابع من سبتمبر / أيلول أن تبدلاً قد طرأ على أهداف خطة التحول الوطني، والتي تعتبر عنصراً أساسياً في محاولته الجريئة لإحداث تغيير دراماتيكي في الوقائع الاقتصادية والاجتماعية داخل المملكة، والتي بات بسبب عوامل كثيرة هو الحاكم الفعلي لها والمتحكم بمقاليد الأمور فيها.
وكانت خطة التحول الديمقراطي التي أعلن عنها في ديسمبر من عام ٢٠١٥ قد أدمجت سريعاً ضمن رؤية ٢٠٣٠، وهي خطة الحكومة لإحداث تغير راديكالي، والتي دشنت في احتفالية ضخمة في إبريل الماضي وأتاحت الفرصة أما الأمير الشاب ليصعد نجمه ويتلألأ على الساحة الدولية في زمن قياسي.
هذا الوزير الشاب البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً هو الابن المدلل للملك سلمان الذي بلغ من العمر عتياً ونالت منه الشيخوخة حتى الخرف. ومن المواقع التي يحتلها الأمير الشاب منصب رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية، ووزير الدفاع، والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وهو الذي يترأس فعلياً شركة أرامكو السعودية، التي تعتبر بمثابة جوهرة التاج في المملكة. كما أنه حاجب والده والحارس على بابه، فكل من أراد أن يتحدث مع الملك لابد له من أن يعبر إليه من خلال ابنه هذا.
لم يوفق محمد بن سلمان في أي من الميادين الثلاثة الأهم: الميدان العسكري، والميدان الدبلوماسي، والميدان الاقتصادي، بل كان الإخفاق حليفه فيها جميعاً.
وكان قد أظهر سطوته في انقلاب القصر الذي وقع في يونيو / حزيران ٢٠١٧ والذي شهد إزاحة منافسه الوحيد على العرش الأمير محمد بن نايف الذي كان حينها يحتل منصب وزير الداخلية. ولعل السهولة التي تم من خلالها تجريد محمد بن نايف من منصبه على رأس أقوى وزارة في المملكة والإطاحة به من ولاية العهد كانت مقياساً لمدى ما بات يتمتع به محمد بن سلمان من نفوذ ومقدار ما اجتمع له من سلطات وصلاحيات.
ولكن بالرغم من كل ما تراكم لديه من سلطة ونفوذ لم يوفق محمد بن سلمان في أي من الميادين الثلاثة الأهم: الميدان العسكري، والميدان الدبلوماسي، والميدان الاقتصادي، بل كان الإخفاق حليفه فيها جميعاً.
معركتان لا تلوح في الأفق لهما نهاية
مضى على الحرب التي شنها محمد بن سلمان على اليمن ما يزيد عن عامين. كان حينها يعتقد بلا شك بأنه سيكسبها سريعاً وسيخرج منها بطلاً قد تلمعت صورته وتحسنت مؤهلاته، إلا أن كل ما فعلته هو أنها تدمر بوحشية هذا البلد الأشد فقراً في العالم العربي. لقد تجاوز عدد من قتلوا حتى الآن عشرة آلاف إنسان، بينما تعرض ما يزيد عن ستمائة ألف للإصابة بوباء الكوليرا، ويواجه الملايين خطر المجاعة. ولعله حان الوقت بكل تأكيد لأن يبادر محمد بن سلمان بإعلان وقف من جانب واحد لحرب القصف الجوي هذه.
بات مجلس التعاون الخليجي في مهب الريح مهدداً بالانهيار
إلا أن القنابل مستمرة في التساقط بلا توقف، ويبدو أن السعوديين مصممون على المضي في الحرب التي لا يبدو أن لهم قبل بكسبها على الرغم مما يتوفر لديهم من تفوق عسكري بين.
وفي يونيو / حزيران من هذا العام، وبالتوافق مع الحاكم الفعلي لدولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد، فتح محمد بن سلمان النار في الميدان الدبلوماسي متهماً قطر، الدولة العضو في مجلس التعاون الخليجي، بأنها مصدر تمويل الإرهاب. وبعد أن جروا معهم كلاً من البحرين ومصر، فرض الإماراتيون والسعوديون حصاراً برياً وبحرياً وجوياً على قطر ظناً منهم أن القطريين لن يصمدوا طويلاً وسرعان ما سينهارون أمامهم ويخضعون لهم.
إلا أن ذلك لم يحدث، كما لم تنضم أي من البلدان المهمة إلى هذا الحصار الدبلوماسي والاقتصادي الذي تشنه حالياً الدول الأربع بأسلوب يتسم بالحماقة والسخافة. وبعد مضي ما يزيد عن ثلاثة شهور على بدء الحصار، بات مجلس التعاون الخليجي في مهب الريح مهدداً بالانهيار بينما ترقب إيران – التي من المفروض أنها الخصم الإقليمي الأكبر للسعودية – المشهد وقد تملكتها مشاعر ابتهاج وسعادة لا تكاد تخفيها. في هذه الأثناء يقف الأصدقاء والحلفاء يرمقون ما يجري وقد انتابتهم حالة من الرعب.
