كيمياء خاصة جمعت بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والمصري عبد الفتاح السيسي منذ بداية الحملة الانتخابية، وقبل تولي الأول دفة الحكم رسميًا في أكبر دولة بالعالم نهاية العام الماضي، وكثيرًا ما لعب الإعلام المصري على وتر هذا التقارب لإضفاء حالة من الضخامة المعنوية على الرئيس المصري مقارنة بمن سبقوه عند مماليك “البيت الأبيض”، وعزز من ذلك الإشادات المتكررة من ترامب بالسيسي والعكس. ولكن مؤخرًا بدأت العلاقات تشهد منحنيات متعددة، انتهى بها الحال إلى تقليص المساعدات الأمريكية لمصر وخاصة العسكرية منها بشكل غير مسبوق، لتكشف الصحافة الأمريكية ما وراء الكواليس وتؤكد أن هناك علاقات عسكرية سرية تجمع مصر بكوريا الشمالية، عدو ترامب الأول في العالم حاليًا.
الصحافة العالمية لم تكتف بما ردده مسؤولو الخارجية الأمريكية فور إعلان قرار خفض المساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر بنحو 300 مليون دولار في 22 من أغسطس الماضي بزعم تدهور حقوق الإنسان في مصر، وهو المبرر الذي انساقت خلفه أغلب الوسائل الإعلامية العربية على اختلاف أنماطها وتوجهاتها وموقعها من السلطة الحاكمة في مصر، وأُفردت مساحات كبرى لتحليلات ليست على مستوى الحدث، وتبارت في جمع تفسيرات عاطفية لاستبصار دوافع القرار الأمريكي في ظل الحميمية الملحوظة بين ترامب والسيسي.
في المقابل كانت تعمل الصحافة الغربية على استيفاء المعلومات الكاملة من مصادرها بمطابخ صنع القرار والمعنيين بشؤون الشرق الأوسط، لتكشف عن سبب – لم يكن يتوقعه أحد -، خلف إقرار البيت الأبيض لعقوبات اقتصادية مفرطة على القاهرة.
كلمة السر في تعكير العلاقة بين السيسي وترامب
قبل شهرين من الآن، هاتف الرئيس الأمريكي حليفه المصري، وحسب بيان صدر وقتها عن البيت الأبيض، دار الحوار بين ترامب والسيسي بجانب التطورات في الأزمة الخليجية، عن علاقة مصر بكوريا الشمالية، ولم يحمل البيان أكثر من إظهار تشديد الرئيس الأمريكي على ضرورة التزام الدول كافة بقرارات مجلس الأمن الدولي ضد العاصمة المارقة الخارجة عن طاعة المارد الأمريكي، وكان اللافت أن الاتصال والحديث عن محاصرة كوريا جاء بعد إعلان الخارجية الأمريكية اقتطاع 95.7 مليون دولار من المساعدات الأمريكية إلى مصر، وتعليق 195 مليونًا أخرى.
يحكم مصر وكوريا الشمالية تاريخ طويل من العلاقات المتميزة، فالبلدان كانا شريكين في حركة عدم الانحياز، وجمعهما تحالف وثيق مع الاتحاد السوفيتي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي
غياب الديمقراطية واستهداف المجتمع المدني في مصر، كانت التهمة المعلنة من الخارجية الأمريكية لمصر، إلا أن الإشارات إلى كوريا الشمالية في الاتصال بين ترامب والسيسي كان طرف الخيط الذي اتبعه صحيفتا واشنطن بوست ونيويورك تايمز، وأفردتا مساحات للبحث في خلفيات القرار الأمريكي المتشدد ضد مصر في ظل علاقات القوية بين البلدين حاليًا.
