بينما كان الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك يلقي خطاب التنحي الشهير في 11 فبراير/شباط 2011، استجابة لإرادة المصريين الذين خرجوا للشوارع والميادين منذ 25 يناير/كانون الثاني من نفس العام رافعين شعار “ارحل”، كان الشعب اليمني هو الآخر على موعد مع التحرر الوطني، حين خرج الآلاف منهم مطالبين علي عبد الله صالح بترك السلطة، مرددين هتافهم الشهير “إسقاط النظام”.
عقب قرابة 30 عامًا جثم خلالها صالح وعصابته على صدور اليمنيين، انتفض أحرار اليمن بإرادة تحررية خالصة، مدفوعين بحب الوطن، يراودهم حلم الاستقلال عن الأنظمة السلطوية الديكتاتورية التي نهبت خيرات البلاد وأغلقت كل الآفاق السياسية والاقتصادية والحقوقية، وحولت الدولة إلى “عزبة” يتحكمون بها كما أرادوا.
وبالفعل نجحوا في إزاحته عن الحكم بعد أثمان باهظة دفعوها من أرواحهم وحرياتهم، غير أن الأمور لم تدم طويلًا، كغيرها من بلدان الربيع العربي، حيث تحول الحلم إلى كابوس، وبدلًا من تحرير البلاد من براثن نظام ديكتاتوري، تكالبت القوى الإقليمية بأجنداتها المختلفة تنهش في جسد الدولة، وحولتها إلى ساحة صراع وحروب بالوكالة.
واليوم، يُحيي اليمنيون الذكرى الـ13 لحلمهم الثوري الذي وأدته الأجندات والطموحات الاستعمارية لقوى المنطقة، وهم غرقى في وحل النزاعات التي لا تتوقف، ويواجهون مستقبلًا مجهولًا، حيث لا أفق غير دخان الحرب الذي لا يخرج منه إلا صراخ الأطفال وعويل النساء وأنين الأرض.
ضحية الأجندات الإقليمية
أعلن صالح استعداده ترك السلطة، رضوخًا للملايين الذين انتفضوا ضده في شوارع وميادين اليمن كافة في 25 مارس/آذار 2011، لكنه سرعان ما تراجع عن هذا القرار، رافضًا التخلي عن الحكم لأي سلطة أو مجلس انتقالي يتم اختياره لإدارة المرحلة، فيما رفضت المعارضة وقتها أي حل لا يتضمن تخلي الرئيس وأبنائه عن السلطة بشكل نهائي ورسمي.
أمام تلك الضغوط التي مارسها الداخل والخارج، اضطر صالح في 30 من الشهر ذاته إلى تسليم السلطة لحكومة مؤقتة، لكنه ظل يناوش هنا وهناك في مواجهة المتظاهرين، ليتحول من رئيس دولة إلى ما يشبه قائد المليشيات، أملًا في أن تتغير الأجواء ويعود للحكم مرة أخرى، إلا أنه وجد نفسه مجبرًا على قبول المبادرة الخليجية التي تقدمت بها السعودية وقتها للخروج الآمن من السلطة وتسليمها لنائبه عبد ربه منصور هادي في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وذلك نظير حصانة دائمة وغير قابلة للطعن، له ولكل من خدموا معه طيلة سنواته الرئاسية الـ33.
وفي 21 فبراير/شباط 2012 تم إدخال المبادرة حيز التنفيذ، ليتنحى صالح عن الحكم بشكل رسمي ويتقلد نائبه منصور هادي السلطة، وهنا توهم اليمنيون أن الثورة قد انتصرت، وأن حلم إزاحة النظام الفاسد قد تحقق، لكنه الحلم الذي لم يدم طويلًا، حيث وقعت الدولة والشعب معًا ضحية أجندات خارجية غيرت المعادلة وقلبت الطاولة على الجميع.