استئصال الورم
ولا حتى في الميدان الاقتصادي تسير الأمور على ما يرام. فاستراتيجية محمد بن سلمان الجريئة لإعادة تشكيل الاقتصاد من خلال تنشيط القطاع الخاص وتمكين النساء وتقليص الإنفاق الحكومي ضمن مظلة “رؤية ٢٠٣٠” تعرقلت للمرة الأولى في إبريل حينما أعلنت الحكومة عن تراجعها عن قرار كانت قد اتخذته قبل ستة شهور فقط بخفض البدلات التي تصرف لموظفي الدولة ولمنتسبي القوات المسلحة، حيث بلغت نسبة التخفيض في بعض الحالات أربعين بالمائة من مجمل ما يتقاضاه الموظف ويعود به إلى بيته.
خلق ما يزيد عن مليون وظيفة جديدة في القطاع الخاص ضمن نفس الفترة الزمنية، لم تكن أهدافاً واقعية أو قابلة للإنجاز.
كان رد الفعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي قوياً، وخاصة في أوساط الشباب السعودي الذي يشكل ما نسبته سبعين بالمائة من التعداد الكلي للمواطنين. شكل ذلك التراجع اللحظة التي رمش فيها محمد بن سلمان، والآن بعد الرمشة تأتي الخطوة الكبيرة إلى الوراء، حيث يتدافع وزراء الحكومة لإعداد نسخة معدلة من خطة التحول الوطني يتم فيها تأجيل بعض المواعيد المهمة خمسة أعوام أو أكثر بينما يلغى بعضها بشكل نهائي.
سيخبرك المحللون بأن ما حصل لم يكد منه بد، فكثير من الأهداف، بما في ذلك تحرير المملكة العربية السعودية من الاعتماد على النفط بحلول عام ٢٠٢٠ وخلق ما يزيد عن مليون وظيفة جديدة في القطاع الخاص ضمن نفس الفترة الزمنية، لم تكن أهدافاً واقعية أو قابلة للإنجاز.
تملك المملكة العربية السعودية اقتصاداً موجهاً يتغذى من موارد النفط ومنتجاته، وفيها عائلة حاكمة ضخمة يتوقع أفرادها الاستمرار في العيش في رغد ورفاهية في حين يشعر بوخز التراجع في مستوى المعيشة عامة المواطنين بينما تراوح أسعار النفط في مكانها قريباً من خمسين دولاراً للبرميل.
حتى الآن لم ينجم عن الجهود المبذولة لتنشيط القطاع الخاص سوى نتائج متواضعة، ولم تلبى بعد الاحتياجات الأساسية مثل بناء منازل لذوي الدخل المحدود وخلق فرص عمل ذات معنى، الأمر الذي أثر سلباً على سمعة وشعبية ولي العهد في أوساط الشباب السعودي.
لم يتسن لأحد من أفراد العائلة السعودية مذ جده ابن سعود مؤسس المملكة أن اجتمع له من السلطة والنفوذ ما اجتمع لمحمد بن سلمان
أما الشركات الأجنبية والمستثمرون الأجانب فيرون في التراجع مؤشراً على أن محمد بن سلمان يواجه معارضة متنامية من داخل المؤسسة الدينية ومن داخل النخبة في قطاع الأعمال ومن داخل العائلة الحاكمة نفسها ناهيك عن جهاز خدمة مدنية تعود على الرواتب المتضخمة وساعات العمل الفضفاضة في قطاع عام شديد الانتفاخ.
الاحتمالات المنجرفة
والأكثر من ذلك أنه بعد أن قام محمد بن سلمان بادئ الأمر بتهميش الوزارات الكبيرة، ها هو الآن قد أعاد كثيراً من الوزارات ذاتها إلى دائرة الاهتمام وكلفها بكتابة وثيقة جديدة من المفروض أن تكون جاهزة للنشر في نهاية أكتوبر / تشرين الأول. ومن ضمن هذه الوزارات تلك التي لها علاقة بخطة الخصخصة والإصلاح المالي وتوفير المساكن التي يفترض أن يقدر عليها ذوو الدخل المحدود. إذن يمكن القول إن ثعالب البيروقراطية السعودية عادت تارة أخرى إلى بيت الدجاج.
يراهن محمد بن سلمان على أن بإمكانه التخلص من أعدائه وحمل جيل الشباب من السعوديين معه
كما أن هناك خشية من أن هذه الخطة الكبرى، وكما حصل لكثير من الخطط التي سبقتها، سوف تقلص أكثر وأكثر لدرجة أن الخصخصة الجزئية المقترحة لشركة أرامكو السعودية والتدفق النقدي الهائل الذي من المفروض أن تولده الخصخصة لن يكفي لإقامة نموذج اقتصادي مستدام ناهيك عن أن يقترب من إنجاز الأهداف السامية التي حُددت لرؤية ٢٠٣٠.
لم يتسن لأحد من أفراد العائلة السعودية مذ جده ابن سعود مؤسس المملكة أن اجتمع له من السلطة والنفوذ ما اجتمع لمحمد بن سلمان. إلا أن السلطة العظيمة تجلب معها مخاطر كبرى. لقد ولت تلك الأيام التي كانت تشهد إقامة توازن حذر بين فروع العائلة الحاكمة، كما ولت معها المقاربة التوافقية تجاه المشاركة في الثروة والسلطة. نحن أمام تحول زلزالي ولعبة في غاية الخطورة.
يراهن محمد بن سلمان على أن بإمكانه التخلص من أعدائه وحمل جيل الشباب من السعوديين معه، إلا أن احتمال تمكنه من تحقيق ذلك آخذ في التقلص، ولم يعد ثمة شك في أن أعداءه بدأوا يتجمعون ويتربصون به الدوائر.
المصدر: ميدل إيست آي