بعد الكشف عن توتر العلاقة بين الرئيس المصري والأمريكي، بنسبة معقولة جاءت ضغوط ترامب في محلها، حيث وافقت مصر على العقوبات الجديدة التي أقرها مجلس الأمن ضد كوريا الشمالية، وهي حالة نادرة لم تتعود عليها بيونغ يانغ من القاهرة، خاصة أن الأخيرة غالبًا ما كانت تصوت ضد مشاريع قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة وبصفة خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان التي تنسج حولها الأساطير في كوريا الشمالية، والغلظة المفرطة التي يتعامل بها النظام هناك مع معارضيه.
وعلى ما يبدو لم يكن تأييد القاهرة للعقوبات على بيونغ يانغ كافيًا، فتبعت مصر قرارها بإعلان وزير الدفاع المصري صدقي صبحي قطع العلاقات العسكرية مع كوريا الشمالية وذلك خلال زيارة رسمية له إلى كوريا الجنوبية، لمتابعة نتائج مذكرة التفاهم بشأن التعاون الدفاعي بين سيول والقاهرة، والتي وقعها الجانبان في شهر مارس الماضي، وقال وزير الدفاع المصري، إن بلاده ستتعامل بشكل وثيق مع كوريا الجنوبية ضد تصرفات بيونغ يانغ التي تهدد استقرار المجتمع الدولي.
كما وافق صبحي على طلب نظيره الكوري الجنوبي للتعاون بشأن تشديد العقوبات على كوريا الشمالية ردًا على تجربتها النووية الأخيرة التي أجرتها الأسبوع الماضي، بالإضافة إلى توسيع التعاون الثنائي في مجال الصناعات الدفاعية، وكذلك فتح ملحقية عسكرية لمصر بعاصمة كوريا الجنوبية الشهر المقبل.
القاهرة ـ بيونغ يانغ.. تحالف تاريخي في السر والعلن
يحكم مصر وكوريا الشمالية تاريخ طويل من العلاقات المتميزة، فالبلدان كانا شريكين في حركة عدم الانحياز، وجمعهما تحالف وثيق مع الاتحاد السوفيتي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وساهم في دفع هذه العلاقة للأمام تولي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رأس السلطة في مصر عام 1952، وكان يحظى بإعجاب وتقدير كبيرين بسبب دوره النشط في حركة عدم الانحياز، بالإضافة إلى خطابه الثوري الانفعالي وتنمره في وجه أمريكا وحلفائها.
قدمت كوريا الشمالية دعمًا دبلوماسيًا جديدًا لمصر في حرب اليمن، كما أدانت بشدة سلوكيات “إسرائيل” خلال حرب 1967 وكان لذلك أبلغ الأثر في زيادة منسوب الثقة بين البلدين
ساندت كوريا الشمالية الزعيم المصري في أزمة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكانت من أولى الدول الداعمة لقراره بتأميم قناة السويس واستمرت علاقات الإعجاب المتبادل بين البلدين حتى قررت كوريا الشمالية عام 1961 إرسال وفد دبلوماسي إلى مصر لبحث كيفية إقامة علاقات قنصلية وسياسية رسمية مع القاهرة.
بعد توثيق العلاقة رسميًا، قدمت كوريا الشمالية دعمًا دبلوماسيًا جديدًا لمصر في حرب اليمن، كما أدانت بشدة سلوكيات “إسرائيل” خلال حرب 1967 وكان لذلك أبلغ الأثر في زيادة منسوب الثقة بين البلدين، وعلى إثره استعانت القوات الجوية المصرية ببعض الطيارين الكوريين لمساعدة مصر في الاستعداد فنيًا للحرب ضد الكيان الصهيوني التي جرت عام 1973.
الدعم الكوري لمصر لم يكن من طرف واحد، بل ساعدت القاهرة هي الأخرى البرنامج الكوري الشمالي للصواريخ البالستية، وسلمت الأولى صاروخين سوفيتين من طراز “سكود – بي” إلى كوريا الشمالية لفك شفرتها وتطويرها، وتعاون البلدان في الاستفادة من هذه التكنولوجيا وبالفعل سلمت بيونغ يانغ مصر دراسات فنية لتطوير صواريخ سكود يمكنها حمل رؤوس نووية لمسافة أكثر من 300 كيلومتر، بما يمكن القاهرة من تهديد جميع أنحاء “إسرائيل” وذلك وفق تأكيدات معهد “ويسكونسين بروجيكت”.
