بدا سعيد مرتبكاً حينما حاولت الاقتراب أكثر من عالمه القادم منه، فهو لم يمانع أن يكون بمثابة المرشد السياحي في قاعة الترانزيت، لكنه وجد بعض المشقة في أن يكشف عن عالمه القادم منه في الدوحة. كانت الجلسة في قاعة الترانزيت هي الجلسة الثانية بيني وبينه، بعد أن قطعنا الرحلة من الدوحة إلى مسقط، وأنا قلق أن أقع في بلاد غريبة لا أعرف عنها شيئًا إلا الوجهة التى نويت الذهاب إليها “صلالة”، لكنه ابتدأ حديثنا، بدا طيبًا، ملامحه تشبه ذلك الشيخ الذى درسني القرآن، ثم تفرقت بيننا الأيام والأفكار والبلدان، وسافر إلى سورية للجهاد. أشعر بألفة مع وجوه من أحبهم، لذلك اندمجنا في الحديث، بعاميتي المصرية التى توشك أن تدخل صراعًا مع عاميات آخرى.
كشرط تعريف للقارئ الغريب، أحمل رواية حديث الصباح والمساء لنجيب محفوظ، أو كآلية دفاعية نحو مجهول لا قبل لي به، فأخلد إلى عالم الورق، كأن القارئ يحتمي بمملكته الورقية فيلجأ لما يعرفه عما هو مجهول بالنسبة إليه.
كانت الفكرة مجنونة وأنا يأكلني شبح السفر، أحمل هم إقامة وسط جدران في غربة تزداد في الأعياد، سيتوقف العمل وستتوقف الدراسة ثم أتفاجأ بذلك الفراغ الذي يظهر لك كشيطان يقتات على روح روحي.
دائمًا ما كنت أحلم بأن أنوي زيارة مكان فأزوره بعدها في أسرع وقت، كأن السفر نوع من الحلم ندخله دون استئذان؛ فالسفر هو انقطاع صيرورة الفعل لرحابة الحلم، وجمود اللحظة المتوقعة إلى أفق اللحظة المنتظرة. السفر هو مداعبة لوجودنا الأرضي إلى لحظة بين السماء والأرض فوق سحابة بين أغراب.
هكذا جاء قرار السفر مسرعًا، وشجعني صديقي المقرب ليكون نوعًا من أنواع المغامرة، وأوصاني بفيلم لطيف كنوع من زيادة الحماس، كان الفيلم Into the Wild. نويت السفر السبت وحجزت طائرة الأحد الساعة الثالثة، الدوحة -مسقط، مسقط – صلالة، ترانزيت في مسقط لساعة تقريبًا، لا أحمل إلا مبلغًا من المال وكتبي والملابس والكاميرا، وكأنه نوع من الطمأنينة بثها حكي سعيد عن الفرق بين صلالة والدوحة، وأنني سأستمتع بإقامتي في صلالة، غير أنه سألني: لماذا لم تأت في الخريف؟ صلالة جنة في الخريف!
في السفر نحمل هواياتنا الاختيارية، نختار أن نظهر بالصورة الأحب إلينا، ونُبعد عن صورنا ما ألفناه، أحببت أن أكون باحثًا اجتماعيًّا، لا يحمل إلا شحنة الشغف للتعرف على مكان جديد ومقابلة أشخاص جدد، هكذا اخترت صورة الصحفي الذى ينوى تسجيل الرحلة لصلالة والكتابة عنها.
ساعدني سعيد بدوره وهو يحكي لي معلومات تبدو عادية لكنها من ابن البلد، تمثل رؤيته هو لا رؤية الغريب، إنها تماثل صورته التى يود أن يظهر بها في مكان ما يجهله، في كتاب لن يقرأه، لكنه سيشعر بجرح معرفي عندما لا يفهمه الأغراب.
التقيت بسعيد على نفس الرحلة من مسقط – صلالة، وتفرقنا في الطائرة، لا أحمل إلا أحاديث نجيب محفوظ التى تبدأ في الصباح وتنتهى في المساء، وتبدأ غالبًا هذه الأحاديث بانتصارات صغيرة خطوها أبطاله، يصلون بعدها إلى قمة المجد والثروة أو الصحة أو المعرفة، ثم يقعون من فوق برج الطموحات إلى المرض ثم الموت، فترديه رصاصة في مظاهرة أو يموت على سريره.
دائمًا ما أشعر بمتعة حسية في صعود الطائرة، كأن لعبة والصعود والهبوط بمثابة أرجوحة، وإمكانية لا نستطيع ملامستها في حضورنا العادي، نتلمسه فقط في السفر، إنه يشبه ركوب البحر، ومناكفة الطبيعة، ومعاكسة القوانين التي اعتدنا على الحياة بجانبها.