إيران وتوظيف ميليشيا الحوثيين
وجدت إيران في تلك الأجواء فرصتها السانحة لتعميق نفوذها في الداخل اليمني، حيث دعمت ميليشيا الحوثي لتحقيق حلم التوسع وفرض الهيمنة على تلك الدولة الرخوة التي أرهقتها الصراعات والنزاعات القبلية الداخلية، فأصبحت لقمة مستساغة في فم طهران عبر أذرعها الشيعية المسلحة هناك.
وهنا تناغم حلم جماعة الحوثي في الخروج من تحت الأرض إلى ساحة الأضواء مع أحلام الملالي التوسعية، حيث دعم الإيرانيون الحوثيين بشكل غير مسبوق، فحولوهم من عصابات تسكن الجبال إلى فصيل قوي عسكريًا يتفوق تسليحيًا على الجيش اليمني وعناصر الإصلاح التابعة لجماعة الإخوان التي كانت الند والخصم اللدود للحوثي في معركة النفوذ داخل اليمن.
تحركت طهران في دعم الحوثيين وتوسعة سيطرتهم على الأرض من مقاربتين: الأولى تتعلق بتعميق نفوذها الإقليمي والتوسع الجغرافي في منطقة لوجستية ذات قيمة وأهمية كبيرة، أما المقاربة الثانية فتوظيف هذا الملف للضغط على السعودية، خصمها التاريخي، واستخدام هذا الكارت كورقة قوية تلعب بها بين الحين والآخر لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية في ملف العلاقات مع الخليج من جانب ومع الغرب من جانب آخر.
لم تضع طهران ولا ميليشيات الحوثي أي خطوط حمراء في نشاطها العسكري داخل اليمن، حتى لو تكلف الأمر سقوط عشرات آلاف الضحايا، فهذا الأمر لا يمثل أي أزمة ولا معضلة أمام أحلام التوسع الحوثي الإيراني، الأمر الذي زاد من تفاقم الكارثة الإنسانية التي حلت بالبلاد طيلة السنوات العشرة الماضية تحديدًا.
السعودية.. النوايا وحدها لا تكفي
في 25 مارس/آذار 2015 وأمام هذا التغول الحوثي الذي بات يشكل تهديدًا كبيرًا لدول الجوار، أعلنت السعودية، بعد طلب رسمي من الرئيس اليمني عبد ربه منصور، قيادتها لتحالف عسكري عُرف بـ”التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن”، يهدف إلى القضاء على معاقل الحوثيين في صنعاء بعد الاستيلاء عليها، وذلك من خلال غارات جوية على المطارات والقواعد العسكرية، ومراكز القيادة والسيطرة.
كان هدف الرياض حينها عودة الشرعية لليمن والممثلة في سلطة منصور، ومساعدة الشعب اليمني في القضاء على الحوثيين المدعومين من طهران، وتقليم أظافر الجماعة التي صعدت من خطابها العدائي ضد المملكة ودول الخليج بصفة عامة، هذا بجانب الزود عن أمنها القومي من مناطقه المتقدمة بعدما شكل الحوثيون تهديدًا عسكريًا لحدود السعودية واستهدفوا بعض مناطقها الجنوبية في جيزان ونجران التابعتين لمنطقة عسير الجنوبية.
غير أن فقدان المملكة السيطرة على المعركة وتغريد الإمارات خارج السرب والتغيرات الواضحة التي شهدتها إستراتيجية السعودية في مواجهة الحوثيين، كل ذلك ألقى بظلاله القاتمة على المشهد اليمني، فوضع السعوديون أمنهم القومي وخلفياتهم الإيديولوجية ونزعتهم القبلية العصبية فوق كل الاعتبارات الإنسانية والحياتية لليمنيين الذين تعرضوا لقصف شامل وقاسٍ من التحالف الذي تقوده السعودية – كذلك الحوثيين -، ما أسفر عن سقوط أعداد كبيرة من الأبرياء معظمهم من الأطفال والنساء ونزوح مئات الآلاف بعدما أصبحت مناطقهم غير قابلة للحياة.