ورغم الدور المحوري لعبد الناصر في تعزيز العلاقات بين مصر وكوريا الشمالية، فإن وفاته لم تثن البلدين عن استمرار التقارب، ولم يزعزع هذا التفاهم ابتعاد مصر عن الدوران في فلك الاشتراكية والقومية ومعاداة الإمبريالية العالمية، أو تحولها من المعسكر السوفيتي إلى التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي.
وكان لافتًا للنظر الزيارات الأربعة التي قام بها الرئيس الأسبق حسني مبارك إلى بيونغ يانغ بداية من عام 1983 وحتى عام 1990، وتأسس على هذه الزيارات زرع نبتة الاستثمارات المصرية في كوريا الشمالية وبالقلب منها شركة أوراسكوم، وهي إحدى أهم ممتلكات الملياردير المصري نجيب ساويرس، والمالكة لشبكة الهاتف المحمول الوحيدة في كوريا الشمالية حتى الآن منذ تأسيسها عام 2008.
في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لم تختلف التفاهمات السياسية والعسكرية بين مصر وكوريا الشمالية
كما ظلت التفاهمات السياسية والاقتصادية قائمة بين القاهرة وبيونغ يانغ بعد وفاة عبد الناصر، مرورًا بالتغيرات كافة التي طرأت على اتجاهات القاهرة بعد ذلك، لم تُغير أيضًا التحولات السياسية في مصر منذ اندلاع ثورة 25 يناير من عام 2011 وما تلاها من تغير بنية الحكم أكثر من مرة على مدار السنوات الماضية من قوة العلاقة بين البلدين، واستمرت مدينة بورسعيد المصرية نقطة مركزية لشحن صادرات الأسلحة الكورية الشمالية إلى إفريقيا، بحسب مصادر صمويل راماني، الكاتب الصحفي والأستاذ في جامعة أكسفورد، والذي كتب مقالاً مطولاً عن الأزمة قبل أيام«thediplomat» .
وفي عهد السيسي، لم تختلف التفاهمات السياسية والعسكرية بين مصر وكوريا الشمالية، بل إن الرئيس المصري القادم من المؤسسة العسكرية يبدو أنه كان على قناعة كبرى بضرورة استعانة القاهرة بخبرات بيونغ يانغ العسكرية وخاصة أنظمة الصواريخ في ظل اهتمام الجيش المصري بشراء منظومة صواريخ “أرض – جو” جديدة وهي التكنولوجيا التي تمتلكها كوريا الشمالية، ويمكنها مساعدة القاهرة في فرض الحماية الكاملة على الأراضي المصرية، وتوفير رد مزلزل لمصر حال اندلاع أي مواجهة عسكرية في المستقبل رغم استقرار العلاقات المصرية الإسرائيلية حاليًا، وكذلك مساعدة حليفتها الكبرى السعودية التي تواجه مخاطر محتملة من حدوث اشتباك عسكري بينها وبين إيران.
سر ضغوط واشنطن على القاهرة لفك الارتباط مع بيونغ يانع
تنتاب واشنطن مخاوف كبري من احتمالات سعي مصر لامتلاك وسيلة الردع النووي، وتدعم هذه المخاوف بواقعة اكتشاف وكالة الطاقة النووية يورانيوم عالي التخصيب في مفاعل “أنشاص” المصري عام 2007، وهو السلاح الذي تمانع الولايات المتحدة وروسيا أيضًا امتلاك مصر له، وبالتالي تصبح كوريا الشمالية الخيار المتاح للقاهرة في ظل العلاقة الوثيقة بين البلدين لتصدير التكنولوجيا والخبرة اللازمة لمصر في هذا المجال.