لا يوجد شيء طريف في الطائرة بين مسقط وصلالة، إلا ذلك الشاب الطريف الذي جلس بجانبي متخلصًا من تكلف خليجي، فقدومي من الدوحة جعلني موضع تساؤل لذلك الشاب. سألني عن تكاليف الرحلة، وأين نزلت؟ كان مهتمًّا بأن يعرف عني، شعرت أنني أمام زميل مصري، عندما مرت المضيفة الجميلة (هل كل المضيفات جميلات؟!).
ضحك وقال لي: هي حلوة أبغي اتزوجها! أعجبني حماسته وخفة دمه، وطلبه وجبات زائدة، شعرت ساعتها أن الطيران الداخلي يشبه الأتوبيس الذى كنا نأخذه من طنطا إلى القاهرة، بحسن الأدب والحيلة تستطيع أن تحصل ما تريده.
وصلت صلالة، ووجدت في انتظاري مراد الذى ظننته شخصًا يريد توصيلي، إلى أن ظهر حامد، وتوجهنا إلى محل للفطائر يديره سوداني ويعمل به مصري. لا أستطيع تجنب الحديث عن لذة وجمال الطعام الشهي، انضم لنا عجوز سوداني في المطعم، أخذ يعاكس صديقًا مصريًّا له، ويتحرشون ببعضهم في النكات ولا يكفون عن الضحك والسخرية، كأنهم يغلبون بالضحك كدّ يومهم ومصاعب حياتهم، فالمدرس المصري يطلق نكات يسخر فيها من السودانيين، ويحكى عن الطالبة التى سألت: يا أستاذ، همّا كل المصريين بيرقصوا؟! (بعد أن رأت تلك الأفلام التى ترقص فيها الفتيات بخلاعة “موجة أفلام السبكي”).
أكملت العشاء بعد جوع وتعب من السفر والتنقل بين طائرتين، أكلت فول وفطائر، الفطائر لذيذة والحكي جميل، لا يوجد شيء سرّي، فقط حكي عن كد الناس وسفرها بحثًا عن لقمة العيش. لم يفت السودانيين أن يلفتوا نظري لما بين المصريين من قلة اهتمام في الغربة؛ فالمصري لم يلتفت لي رغم أنني تعمدت الكلام باللهجة لكي أفتح قناة تواصل معه، لكن السودانيين كانوا أنجح في بناء تواصل بين بعضهم البعض. ما أحب أن يناديك السوداني بابن النيل، كأنه يسبغ علي هوية كنت نسيتها، نهر عظيم، تصبح ابنه يذكرك بمكانك ونبعك، بعد أن تجتمع كل الظروف السيئة على هذا الوطن لتسحب من الإنسان فرصته بأن ينتمى لوطن يحترم إنسانيته !
ما أجمل أن تلتقي في هذه الرحلات بهذه العالم البسيط الذي يكد ليبحث عن لقمة عيشه، ثقافته هي خبرته اليومية، كلمة يسمعها في الراديو وهو متوجه إلى العمل، أو مقالة في صحيفة ينتزع وقت قرائتها في أوقات الفراغ في عمله.
في رحلة العمرة تقابلت مع نماذج بشرية تستحق الحكي عنها، قابلت محمد إلياس من نيجيريا وحمسني للتعرف على عالم إفريقيا وزيارة نيجيريا، وإبراهيم من النوبة (مصري يعمل سائقًا بالدوحة)، وفتحي يعمل سباكًا، كأنهم فتحوا لي عوالم متوازية متجاورة في ذات المدينة لا أعلم عنها شيئًا. كانت لأحاديثهم البسيطة متعة لا توصف؛ فهي تحتوي على معنى المكابدة والكدح الإنساني، وما تحمله من آثار صراع جواني بين مرضاة الرب وبين اتباع الهوي. وبعد أن تبسط الحديث بيننا لم يكتمني فتحي وحكى لي عن شوقه لزوجته وطفلته الصغيرة، كان يؤكد أن الرجل الذى جرب متعة اقتراب المرأة من حياته ثم ابتعادها عنه لظروف الانفصال أو السفر يتعب كثيرًا؛ لأنه جرب متعة القرب وما تضفيه المرأة من ترتيب وجمال على حياة الرجل.
لم يكن يجمع هذه الأحاديث إلا بساطتها الشديدة وصدقها الخالص، وكنت أشعر بالسرور أن أكون موضع ثقة لغريب، ليفتح لي حكايته وأسمع منه بكل ما أوتيت من صبر على الاستماع والإنصات، مع شعور صادق تملكني بأن هذه الحياة جديرة بالاستماع والإنصات. إننا لا نعلم شيئًا عن حياة الأغيار، نسكن في ذواتنا ولا يجاورنا فيها إلا من نعرفه، أما من لا نعلم عنهم شيئًا فيصيرون أرقامًا أو لا شيء.
انتهت الليلة في صلالة بغرفة متواضعة، لكنها احتوت على الحاجات الأساسية، دفعت أجرة أسبوع، ورتبت أغراضي، ووجدت في النوم فرصة لاكتساب طاقة بعد إرهاق السفر.
يتبع…