الإمارات.. الطموح على حساب شعب بأكمله
منذ اليوم الأول لدخول الإمارات التراب اليمني ضمن التحالف السعودي، اتضح أن أهدافها كانت بعيدة تمامًا عن أهداف التحالف، فلم يكن القضاء على الحوثيين هو شغلها الشاغل، لكنها اتخذت من هذا الأمر ستارًا يشرعن دخولها ويخلق لها موطئ قدم في اليمن.
وبالفعل انكشفت الأهداف الحقيقية لأبناء زايد تباعًا، حيث التغريد خارج سرب التحالف شكلًا ومضمونًا، وهو ما أجهض الجهود المبذولة لتحقيق الهدف الرئيسي، ومنح الحوثيين قبلة الحياة في إيقاع الكثير من الخسائر بصفوف التحالف، وهو الأمر الذي فطن إليه السعوديون مؤخرًا وكان سببًا في توتير الأجواء بين الرياض وأبو ظبي.
خلال فترة وجودها في اليمن، أعادت الإمارات – بمعزل عن حلفائها – تسليح المقاومة الشعبية في الجنوب، وجندت عناصر موالية لها، ودعمت المجلس الانتقالي الجنوبي وحولته إلى قوة منفصلة عن الجيش اليمني الرسمي، كما استعانت بالميليشيات الأجنبية وحصلت على خدمات مرتزقة أمريكيين وأفارقة بهدف تنفيذ مخططات الاستهدافات والاغتيالات الشخصية التي تتقاطع بشكل كبير مع الأجندة السعودية، هذا بخلاف شرائها لذمم وضمائر الكثير من الشخصيات السياسية والعسكرية في الجنوب، لخدمة الأهداف الإماراتية دون غيرها.
وبينما كان التحالف يستهدف معاقل الحوثيين، كانت أبو ظبي تركز جهودها على الشريط الساحلي الغربي المطل على البحر الأحمر، حيث جزيرة ميون وسقطري وميناء المخا وقرية “ذو باب”، والموانئ اليمنية ذات الموقع اللوجستي الهائل، وبذلك حققت الإمارات حلمها القديم في السيطرة على تلك الموانئ، بما يضمن لها بقاء نفوذها في هذا المجال الذي تمثل الموانئ اليمنية تهديدًا كبيرًا له.
لم تضع أبو ظبي أي خطوط حمراء في سبيل تحقيق هذا الحلم، ضاربة بكل المرتكزات العروبية عرض الحائط، فاستعانت بالاستخبارات الإسرائيلية وكانت السبب الأبرز في وضع دولة الاحتلال أولى أقدامها في الداخل اليمني، هذا بخلاف فتح الأراضي اليمنية للعديد من الميليشات والمرتزقة من كل بلدان العالم.
رغم التحذيرات المستمرة من استمرار الإمارات في تلك الإستراتيجية، فإنها أصرت على المضي قدمًا في تنفيذها، حيث وجدت في اليمن الفرصة الكبيرة لتعزيز النفوذ البحري في الشرق الأوسط في محاولة لتعميق حضورها الإقليمي وإقناع القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة بإمكانية أن تكون تلك الدولة النفطية الصغيرة البديل الأكثر جهوزية لقيادة المنطقة والحليف الأمين للحفاظ على مصالح تلك القوى في الإقليم.
وفي سبيل هذا الطموح الجامح داست الإمارات بأقدامها على حياة الأطفال والنساء والعجزة في اليمن، وهدمت بيوتهم، وشردت معظمهم، وحولت بلادهم الآمنة إلى مناطق طاردة للحياة، وأحالت حلم الأحرار إلى كابوس يؤرق مضاجعهم ليل نهار، مستغلة انشغال السعودية وبقية دول المنطقة وقواها التقليدية بمشاكلها الداخلية.
من بلد سعيدة إلى مأساة إنسانية
أسفرت الأجندات المتصارعة على مدار 13 عامًا من الثورة في تحويل اليمن إلى واحدة من أكثر بقاع العالم كارثية، حيث يشهد أكبر أزمة إنسانية في العالم بلغة الأرقام، فبجانب مقتل عشرات آلاف الأطفال، هناك 23.7 مليون شخص بحاجة إلى مساعدة إنسانية، من بينهم 13 مليون طفل.