يبلغ حجم استثمارات كوريا الجنوبية في مصر نحو 64.5 مليون دولار موزعة على أكثر من 103 شركات تعمل في المجالات الصناعية والخدمية والسياحية
كما تتخوف أمريكا من طموح السيسي المتصاعد في امتلاك قوة عسكرية ضاربة، خاصة بعد سياسته الناجحة في الاعتماد على مصادر متعددة لتسليح الجيش المصري بأفضل وأحدث الأسلحة، وهو ما يجعل واشنطن في قلق بالغ ومستمر من احتمالات سعي مصر لامتلاك رادع نووي خاص بها، بدعم من كوريا الشمالية خاصة أن مصر ترفض التخلي عن علاقتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية ببيونغ يانغ، رغم كونها أحد أهم الحلفاء الرئيسين لأمريكا في المنطقة منذ توقيع اتفاقية السلام مع “إسرائيل” قبل أربعة عقود، الأمر الذي جعل ترامب يلجأ لمقايضة السيسي بالاختيار ما بين أمريكا وكوريا الشمالية.
علاقة سيول بالقاهرة.. هل تغني عن بيونغ يانغ؟
تجمع مصر بكوريا الجنوبية، شراكة استراتيجية تخضع لتطوير مستمر في مختلف المجالات، وبخلاف الانغلاق الكوري الشمالي والعلاقات الغامضة مع مصر والتعاون في الأسلحة والمجالات التدميرية، فإن الثقافة إحدى الركائز الأساسية في توطيد العلاقات بين مصر وكوريا الجنوبية، ويتم تبادل البعثات الموسيقية التقليدية وإقامة معارض للتراث الثقافي الكوري، وتنظيم المهرجانات الثقافية بالتعاون مع البعثات الدبلوماسية المعتمدة بالقاهرة.
وتوثقت العلاقات السياسية بين مصر وكوريا الجنوبية منذ عام 1961 وتم الاتفاق حينها على إقامة علاقات قنصلية، وبالفعل افتتحت جمهورية كوريا قنصليتها العامة في القاهرة عام 1962، بينما افتتحت مصر قنصليتها العامة في العاصمة الكورية (سيول) عام 1991، واتفق البلدان عام 1995 على ترقية العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مستوى سفارة، وفي 2015 احتفل البلدان بالذكرى الـ20 لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بينهما.
ولجمهورية كوريا الجنوبية ملحق عسكري في القاهرة منذ عام 1996، وبالمثل عينّت مصر ملحقًا تابعًا لوزارة الدفاع في العاصمة الكورية، ووقع البلدان مذكرة تفاهم عام 2004 لتغطية مجالات متنوعة من الحكومة الإلكترونية وتطوير خدمات البريد المصري ومجلس الأعمال المشترك ويضم أعضاءً بارزين من الجانبين بجمعية رجال الأعمال المصريين، رابطة الصناعات الكورية، ويلعب هذا المجلس دورًا كبيرًا في تقوية التعاون الاقتصادي والتجاري بين مجتمعي رجال الأعمال على كلا الجانبين، وكذلك جذب الاستثمار الكوري إلى مصر.
ويبلغ حجم استثمارات كوريا الجنوبية في مصر نحو 64.5 مليون دولار موزعة على أكثر من 103 شركات تعمل في المجالات الصناعية والخدمية والسياحية والإنشائية والزراعية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وذلك وفقًا للهيئة العامة للاستثمار، وربما تؤكد هذه المعلومات أن سيول بديل قوي لمصر عن جارتها وعدوها اللدود، وأحد أهم بؤر تصدير الأزمات للعالم، ولكن تبقى حسابات الواقع والمنطق شيئًا، وحسابات صانع القرار في الوطن العربي شيئًا آخر.