كما أن 17.8 مليون شخص، من بينهم 9.2 مليون طفل، يفتقرون إلى المياه المأمونة وخدمات الصرف الصحي والنظافة الصحية، وما يقارب 2.2 مليون طفل دون سن الخامسة يعانون من الهزال، منهم 500 ألف على الأقل يعانون من الهزال الحاد، كما أسفرت الحرب طيلة عقد كامل على خلق جيل من النازحين، أكثر من مليوني نازح داخليًا.
تجاوز النزاع والاقتتال في اليمن منذ بداية الحرب في 2015 سقوفه المتوقعة، حيث تحول إلى مسرح كبير لحروب القوى الإقليمية والدولية، وساحة لتصفية الحسابات ومعارك بالوكالة، كما جاءت حرب غزة الأخيرة لتقلب كل الأوراق وتؤجج المشهد المشتعل بطبيعته بعدما وظفها الحوثيون لشرعنة وجودهم وتعزيز نفوذهم.
وبدلًا من حلم التوحد الذي داعب خيال الأحرار الذين خرجوا في 11 فبراير/شباط 2011، انقلب المشهد إلى مطالبة البعض حاليًا بضرورة تقسيم البلد إلى شمال وجنوب، كما جاء على لسان الصحفي الكويتي ورئيس تحرير صحيفة “السياسة” أحمد الجار الله، الذي طالب في تغريدة له سكان الجنوب بالانفصال عن الشمال المدعومين من إيران، محذرًا مما أسماه “تغيير الحوثيين ثقافة البلد الدينية”، مضيفًا “إنهم ينهبون البلد.. إنهم أدخلوا اليمن الشمالي في صراعات مع العالم وقتلى هذا الصراع ليسوا حوثه إنهم يمنيون أبرياء!!”.
١١ فبراير مرة أخرى
لم تكن ثورة ١١ فبراير ٢٠١١م خياراً ضمن قائمة خيارات متاحة أمام اليمنيين حينها، فقد كانت لحظة انسداد سياسي و تاريخي عاشها الجميع ليس في اليمن وإنما على امتداد الجغرافية العربية، كانت لحظة تاريخية بكل ملابساتها، وتعقيداتها ومألاتها اليوم، لا يملك أحدُ حق…
— nabil albokairi نبيل البكيري (@NAlbokairi) February 10, 2024
وفي مارس/آذار 2023 استبشر البعض خيرًا بانفراجة في الملف اليمني تهدئ نسبيًا من درجة حرارة الاقتتال والأزمات التي طحنت البلاد، حين بدأ مسار التقارب السعودي الإيراني بوساطة صينية، وهو التقارب الذي كان يعول عليه البعض في عودة الاستقرار للبلد الممزق بفعل الأجندات الخارجية، إلى دويلات هشة ممزقة.
لكن سرعان ما تلاشى هذا الأمل في ظل إصرار كل طرف على التمسك بورقة الضغط التي بحوزته تحسبًا لأي انتكاسة مستقبلية في ظل أجواء فقدان الثقة التي تخيم على الأجواء، وعليه واصل المشهد اليمني لهيبه صعودًا وهبوطًا، في محاولة كل الأطراف تعزيز نفوذها بما يضمن لها أكبر قدر ممكن من المكاسب عند الجلوس إلى طاولة الحوار.
ورغم انسداد كل الآفاق على مختلف المستويات، وتأزم المشهد سنة تلو الأخرى، ما زال أحرار اليمن يؤملون أنفسهم بتحقيق ثورتهم المجيدة لأهدافها يومًا ما، مذكرين بطهرها وقدسيتها وغاياتها السامية يومًا تلو الآخر، فيما تبقى الأجندات الإقليمية المعضلة الكبرى في مواجهة هذا الأمل، فهي رأس الأفعى التي أغرقت اليمنيين في هذا الوحل الدامي.